قصص من المدراش: الملك سليمان والهيكل الـمُوصَد – أوصر هٓمدرٓشيم
قصص من المدراش: الملك سليمان والهيكل الـمُوصَد – أوصر هٓمدرٓشيم 13-250
كما هو حال الروايات الإسلامية، تزخر الأدبيات اليهودية بالقصص التي تدور حول شخصية الملك-النبي سليمان بن داود، ولاسيَّما القصص العجائبية التي تصف عظمة سلطانه وسِعة ثرائه، فضلاً عن قدرته على تسخير قوى الطبيعة والعالم، وعلى التواصل مع الكائنات جميعاً، ما ظهر منها لبني الإنسان وما بطن. قد لا يكون المدراش الذي أقدِّم ترجمته هنا فريداً بين الأدبيات التي تناولت حكايات سليمان، لكنه يجمع بين معظم العناصر التي نجدها في الروايات المتنوِّعة؛ فبعد الوصول إلى نهاية حكاية النملة التي سبق أن قدَّمتُ ترجمتي لها (انظر: حكاية الملك سليمان والنملة)، تابع سليمان رحلته الملحمية وحلَّق راكباً الريح لأيام متوالية، حتى وقعت عينه على هيكل ذهبي ضخم لا مثيل له، فنزل إليه راغباً في دخوله. وهنا نصادف جميع العناصر المألوفة في قصص سليمان؛ إذ يتحدَّث مع أمير الشياطين، ومع “أمير الطيور”، ثم مع أسرة كاملة من النسور المعمِّرة. وحين يتمكَّن أخيراً من دخول القصر المرصود، يخوض معركة خاطفة مع الشياطين تنتهي بانتصاره وبكشف سر الهيكل. فيما يلي ترجمتي إلى العربية لهذه الحكاية الواردة في مدراش “حكاية النملة والهيكل الموصد” من كتاب “أوصر همدرشيم”:
(36) ومضت الريح، وصعد [سليمان] إلى الأعالي بين السماء والأرض، وبقي هنالك عشرة أيَّام وعشر ليالٍ. وفي يومٍ من الأيَّام رأى هيكلاً مرتفعاً مبنياً من ذهبٍ خالص. (37) قال سليمان للأمراء: «ما رأيتُ مثل هذا الهيكل في العالم قط!». (38) في تلك الساعة قال سليمان للريح: «اهبطي بنا». (39) فهبطت الريح إلى الأرض، ثمَّ مضى سليمان وخادمه أَسَف بن بَرَخْيَا،[1] ومشيا وتنزَّها معاً حول الهيكل، وكانت رائحة العشب الذي فيه كرائحة جنَّة عدن. لم يجدا [للهيكل] مدخلاً يدخلان منه، فتعجَّبا من هذا الأمر، وتساءلا كيف يمكنهما الدخول إليه. (40) وبينما كانا منشغلين في الأمر، جاء أمير الشياطين إلى الملك، وقال له: «سيِّدي، لماذا أنتَ قلقٌ هكذا؟». (41) قال سليمان: «أنا قلقٌ بسبب هذا الهيكل الذي لا مدخل له، ولست أدري ما أفعل». (42) قال أمير الشياطين: «سيِّدي الملك، الآن أفرض على الشياطين أن يصعدوا إلى فوق سطح الهيكل، ربَّما يجدون هنالك شيئاً أو إنساناً أو طائراً أو خلقاً ما». (43) في تلك الساعة نادى الشياطين وقال: «أسرِعوا واصعدوا رأسَ السطح وانظروا هل تجدون شيئاً ما». (44) ذهبوا وصعدوا، ثمَّ نزلوا وقالوا: «سيِّدنا، لم نرَ هناك أيَّ إنسانٍ على الإطلاق، لكننا [رأينا] طائراً كبيراً اسمه “نسر” ماكثاً فوق فراخه». (45) في تلك الساعة نادى [سليمان] أمير الطير وقال له: «اذهب وأحضر لي النسر». (46) مضى “كاسر”[2] وأحضر النسر إلى سليمان الملك عليه السلام. فتح [النسر] فاه بالتهليل وسبَّح ملك ملوك الملوك، القدُّوس مباركٌ هو، ثمَّ سلَّم على الملك سليمان. (47) قال له سليمان: «ما اسمكَ؟». (48) قال له: «إلْعناد». (49) قال له: «ابن كم سنةٍ أنتَ؟». (50) قال له: «ابن سبعمئة سنة». (51) قال له: «أرأيتَ أو عرفتَ أو سمعتَ عن وجود مدخلٍ لهذا الهيكل؟». (52) قال له: «سيِّدي، بحياتكَ وحياة رأسكَ لم أعرف [أمراً كهذا]. لكنَّ لي أخاً أكبر مني بمئتي سنة، هو يعرف ويبين، ويجلس في الطبقة الثانية». (53) قال سليمان لكاسر: «اصحب هذا النسر إلى مقامه وأحضر لي أخاه الأكبر منه». (54) [فارتفع] حتى لم تعدْ عينٌ تراه. بعد ساعةٍ عاد إلى أمام سليمان ومعه نسرٌ أكبر من الأوَّل، فترنَّم [النسر] وسبَّح بارئه، ثمَّ سلَّم على الملك سليمان ووقف بين يديه. قال له سليمان: «ما اسمكَ؟». (55) قال له: «إلْعوف». (56) قال له: «كم أيَّام حياتكَ؟». (57) قال له: «تسعمئة سنة». (58) قال له: «أعرفتَ أو سمعتَ عن وجود مدخلٍ لهذا الهيكل؟». (59) قال له: «سيِّدي، بحياتكَ وحياة رأسكَ أنا لا أعرف، لكنَّ لي أخاً أكبر مني بأربعمئة سنة، وهو يعرف ويبين، ويجلس في الطبقة الثالثة». (60) قال سليمان لأمير الطير: «اصحب هذا وأحضر لي أخاه الأكبر منه». (61) فصحبه [وارتفعا حتى] لم تعدْ عينٌ تراهما. بعد ساعةٍ جاء النسر الكبير، وكان مُسنَّاً جدَّاً ولم يقوَ على الطيران، فرفعوه على أجنحتهم وأحضروه أمام سليمان، فسبَّح وهلَّل بارئه ثمَّ سلَّم على الملك. (62) قال له سليمان: «ما اسمكَ؟». (63) قال له: «إلتعمور». (64) قال: «ابن كم سنةٍ أنت؟». (65) قال له: «ابن ألف وثلاثمئة سنة». (66) قال له: «أعرفتَ أو سمعتَ عن وجود مدخلٍ لهذا الهيكل؟». (67) قال له: «سيِّدي، بحياتكَ لا أعرف، لكنَّ أبي حدَّثني عن مدخلٍ من جهة الغرب، وقد كساه العفر لكثرة السنين التي مرَّت عليه. إذا أردتَ، مُرِ الريح أن تزيح العفر من حول البيت فيتجلَّى المدخل». (68) أمر سليمان الريح فهبَّت وأزاحت العفر من حول البيت وتجلَّى المدخل، وكان كبيراً جداً وبوَّاباته مصنوعةٌ من حديد، وبدت وكأنها محروقةٌ وباليةٌ من طول الأزمان. رأوا على البوَّابة قفلاً كُتب عليه: «فلتعلموا، يا بني آدم، أنَّا سكنَّا هذا الهيكل [وتنعَّمنا] بالخيرات والملذَّات سنين كثيرة. وحين جاءت المجاعة، طحنَّا الجواهر بدلاً من القمح ولم ينفعنا ذلك، فتركنا هذا البيت للنسور ورقدنا في الأرض. ثمَّ قلنا للنسور: قولوا لكلِّ من يسألكم عن هذا الهيكل “قد وجدناه مبنياً”». (69) وكُتب أيضاً: «لا يدخل إنسانٌ إلى هذا البيت، إلا إذا كان نبيَّاً أو ملكاً. وإن شاء أن يدخل، فليحفر على يمين المدخل حتى يجد صندوقاً زجاجياً، وليكسرْه ليجد فيه المفاتيح». (70) ففتح سليمان البوَّابة، ووجد باباً من ذهب، ففتحه ودخل فيه. فوجد باباً ثانياً، ففتحه ودخل فيه. فوجد باباً ثالثاً، ففتحه ودخل فيه. ثمَّ رأى بنياناً عظيماً جدَّاً فيه بِركةٌ مصنوعةٌ من الياقوت الأحمر والزمرُّد والجواهر، ورأى فيها قبَّة [تكوَّمت] فيها جميع أنواع الجواهر. كما رأى عدداً من الغرف وساحتين فاخرتين مرصوفتين باللِّبن، إحداهما من فضَّةٍ والثانية من ذهب. ثمَّ تأمَّل في الأرض فرأى صورة عقرب، وكان العقرب من فضَّة. [كما] وجد بيتاً تحت الأرض، ولمَّا فتحه وجد فيه الكثير من الجواهر التي لا تُحصى، والكثير من الذهب والفضَّة. ثمَّ وجد مدخلاً آخر عليه قفل، وقد كُتب على البوَّابة: «سيِّد هذا الهيكل كان مُمجَّداً وعظيماً حتى خافت الأسود والدببة من ملكوته فحمدته، وقد سكن هذا الهيكل [متنعِّماً] بالخيرات والملذَّات، وملَكَ وجلس على عرشه. لكن ساعة موته حانت قبل الأوان، فمات وسقط التاج عن رأسه. ادخل الهيكل لترى العجائب». (71) بعد ذلك فتح [سليمان] البوَّابة ودخل، فرأى بوَّابةً ثالثةً كُتب عليها أنهم كانوا يسكنون [هنا] في مجدٍ وثراءٍ عظيمين، وبقيت الثروة وهم ماتوا وهلكوا، عبرت عليهم مصائب الزمن، ولم تبقَ لهم قدمٌ في الأرض. ثمَّ فتح البوَّابة فوجد كومةً من الياقوت الأحمر والزمرُّد كُتب عليها: «كم تعبتُ! كم أكلتُ! كم شربتُ وكم لبستُ ملابسَ فاخرة! كم أخَفْتُ وكم خِفتُ!». (72) ثمَّ مضى [سليمان] فوجد داراً فخمةً من ياقوتٍ وزمرُّدٍ ولها ثلاثة مداخل. كُتب على المدخل الأوَّل: «يا ابن آدم، لا يغرنَّك الزمن! ستهلك وتمضي وتنتقل من مقامكَ لتسكن تحت الأرض». وكُتب على المدخل الثاني: «لا تعجلْ، تمهَّلْ، فالعالم لا يدوم لأحد». وكُتب على المدخل الثالث: «خُْذْ لكَ زوَّادةً للطريق، وجهِّزْ طعامَ غدِكَ اليومَ، فأنتَ لستَ بباقٍ على الأرض، ولا تعرف يوم موتك». (73) فتح [سليمان] البوَّابة ودخل، فرأى صنماً جالساً يحسبه من يراه حيَّاً، وذهب صوب الصنم واقترب منه. (74) فارتعش [الصنم] وصرخ بصوتٍ عظيم: «تعالوا يا بني الشياطين وانظروا، جاء سليمان ليُبيدكم!». (75) وكانت نارٌ ودخانٌ ينبعثان من منخريه. في تلك الساعة صار بينهم صراخٌ عظيمٌ ومرير، وارتعشوا وارتعدوا. فصرخ عليهم سليمان وقال: «أأنتم تخيفونني؟ ألستم تعرفون أنني سليمان الملِك المالِك على جميع البرِيَّة التي برأها القدُّوس مباركٌ هو؟ وقد جئتُ لأذيقنَّكم أنواع العذاب، وأنتم تتمرَّدون عليَّ!». (76) ثمَّ قرأ عليهم اسم [الله] الصريح. في تلك الساعة سكتوا كلَّهم ولم يعد أحدٌ منهم قادراً على الكلام، ثمَّ سقطت الأصنام على وجوهها. أمَّا بنو الشياطين فقد هربوا ورموا بأنفسهم إلى البحر العظيم[3] لكيلا يقعوا في يد سليمان. (77) اقترب سليمان من الصنم، وأخذ لوحاً فضِّياً وسلسلةً من عنقه، وقد كُتب في اللوح كلُّ ما يخصُّ الهيكل، لكن [سليمان] لم يعرف كيف يقرأه. فحزن حزناً عظيماً وقال لأمرائه: «ألم تعرفوا أني قطعتُ شوطاً طويلاً ووصلتُ إلى الصنم واقتربتُ منه وأخذتُ اللوح، لكنني لا أعرف ما كُتب فيه؟». (78) [ثمَّ] تأمَّل [في وجوهم] وقال: «ما أفعل؟». (79) وإذ به يرى شابَّاً مقبلاً من الصحراء، وصل إلى سليمان وسجد أمامه وقال له: «ما لكَ يا سليمان الملك؟ [لماذا] أنتَ حزين؟». (80) قال له: «أنا حزينٌ بسبب هذا اللوح، فلست أعرف ما كُتب فيه». (81) قال ذلك الشاب: «هاتِ [اللوح] وأنا سأقرأه لكَ، فقد كنتُ جالساً في مقامي حين رآكَ الله – فليتباركْ – حزيناً، فأرسلني لأقرأ لكَ الكتاب». (82) فوضع [سليمان] اللوح في يد [الشاب الذي] تأمَّل فيه مذهولاً لساعةٍ كاملة، ثمَّ بكى وقال: «ويلي يا سليمان! هذا كتابٌ باللسان اليوناني يقول: “أنا شدَّاد بن عاد،[4] ملكتُ على ألف ألف مدينة، وركبتُ ألف ألف حصان، وكان تحت يدي ألف ألف ملك، وقتلتُ ألف ألف جبَّار، وحينما جاءني ملاك الموت لم أتمكَّن منه”. مكتوب أيضاً: “[ينبغي] على كلِّ من يقرأ هذا الكتاب ألَّا يشغل نفسه كثيراً في هذا العالم، فالموت نهاية كلِّ إنسان، ولا يبقى للإنسان إلا اسمه الطيِّب”». (83) وهذا ما حلَّ على رأس سليمان في هذا العالم. (84) وذِكْر كلِّ الصدِّيقين بركة. فليكنْ هذا رضوانه. آمِنْ. (85) تم.

هكذا يُلفظ، ويُكتب أسف بن بَرَكْيَهو. ↩
على الرغم من أنَّ النصَّ يسمِّي أمير الطير باسم “نسر” في بدايته، إلا أنه يجعله “كاسر” (في العبرية فِرِس פרס وتعني كاسِر) ابتداءً من هذا الموضع. ↩
البحر العظيم (في العبرية هَيَم هَجدول הים הגדול): البحر المتوسِّط ↩
شدَّاد بن عاد: ملك أسطوري ارتبط اسمه بتشييد مدينة “إرم ذات العماد” التي يرد ذكرها في القرآن. ↩

عمر حكمت الخولي

المصدر : مواقع إلكترونية