إضاءات حول التقليد الأمازيغي ثْعانصارث
إضاءات حول التقليد الأمازيغي ثْعانصارث 13-698
عندما نعاين شعوب العالم وهي تحيي تقاليدها وتحتفل بها دون انقطاع ونلاحظ ما تضفيه هذه الاحتفالات على حياتها من فرح ومعنى وما تمنحه لثقافتها من قوة وحضور، نتذكر أنه كانت لنا تقاليدنا التي كنا نحتفل بها إلى عهد قريب ونحس بالحسرة على ضياعنا كما نستشعر حاجتنا الكبيرة للفرح الجماعي الذي سرق منا في غفلة أو يقظة. أحد هذه التقاليد التي لا زال البعض منا يتذكرها بالكثير من الحنين هي تقليد العنصرة الذي يحل يوم السابع من يوليوز من كل سنة. فما هو هذا التقليد؟ ما هي دلالاته؟ وكيف كان يحتفل به؟
* الاسم والمكان:
هذا التقليد يحتفل به في جل بلدان شمال أفريقيا ويسمى في أغلبها بالعنصرة. في البعض الآخر، يسمى ب "ثاشعالث" من فعل الاشتعال. في الغالب، كلمة "ثعانصارث" هي من أصل عربي "العنصرة". لا أحد يعلم بالتدقيق معناها عدا عن تأويلات مختلفة بعضها مبني على الأساطير. استفساري عن هذا التقليد ودلالاته يعودان لسنوات التسعينات. شمل الاستفسار ست نساء ورجلين من مناطق الرواضي، تلايوسف، ازمورن وادسوليين، كلها مناطق تنتمي لقبيلة ابقوين حيث لا تزال ذكرى هذا التقليد حاضرة بقوة، بل لازال البعض يحييه.
- حول دلالة الاسم، حصلت على تفسيرين:
– عيشة البوتزاغتي البالغة من العمر عند استفسارها 90 سنة أفادت أن الاسم أتى من فعل "اعنصر" بالأمازيغية الذي يعني النضج إحالة على نضج بعض الفواكه في تلك الفترة. – عمر أقندوش متوفى، كان عمره عند استفساره 80 سنة أفاد أن كلمة العنصرة أصلها عربي وهي تعني عين سارة وتشير إلى أسطورة مفادها أن امرأة تعتنق الديانة اليهودية اسمها سارة كانت ثاقبة البصر وقد أوصيت من قبل قومها بمراقبة قدوم العدو للبلدة لكنها خانت القوم ولم تقم بواجبها وتم إحراقها كعقاب لها. يعتقد أن إشعال النيران هو بمثابة إحياء لهذه المحرقة. تبقى هذه مجرد تأويلات تحتاج إلى الدراسة والتمحيص. لكن مهما يكن فما يهم في الأمر هو أن تقليد ثعانصارت تقليد تم إحياؤه في العديد من المناطق الأمازيغية وليس بمنطقة معينة فقط. وهذا يعني أنه تقليد أمازيغي متوسطي تم توارثه واحترامه لقرون وشكل جزءا من حياة الإنسان الأمازيغي. تؤكد ذلك من جهة الدراسات والأبحاث التي أجريت في هذا المجال ومن جهة ثانية، شهادات الساكنة التي تتذكر بشكل جيد هذا الاحتفال في جل ربوع تامزغا. جرد بسيط لعناوين بعض الكتب كفيل بالتدليل على ذلك: "المجتمع المسلم في المغرب، السحر والدين في شمال أفريقيا" لإدموند دوتي، كتاب يتحدث عن الطقوس المرتبطة بمعتقدات سكان شمال أفريقيا القديمة ومن بينها الطقوس الممارسة في حفل العنصرة. – "العنصرة، نيران وطقوس انقلاب شمس الصيف في بلاد البربر" ألبير بيل. – " أسماء وطقوس نيران الفرح لدى بربر الأطلس المتوسط والكبير" لإميل لاؤوست. – " أبواب السنة، طقوس ورموز. موقع الجزائر في التقاليد المتوسطية". جان سيرفيي.
* أبعاد ودلالات تقليد ثعانصارث:
منحت لطقوس العنصرة العديد من القراءات حول أبعادها ودلالاتها، هذه فقط بعضها. – أنه تقليد مرتبط بمعتقدات الإنسان الأمازيغي حول الأرض والطبيعة وعلاقته بهما. يقول دوتي في هذا الصدد: "هذه الحفلة [...] مرتبطة بالتصورات القديمة للإنسانية حول سيرورة الأشياء الطبيعية" [1]. تصور مبني على احترام كبير للطبيعة وإبرام عقد غير معلن معها قائم على العطاء المتبادل. ينتج عن ذلك أن تعامل الناس مع الطبيعة لايتم دون طقوس. – احتفالات الأمازيغ قبل الدينية هي بشكل عام مرتبطة بفصول السنة. الانتقال من فصل لآخر لايتم في صمت، بل يتم عبر طقوس معينة لاعتبار الاتتقال من فصل لآخر حدث هام لابد من الوقوف عنده واستجداء وسائل تحقيق مرور مرن واسترضاء مستقبل جيد. تأتي العنصرة في فترة الانقلاب الشمسي في الصيف وهذا الحدث يعتبر بمثابة بوابة تدخل الناس إلى فصل جديد هو فصل الصيف. كما يعتبر انقلاب الشمس في شهر دجنبر بمثالة بوابة تدخل الناس لفصل الشتاء. من هنا تسمية جان سيرفيى لاحتفالات يناير والعنصرة بمثابة بوابتي السنة في كتاب " أبواب السنة، طقوس ورموز. موقع الجزائر في التقاليد المتوسطية". – هذه الطقوس تأتي أيضا للإعلان عن انتهاء موسم فلاحي أو بداية موسم آخر. فثعانصارث تعلن عن قرب انتهاء موسم الحصاد وجمع محصول الأرض وهي بذلك تنتمي للجدول الفلاحي المعتمد عليه لحد الآن في التقويم من طرف ساكنة البوادي بشمال أفريقيا. سيرفيي يشرح لنا في كتابه هذا كيف أن كل فصل له أشغاله وتخوفاته وأن الفلاحين يحيطون هذه الأشغال بحركات رمزية من شأنها تسهيل مرور تلك الأشغال في سلام. (سيرفيي، 1966) نستنتج من هذا أننا بصدد تقليد سابق عن الديانات السماوية رغم أن هذه الأخيرة عملت على إدماج بعض هذه الطقوس في حفلات ذات طابع ديني كما هو الحال بالنسبة لعاشوراء وعيد الأضحى في شمال أفريقيا أو أضفت على الحفل بأكمله طابعا دينيا كما حدث للمسيحية مع حفل سان جان. ربما كان في الأصل طقسا شمسيا يحيل لعبادة الشمس، لكنه مع مرور الوقت اتخذ أبعادا أخرى مرتبطة أكثر بالأرض وفصول السنة. من المعروف أن طقوس الماء والنار تقام خلال فترات متعددة من السنة (يناير، عاشوراء، عيد الأضحى، ...) وهذا حسب إميل لاووست ربما يدل على أن طقس النار لم يحافظ على دلالته البدائية.
.[2] كيف يحتفل بثعانصارث؟ هناك ثلاث عناصر رئيسة تؤثث فضاء هذا التقليد الأمازيغي العريق: الماء والنار والدخان وفق طقوس التطهير، الوقاية والاسترضاء. – الماء: للماء في ثعانصارث قيمة كبرى لدى الناس فهو يمتلك قوة تطهيرية واستشفائية. لذلك يحرص الناس في هذا اليوم غلى الاغتسال بأي وسلة أتيحت لهم: في البحر، في الأنهار أو في السواقي والعيون. لكن يعطي للمياه الجوفية قيمة أكبر لأنها آتية من رحم الأرض. (دوتي، 1909). ماء ثعانصارث ماء مطهرة من كل ما هو سيئ. المرض، سوء الحظ، الشر، الخ. تحكي محجوبة أنهن كن يفقن في الصباح الباكر، يصطحبن الأطفال والبهائم ويذهبن للاغتسال في البحر. وأوردت حبيبة أوطاح خاصية أخرى للماء وهي إزالة الخوف: "أمان ن ثعانصارث تكسن ثوذايث". عادة الاغتسال هذه ذكرها القديس أغوستين عن أمازيغ زوارة بليبيا خلال احتفالهم بأووسو وهو احتفال شبيه في طقس الماء هذا بثعانصارث رغم الاختلاف في التوتيق الزمني للحفلتين. يتساءل لويس وسيرا في دراسة لهما لتقليد أووسو إذا لم يكن هذا الأخير هو نفسه تقليد العنصرة وقد انتقل زمنيا بفعل ارتفاع درجة الحرارة في فترة ما يعرف بالصمايم.[3] – النار: من عادة الناس في هذا اليوم إشعال النيران في كل مكان سواء كان ذلك في البوادي أو في المدن. في كل زاوية وساحة وحتى في البيادر. نار يقوم الناس بالقفز حولها طلبا للوقاية من كل عوادي الزمن. في بعض بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، يلقي الناس بهذه النيران بكل ما يرمز بالنسبة لهم لسوء ويعبرون في الوقت ذاته عن متمنياتهم وهم يشاهدون السوء يحترق. أورد لاووست أن أهل ايدا أزدوت بدورهم يقومون بهذه هذه العملية برمي حجر في النار قائلين "غيفل كيم كولو ما ايترتن". ويشرح لنا أيضا ما يقوم به سكان نتيفة في يوم ثعانصارث قائلا: "تشعل النيران على بعد خطوات من عتبة المنزل ولا تتجاوز طول رجل، يتم إطعامها بخشب العناب الجاف [..]. يقوم الرجال بالقفز فوق النار ثلاث مرات قائلين – أنا أقفز هذه النار كما سأقفز نار السنة القادمة- أما النساء والرجال والشيوخ فيعبرونها عندما ينخفض ارتفاعها. تعبر النساء النار وهن يحملن أطفالهن بين ذراعيهن"[4]. كتلة النار هذه تسمى بالريف "ثافكيرث"[5] وهي كلمة آتية من اللاتينة[6] ، تم تداولها أيضا عند أمازيغ زمور حسب لاووست (لاووست، 1921). – الدخان: يقوم الناس أيضا في هذا اليوم باستعمال الدخان للاستشفاء واسترضاء الخير. سواء كان دخان النيران التي أشعلوها باستعمال الخشب كحطب أو الدخان الناتج عن إشعال الأعشاب المتوفرة في تلك الفترة وتبخير الأشجار والبهائم بها." يعرض الناس أنفسهم للدخان ويعرضون لها بشكل خاص الأطفال، يدفعون بها نحو البساتين والمحاصيل ويقفزون حولها"[7]. حتى رماد النيران يتم التبرك به في مثل هذا اليوم، يخبرنا إدموند دوتي أن أهل الريف كانوا يطلون به ناصية الشعر التي كانوا يتركونها خلف الرأس.[8]. السيدة حبيبة أوطاح والأخت ياسمين سمية بن السي علي (نقلا عن جدها) أكدتا هذه الممارسة المتعلقة بدخان الأعشاب. تقول ياسمين. "حكى لي جدي أنهم كانوا يشعلون النار في أعشاب الموسم ويستنشقون رحيقها ودخانها ملأ صدورهم كي يشفوا من جميع الأمراض وبحثا عن البركة". يحدثنا لاووست عن تقليد الدخان قائلا: " أهل زمور بالخميسات يسمون نار انقلاب الشمس ب تاشعالت، يحضرونها في زريبة الخرفان. يشعلونها عند المغيب ويطعمونها بخشب العناب، قضبان البروق، الفحم والنباتات البلسمية وفق عملية سائدة في كل شمال أفريقيا. الرعاة يقومون بتمرير خرفانهم حول الدخان. فهناك بالفعل بركة في الدخان. الناس المصابون بمرض العيون يعرضون أعينهم لهذا الدخان على أمل شفاء مرضهم"[9]. الأكلة المستهلكة خلا ل هذا اليوم في بدورها أكلة لها دلالتها إذ أنها متكونة من محصول السنة من حبوب "الأكلة الأولى من هذا المحصول" وقطاني مطبوخة في الماء، تسمى في الريف امشياخ أو ايمشيخن. وهي عادة سائدة في جل مناطق شمال إفريقيا. ربما العديد منا قد لاحظ الطريقة الغريبة التي يتذوق بها آباؤنا وأمهاتنا فيما يشبه الطقوس الفواكه الموسمية لأول مرة بالبسملة ومتمنيات الصحة والعافية "بسمي الله آن قاس ثونضيث ن جذيذ". هذا يدل على أن علاقة الإنسان الأمازيغي بالأرض علاقة مميزة، هو عارف بقيمة ما تعطيه ولا يستهين به أبدا، بل يخاف فقدانه. يقول سيرفيي في هذا الصدد " أطعمة الحياة اليومية ليست عنصرا سلبيا في دورة الحياة، إنها بمثابة مدلولات" لذلك يضيف أن لكل طقس متعلق بالحياة الفلاحية أكلاته الخاصة [10] يلخص دوتي دلالات هذه الطقوس في قوله. " تصبح النار وسيلة للتواصل بين الشمس النافعة، الإنسان والمنتوج الفلاحي. لضمان استمرار هذا التواصل، يتعمد الإنسان استهلاك قسط من المنتوج الجديد ويدخل بذلك في تواصل حميمي مع النبات"[11]. وبصدد الحديث عن النبات تعد ثعانصارث مناسبة جيدة لتلقيح الأشجار كشجر التين "أسيكر ن الدوكار" ويعزز التلقيح برشها بتراب الأرض. أورد السيد عمر أقندوش دعاءا كانوا يقولونه بالمناسبة "اللهم صلي على سيدنا المختار، تراب العنصرة خير من الذكر". عدا عن هذه الأبعاد المرتبطة بمعتقدات شعبية فإن الناس يستغلون هذه المناسبة لإضفاء أجواء الفرح الجماعي على حياتهم. ليس عبثا تسمية إميل لاؤوست لنيران ثعانصارث بنيران الفرح حيث يقول: " حافظ برابرة المغرب على العادة القديمة المتمثلة في إشعال نيران الفرح والتي هي مماثلة للنيران المسماة بنيران سان جان التي لازال فلاحوا فرنسا وأوروبا يشعلونها بمناسبة انقلاب شمس الصيف"[12]. ما يميزها أنها تتم بشكل جماعي يحوم حولها الساكنة قفزا وفرحا ورقصا، يرافق ذلك عادات أخرى كإحراق عظم المشماش في جمر النار وتحويلها لكحل تزين به البنات عيونهن طلبا للشفاء ولحسن الحظ. خدوج التي تنتمي لجماعة الرواضي أخبرتنى أن شابات القرية في المساء وبعد الانتهاء من قفز النيران يلجأن لمنزل أحد أرامل القرية ويحيين معها أمسية الحفل لإضفاء البهجة على قلبها.
إضاءات حول التقليد الأمازيغي ثْعانصارث 13-699
— خاتمة:
هذا التقليد وغيره اختفى من محيطنا الثقافي الشعبي لعدة أسباب بعضها متعلق بالاستلاب الذي تعرضنا له على يد و سائل الإعلام عبر هيمنة و تأثير قتوات الإعلام على حياتنا، بعضها متعلق بحملة مضادة لمثل هذه التقاليد بدعوى أنها تعد شركا بالله في حين أنها مورست دائما من طرف نساء و رجال مؤمنين و مؤمنات لا يبتغون من و رائها سوى الخير و الفرح. كانت مهمة إشعال النار في العديد من المناطق تسند لطلاب العلوم الدينية ويشرف عليها فقيه القرية لمكانة هؤلاء بين الناس. كما أنها لم تساهم في إبعاد الناس عن دينهم أوفي زعزعة إيمانهم وبعضها مرتبط بالتهميش العام الذي طال التعبيرات الثقافية والهوياتية للأمازيغ. عدم الاعتراف الطويل باللغة والثقافة الأمازيغيتين أنتج إهمال هذه التقاليد وعرضها للاندثار. مع ذلك فبوسع أصحاب هذا الإرث الثقافي إحياءه من جدبد كما حصل ولو بشكل نسبي وعصري مع احتفالات رأس السنة الأمازيغية. شعوب العالم المتقدمة لازالت تحتفظ وتعتز بتقاليدها القديمة، عنوان عراقتها الحضارية وقوتها.
لا ترى في ذلك تخلفا، بل وتلجأ لتقاليد الشعوب الأخرى لإغناء مشهدها الثقافي ونحن نمتلك تراثا غنيا كان في الأمس القريب حاضرا بيننا وتخلينا عنه.
أسماء أوطاح
[1] "المجتمع المسلم في المغرب، السحر و الدين في شمال أفريقيا" لإدموند دوتي. ص، 566 [2] إميل لاووست أسماء وكقوس نيران الفرح لدى برابرة الأطلس الكبير والمتوسط، http://archive.org/stream/hesprisarchive01raba/hesprisarchive01raba_djvu.txt [3] Awussu, A. Louis et L. Serra. http://encyclopedieberbere.revues.org/... لاووست، نفس المصدر السابق [4] [5] tafggirt focarium [6] "المجتمع المسلم في المغرب، السحر و الدين في شمال أفريقيا" لإدموند دوتي، ص 566 [7] المصدر السابق [8] لاووست، نفس المصدر السابق [9] أبواب السنة، طقوس و رموز. موقع الجزائر في التقاليد المتوسطية. جان سيرفيي, باريز، روبير لافونت، 1962، ص.116[10] دوتي، المصدر السابق، ص. 572[11] لاووست، المصدر السابق[12]

بقلم: أسماء أوطاح


المصدر : مواقع إلكترونية