أيُّوب البابلي
أيُّوب البابلي 1--366
يقول عالم الأشوريَّات الألماني " فريدريك ديليج Friedrich Delituzch " عن بابل والتوراة :
" إنَّ سفر التكوين غارقٌ في ذنوب الإنتحال " .
ويشير إلى أنَّ الديانة اليهوديَّة كما هي معروفة الآن قد ولدت أثناء الأسر البابلي (٥٩٧- ٥٣٨ ق. م ) ، وأنَّ الأسفار الأولى التي تبدأ بها التوراة قد أخذت شكلها الذي جاءتنا به من خلال وجود اليهود في الأسر ، ما مكّن رجال الدين اليهود من الإطِّلاع المباشر على الوثائق المسماريَّة المدوّنة بالسُّومريَّة والبابليَّة ، ومنها قصة أيُّوب التي عرفت بقصيدة "العدالة الإلهيَّة" عند البابليِّين ، وكانت على النحو التالي :
الحكيم :
------
إنَّ " نارو"، ملك الآلهة الذي خلق بني البشر
وصاحب العظمة"زولومار" الذي استخلص طينتهم
والسيِّدة " مامي " التي صوَّرتهم
جعلوا قول الباطل من نصيب البشر
لقد منحوهم وإلى الأبد الكذب دون الصِّدق
فهم يتحدَّثون بالإجلال عن الثريِّ
فيقولون عنه : " إنَّه ملك وأنَّ الثراء يصاحب ظلَّه في كلِّ مكان " ،
ولكنَّهم يؤذون الفقير وكأنَّه لصٌّ
إنَّهم يفترون عليه ويتآمرون لقتله
ويجعلونه يقاسي صنوف العذاب كما لو كان مجرماً
ويأتون به ليلاقيَ حتفه المُفزع ثمَّ يخمدون أنفاسه
كما تخمد النَّار .
المُعَذَّب :
------
إنَّك لرجلٌ رحيمٌ يا صديقي ،
ساعدني : تفحَّص علَّتي واعرفها !
إنَّني رجلٌ متواضعٌ ، عاقلٌ ومُتضرِّعٌ
لكنَّني لم أجد عوناً في يومٍ ما
فإذا ما سِرتُ في ساحةٍ كنت متواضعاً
صوتي واطيءٌ ، و كلماتي خافتةٌ ،
لا أرفع رأسي ، ونظري لا يفارق الأرض ،
لكنَّني كالعبد لا أستطيع أن أتعبَّد مع أصحابي
فليمدَّني الإله الذي خذلني بالعون
وَلْتُرِني الآلهة التي هجرتني الرَّحمة
لقد تخلّى عني إلهي واختفى
وخذلتني إلهتي وابتعدت عنِّي
وفارقني الملاك الصّالح الذي كان يُلازمني
والرُّوح حارستي لاذت بالفرار قاصدةً غيري
ذهبتْ قوَّتي ووهنتْ رجولتي
راحتْ هيبتي وولَّتْ مِنعتي
فألٌ مُخيفٌ يحدق بي من كلِّ جانب .
******
والملكُ لحم الآلهة وشمس شعبه
اغتاظ قلبه عليَّ ولم يسكن
ورجال الحاشية يتآمرون عليَّ
لقد اجتمعوا فيما بينهم وقالوا بهتاناً ...
أنا الذي كنت أمشي مشية النُّبلاء تعلَّمتُ كيف أنسَلُّ خِفيةً .
أنا صاحب المقام الرفيع صرتُ كالعبد
وصرتُ بين أهلي على كثرتهم وحيداً كالمنبوذ
لا أحد يستمع إليَّ في الطّريق
ولا عين تنظر إليَّ إذا ما دخلت القصر
مدينتي تعبسُ فيَّ كما لو كنت عدوّاً ...
لقد صار صديقي عدوِّي
ورفيقي صار شيطاناً ماكراً
صاحبي يُدينني بشدَّةٍ
وأصحابي يصقلون أسلحتهم باستمرار
أعزُّ أصدقائي يُعَرِّض حياتي للخطر
وعبدي يشتمني علناً في المجلس
النَّاس تُشَوِّه سمعتي
ومعارفي حالما يرونني يعبرون إلى الجانب الآخر
أهلي يعاملونني كأنَّني غريبٌ ...
إنَّني أنا الرجل المنهوك ، عصفتْ بي ريحٌ عاتية
فها هو " مرض الهُزال " ينقضُّ عليَّ
وها هي " الريح الشَّرِّيرة " تلوح في الأفق
و " وجع الرأس " يثب من سطح العالم الأسفل
و " السُعال الشِّرِّير " يتحرَّك من موضعه في مياه العمق ،
و " الشبح العنيد " يتحرَّك من موضعه في " ايكور " .
لقد جعلتْ الحمَّى تدبُّ في أطرافي وجعلتْ بدني يرتجف
وحطَّمتْ قواميَ الطويل مثلما تُحنى حزمة القصب ...
وتلبَّس الشيطان " آلو " بجسدي كأنَّه الثَّوب
والنَّوم يُخيِّم عليَّ ويغطِّيني كالشبكة
عيناي تنظران ولا تُبصران
أذناي مفتوحتان ولا تسمعان
لقد استحوذ الوهن على جسمي
ونزلت الرَّجفة في لحمي
وأمسك الشَّلل يديَّ
وحلَّ العجز في ركبتيَّ
حتّى نسيت قدمايَ الحركة .
******
شَرَكٌ يُوضع على فمي
مزلاجٌ يغلق شفتيَّ
سُدَّ " بابي " وقُطع " موردي "
طال جوعي وانكتم صوتي
قبري نتن الرَّائحة
أجل : لقد طالت بلواي
وتغيَّر وجهي لقلَّة الطّعام
وترهَّل لحمي وانحسر دمي
تفكَّكت عظامي وهي لا يكسوها سوى جلدي
التهبت أنسجتي وأصابها المرض
إنَّني ألازم سرير العبوديَّة ، فالخروج عذاب !
لقد صار بيتي سجني :
شلل يديَّ يغلُّ بدني
عرج قدميَّ يقيِّدني
أحزانيَ مؤلمةٌ وجرحيَ بليغٌ
سوطٌ يطرحني أرضاً ، والضربة شديدة
رمحٌ يطعنني ، مهمازٌ صارمٌ
ومعذِّبي يريني صنوف العذاب طول النهار
فهو لا يتركني لحظة أستريح
تفكَّك عصبي من كثرة الإلتواء
امتدَّت أطرافي وتبعثرت
أبيتُ في مربضي مثلما يبيت الثعلب
وأتمرَّغ في برازي مثلما تتمرَّغ الشاة
آلامي عرَّتْ كاهن التَّعزيم
وفألي جبر العرَّاف
فلا العزَّام قادرٌ على تشخيص مرضي
ولا العرَّاف يُحدِّد وقتاً لسقمي
لا إلهي يُقدِّم العون فيأخذ بيدي
ولا إلهتي ترحمني بالسَّير إلى جانبي
قبريَ بالإنتظار ولوازم الدَّفن جاهزةٌ
لقد انتهت المناحة عليَّ حتّى قبل أن أموت .
******
وبعدما صفا ذهن سيِّدي
وسكن قلب " مردوخ " الرحيم ...
وبعد أن قال : " الخلاص لك يا من أنت في الكرب العظيم "
فإنَّه جعل الرِّيح تحمل أذاي ...
فطرد " الريح الشرِّيرة " إلى الأفق
وأخذ " وجع الرأس " إلى سطح العالم الأسفل
وطرد " السُعال الشرير " إلى مياه العمق " أبسو "
وعينايَ المعتمتان اللتان غطَّاهما كفن الموت
أبعدَ عنهما الكفن ألف فرسخ وأنار بصري
أذناي المغلوقتان المسدودتان مثل رجلٍ أطرش
أخرجَ منهما الشَّمع وفتح سمعي ،
أنفي الذي انسدَّ تنفُّسه بفعل الحُمَّى
سكَّنَ آلامه فعدت أتنفَّس براحة ...
وشفتاي اللتان ...
طردَ عنهما الرُّعب وفكَّ قيدهما ،
فمي الذي انسدَّ حتَّى صعب عليَّ النُّطق
صقله مثل النُّحاس وأزاح وسخه
أسنانيَ التي تماسكت وانشدَّ بعضها إلى بعض
فكَّ ارتباطها وشدَّ جذورها
لسانيَ المعقود الذي لا يقوى على النُّطق
حلَّ ( عقدته ) فسهَّل عليَّ الكلام
حنجرتي التي ضاقت واختنقت
أرجعها إلى وضعها فصارت تغنّي كالمزمار
******

دخلت معبد " إيساك إيلا " راكعاً وداعياً
أنا من نزل إلى القبر قد عاد إلى " بوّابة شروق الشّمس "
هنا في " بوّابة الرخاء " أنعم عليَّ بالرّخاء
في " بوّابة السلام " وجدتُ السلام
في " بوّابة الحياة " أُعطيتُ الحياة
في " بوّابة شروق الشّمس " حُسِبتُ ضمن الأحياء
في " غفران الذنوب " حُرِّرت من قيدي
في " بوّابة العبادة " راح فميَ يسأل الرحمة
في " بوّابة تفريج الكربات " فُرِجت كربتي
في " بوّابة الماء المقدَّس " نُثرَ عليَّ الماء المقدَّس
في " بوّابة السلام " رأيت نفسي مع الإله مردوخ
في " بوّابة الخصب " قبَّلتُ قدميَ " صربانيتم "
لقد ثابرتُ على الدُّعاء والصلاة أمامهما
ووضعتُ البخُّور المُعطَّر أمامهما
قدَّمتُ القرابين والهدايا والعطايا
نحرتُ ثيراناً وشياه مُسمَّنةً
وسكبتُ باستمرارٍ جعةً حلوةً كالشَّهد وخمراً نقيَّاً
-------------المصادر.................
راجع : من سومر إلى التوراة ، د . فاضل عبد الواحد علي ، سينا للنشر ، ط ٢ ، ١٩٩٦ ، ج. م. ع ، المبحث الثالث عشر : صبر أيوب ، ص ٢٩٢ - ٣٠٤ .
منقول من طلبة واساتذة باحثين علم الاثار