هل تعلم كيف مات الظاهر بيبرس؟ هل قتل بيبرس نفسه؟
هل تعلم كيف مات الظاهر بيبرس؟ هل قتل بيبرس نفسه؟ 1-976
في طريق حلب دمشق منتصف عام 1277 ميلادية، كانت القافلة المملوكية السلطانية تسير بصمت نحو دمشق عاصمة الشام للسلطنة المملوكية، حاملة النذير المريع: السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري يحتضر. ولكن من كان يتخيل أن سلطان البرين وخادم الحرمين الشريفين، قاهر المغول وكاسر الفرنجة، عزيز مصر والشام وجزيرة العرب والأناضول، سيفتك به مرض تافه كالإسهال؟ لم تنل منه جحافل المغول قبل وبعد عين جالوت، ولا كتائب الفرنجة بكونتاتها ومقدمي اسباريتها وداويتها، ولا حتى مؤامرات المتآمرين والمنشقين من المماليك، ونالت منه طفيليات البطن وأدواء الأمعاء!
كان اسمه على مسمى، فبيبرس تعني الفهد، وكان مثله سريعًا، قويًا، مثابرًا، صلبًا. يذكر بعضهم أنه في بعض المعارك الصعبة كان يختفي فجأة، ثم يظهر عائدًا يشق الأفق كمارد أسطوري على صهوة جواده وهو يحمل خوذة أو درع أحد فرسان العدو، وربما بضعة من باب الحصن الذي يحاصرونه. كيف ومتى غافلهم واختفى ليخترق جحافل العدو ويعود سالمًا؟ لا أحد يدري. يحكي آخرون أنه كان في وقت صفائه يتسلى بالسباحة في النيل مرتديًا كامل عدته ودرعه الثقيلة الحربية، جارا وراءه طوفًا تقف عليه بضعة فرسان بكامل زيهم.
عودهم أن يكونوا مثله فهودًا سريعة خفيفة الكر والفر، يظهر جيشه أمام حصون الفرنجة بالشام، ينهى الحصار بفتح أو هدنة مشروطة لصالح الجيش المصري، يختفي ليباغت بعض المتآمرين في سوريا، يسير أسطولًا إلى قبرص، يسحق تمردًا في النوبة، يدمر خطة للمغول وينهيها بضم الأناضول، يطوف ببلدان الشام لينظم أحوالها، يزور الأراضي الحجازية المقدسة، يدير الحكم من قلعة الجبل بالقاهرة، يفاجئ العمال في منشآت على ضفاف النيل خالعًا ثيابه الملكية مشاركًا البنائين حمل التراب والحجارة فوق أكتاف حديدية لوحتها الشمس، ينظم حركة البريد بين أطراف مملكته حتى تصل الرسالة من القاهرة إلى دمشق في أيام ثلاثة لا غير. يقسم مهام الحكم إلى مؤسسات ومناصب لكل منها وظيفته وفق قانون صارم، ينظم السلطة القضائية فيجعل لكل مذهب قاضيه تيسيرًا على الناس، يعيد إحياء الأزهر كمؤسسة علمية، فالسلطان معروف بعدائه الشديد للجهل، حتى الخواطي والبغايا ينالهن نصيب من نشاطه، فيقبض عليهن ويرتب لهن الوعظ الرفيق والاستتابة ثم يجهزن ويزوجهن ليكفيهن الاضطرار لتجارة الجسد. لا أحد يعرف متى وكيف ينام، ما هي تلك الروح الخارقة التي تتلبسه لتجعل منه كتلة من الحماسة تتأجج بالنشاط؟ هل توارثها من أجداده المنحدرين من قبائل القوقاز المقاتلة، أم بركة دعاء المسلمين؟ يقال إن البعض ينال نصيبًا من اسمه، لكن هذا الرجل بيبرس الفهد، اسمه هو الذي نال نصيبًا منه. والآن يرقد هذا الفهد المارد السلطان القدير فوق محفة تسابق الموت إلى دمشق، وفي مسيرة يوم واحد من المدينة يسلم السلطان روحه إلى بارئها.
هل تعلم كيف مات الظاهر بيبرس؟ هل قتل بيبرس نفسه؟ 11048
إلى جانب الخيمة السلطانية اجتمع قادة المماليك في صمت وحزن. قطع قلاوون الصمت قائلًا: "ما كان للأطباء أن يطيعوه في نزع رأس ذلك السهم في المعركة الأخيرة".
اعترض سنقر قائلًا: "تشك بالأطباء؟!"
أجاب قلاوون: "لا، لكن نزع النصل في أرض تكثر فيها الأسقام ليس بالقرار الحكيم".
تدخل بايرلك بالتركية القفجاقية التي كان يدور بها الحوار: "لقد حباه الله جسدًا قويًا، والواقع أني أرى غير ذلك من الأسباب". وبعد حوار حاد بين قادة المماليك، التفت إليهم قلاوون قائلًا بصلابته: "السلطان في حقيقة الأمر قد يكون قتل نفسه".
قبل ذلك اليوم بأسبوعين في دمشق، أمر السلطان ساقيه أن يقدم له شراب القمز، لبن الخيل المخمر المفضل لدى المماليك، فهذا شرف عظيم. فما بالك بأن يقدم لك السلطان بنفسه الشراب في الكأس السلطانية؟ تناول الأمير القاهر ابن المعظم عيسى الأيوبي الكأس من يد السلطان. لقد اطمأن أن حركة كهذه تدل على أن الأخير قد رضي عنه بعد سخطه السابق. لقد شرب الرجلان من الشراب ودخلا في حديث ودي، ثم لمح قلاوون بيبرس وهو ينظر في كأسه، ثم يرمق بطرف عينيه ضيفه الأمير القاهر، ويعيد النظر إلى الكأس. هناك شيء غير اعتيادي. السلطان تبدو عليه علامات التوعك. يقوم قلاوون من مقعده متظاهرًا بالهدوء متجهًا نحو بيبرس. هو الوحيد الذي يمكن أن يضع يده على كتفه. يجذبه بيبرس قائلًا له في أذنه: "سأفض المجلس، ساعدني للانتقال #لغرفتي، لكن دون أن يشعر أحد. أرسل لي الطبيب".

قال الأمير سنقر الأشقر: "كلنا يتذكر تلك الواقعة، وكلنا بلغتنا أقاويل أن السلطان قد احتال للتخلص من الأمير القاهر بوضع السم في كأس شرابه، ثم تبدلت الكؤوس عن طريق الخطأ، وشعر السلطان بذلك حينما أحس بالسم يسري في أحشائه، لكنه كتم الأمر كي لا تنكشف خطته، لكن القصة غير مقبولة وساذجة".
وهكذا بقي سبب موت السلطان لغزًا مثيرًا كما كانت حياته.


المصدر:
كتاب دم المماليك - النهايات الدامية لسلاطين المماليك