الى أساتذة التعليم المتوسط والثانوي والجامعي ... للمرة المليون
شعب الجزائر مسلم***وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله***أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له***رام المحال من الطلب
ليست آية قرآنية ولا مادة من دستور البلاد بل هي قصيدة شعرية لعبد الحميد إبن باديس ألقاها بمناسبة احتفال مدرسة التربية والتعليم بالمولد النبوي بقسنطينة سنة 1937 للرد على فرحات عباس الذي نشر مقاله الشهير "فرنسا هي أنا" في جريدة "لوتان" (Le Temps) يوم الخميس 27 فبراير 1936 والذي جاء فيه : « لو أنني اكتشفت الأمة الجزائرية ، لصرت وطنيا ولا أخجل من ذلك...إن الجزائر كوطن قومي هو مجرد أسطورة .بحثت عنه فلم أجده . ساءلت التاريخ ، ساءلت الأموات ومعهم الأحياء ، زرت المقابر ، ولا احد أجابني...»
هذا المقال هو ما أغضب عبد الحميد بن باديس فرد عليه بتلك الأبيات وخاطب فرحات عباس بعبارة " أو راما إدماجا له *** رام المحال من الطلب" أي من أراد او فضل الإدماج فقد طلب المحال. فهي اذا للرد على من أراد ودافع عن فكرة ذوبان الهوية الجزائرية في المكون الفرنسي المسيحي فالصراع أنذاك كان بين الثنائية الاسلامية العربية و المسيحية الفرنسية ، وإخراج هذه القصيدة من هذا السياق التاريخي الخاص بها يشوش الفهم ويفقدها أهمتيها بل يحولها الى سلاح ضد الفكرة التي دافعت عنها وهي المكون المحلي الذي رجع ابن باديس انتسابه الى حضيرة الحضارة الاسلامية العربية بدل حضيرة الحضارة الفرنسية المسيحية. وبعد الاستقلال والتحرر من هذه الحضيرة الثانية رجعت الى حضيرتها المحلية الإفريقية المتوسطية.
ولنفهم الموضوع جيدا في سياقه الحقيقي لابد من العودة أولا الى النقاش الذي ساد الحركة الوطنية خلال فترة (1919-1939) حول مسألة الاندماج عن طريق التجنيس التي طرحتها الإدارة الاستعمارية عبر سلسلة من القوانين الساعية الى تجنيس الأهالي إبتداءا من قانون "سناتوس-كونسلت" في 14 جويلية 1865 ثم قانون 4 فيفري 1919 الى قانون "بلوم-فيوليت" سنة 1935.
وهي المسألة التي قسمت النخبة السياسية في الجزائر الفرنسية أنذاك الى ثلاثة أقسام
قسم قبل بالجنسية الفرنسية لغة وثقافة وترك أحواله الشخصية مثله المفرنسون امثال فرحات عباس .
قسم ثاني طالب بالجنسية الفرنسية من أجل بلوغ الحقوق المدنية مثل المواطن الأوروبي واليهودي شرط الإحتفاظ بالأحوال الشخصية من لغة ودين وهو القسم الذي مثلته جمعية العلماء المسلمين.
قسم ثالث رفض التجنيس جملة وتفصيلا وطالب بالإستقلال والتحرر الكلي وهو تيار نجم شمال افريقيا .
وهذه القصيدة جاءت في سياق الصراع بين القسم الاول للشبان المفرنسين وجمعية العلماء المسلمين المحافظين .
غير أن السخط الذي مارسه إبن باديس على الجزائريين المتجنيسن الادماجيين قابله ترحيب ودعم ومهادنة غريبة منه لسياسة فرنسا الاندماجية وهو ما عبر عليه ابن باديس في أكثر من مقال نختصر منه على سبيل المثال لا الحصر :
- «...فما ينقم علينا الناقمون ؟ أينقمون علينا تأسيس جمعية دينية إسلامية تهذيبية تعين فرنسا على تهذيب الشعب وترقيته ورفع مستواه إلى الدرجة اللائقة بسمعة فرنسا ومدنيتها وتربيتها للشعوب وتثقيفها فإذا كان هذا ما ينقمون علينا فقد أساءوا إلى فرنسا قبل أن يسيئوا إلينا...»(عدد 1 ، السنة 1، الجمعة 27 ديسمبر 1935 ، ص.1)
- « أفظننتم أن الأمة الجزائرية ذات التاريخ العظيم تقضي قرنا كاملا في حجر فرنسا المتمدنة ثم لا تنهض بجنب فرنسا تحت كنفها ، يدها في يدها ، فتاة لها من الجمال والحيوية ما لكل فتاة أنجبتها أو ربتها مثل تلك الأمم ، أخطأتم يا هؤلاء التقدير...»(جريدة الشريعة ، عدد 1 ، الاثنين 17 جويلية 1933 ،ص.1)
- « ولأننا مستعمرة من مستعمرات الجمهورية الفرنسية نسعى لربط أواصل المودة بيننا وبين الأمة الفرنسية وتحسين العلائق بين الأمتين المرتبطتين بروابط المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة من الجانبين ، تلك الروابط التي ظهرت دلائلها وثمراتها في غير ما موطن من مواطن الحرب والسلم »(عمار الطالبي ، ابن باديس : حياته وآثاره . ج1.م1. الجزائر، 2009 ،ص 287)
وبهذا نستنتج أن رفض ابن باديس لتجنيس الجزائريين بالفرنسية هو لحماية الاسلام والعربية من هذا التهديد والذوبان الذي فرضه واقع الإستعمار، وأن المطالبة بفصل الدين الاسلامي عن الدولة الفرنسية و اعتبار اللغة العربية كالفرنسية لغة رسمية، من خلال المطالب التي رفعها في المؤتمر الاسلامي سنة 1936 كان كذلك لحماية المكون الجزائري.
على هذا الأساس فإن كل من يخرج قصيدة "شعب الجزائر مسلم" من سياقها التاريخي هذا لإستعمالها اليوم إنما يريد بها تذويب المكون الأمازيغي في بوتقة العروبة و هو بذلك يحل محل الإستعمار الفرنسي الذي كان يريد تذويب المكون الجزائري في الفرنسي ، أما الاستنكار والرفض الذي يعبر عنه التيار الأمازيغي لهذا الإقصاء والمطالبة بفصل الدين عن الدولة الجزائرية أو علمنة الدولة هو لتحقيق نفسه الغرض الذي سعى اليه ابن باديس خلال الجزائر الفرنسية ألا وهو الحفاظ على المكون الأمازيغي من الذوبان في العروبة القومجية التي فرضها الإستقلال المسلوب .
بتعبير آخر فإن الوضعية الإدماجية التي تم إقحامها في موضوع العربية بإمتحان شهادة المتوسط والتي حددت فيها الهوية الوطنية في العروبة فقط دون شقيقتها الأمازيغية لا تختلف عن مقال فرحات عباس في جريدة (Le Temps) في 1936، فهي فكر أحادي إقصاىي متناقض مع ما بلغته الدولة الوطنية اليوم من مصالحة مع الذات ومع التعددية، و ناجم عن جهل مركب سائد في عقول الكثير من الأساتذة الذين يساهمون في عملية تجهيل الأجيال عبر المدارس الرسمية المنكوبة .
شكرا للاهتمام! اذا اعجبتك المقالة احرص على تقييمها ومشاركتها مع اصدقائك ولا تنسى التسجيل في المنتدى