هل عرفت الجزيرة العربية المبادئ الإسلامية قبل بعثة النبي محمد؟
في نظر غالبية المسلمين، لا خلاف على أن الإسلام دين سماوي توحيدي، وبأن النبي محمد قد أرسل ليكون الحلقة الأخيرة في سلسلة الرسالات والبعثات النبوية التي أرسلها الله لإقامة الحجة على البشر وتوضيح طريق الصراط المستقيم لهم.
ولكن هناك اعتقاد آخر، يرى بأن الله لم يرسل رسوله بالرسالة ويحمله مسؤولية تبليغها ونشرها بين الناس، حتى مهّد له الطريق وعبّد له السبل.
إذا نظرنا إلى الإسلام بمنظور مادي دنيوي بحت، وجدنا أن دعوة الرسول كانت بمثابة دعوة ثورية، إذ اصطدمت مع الكثير من أسس المجتمع القرشي القبلي الذي كان النبي يعيش فيه.
كيف استعدت الجزيرة العربية لاستقبال الإسلام؟
وإذا اعتبرنا الإسلام ثورة، فهل يمكن أن نجد لتلك الثورة إرهاصات ومقدمات وتمهيدات في المرحلة الزمنية التي سبقت البعثة النبوية؟
الحقيقة أنه لا يمكن أن نحدد إرهاصات الثورة التي سبقت الإسلام، إلا بعد أن نحدد الأوجه الثورية الموجودة في الإسلام نفسه، وتلك الأوجه على كثرتها وتعددها، إلا أنه من الممكن أن نحدد أهمها في أربعة اتجاهات.
1- الاتجاه الديني التوحيدي
الاتجاه التوحيدي الخالص في الدين الإسلامي هو أكبر مميزاته وسماته، خصوصاً أن عبادة الأصنام والأوثان كانت من الأمور المنتشرة في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية.
الباحث في تاريخ حقبة ما قبل الإسلام سوف يلفت انتباهه أن هناك تياراً فكرياً دينياً كان موجوداً في مكة وفي غيرها. ضم التيار عدداً من الشخصيات (مثل ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل)، وكان يؤمن بالله الواحد ولا يعبد الأصنام والآلهة التي كانت منتشرة في ذلك الوقت.
أطلق على هذا التيار اسم "الحنيفية"، ومن المؤكد أنه قد مهّد الطريق في عقول الكثير من المسلمين الأوائل لفكرة التوحيد الديني، حتى إذا ما بعث الرسول، أقبل عليه من تأثروا بهذا الاتجاه فكانوا من السابقين الأولين إلى اعتناق الإسلام.
2- الاتجاه السياسي الذي يدعو إلى السلطة المركزية
ربما يرى العديد من المؤرخين والباحثين أن الثورة التي تمثلت في الإسلام والبعثة النبوية، قد أدت لظهور شكل جديد من أشكال السلطة والحكم في بلاد العرب وهو شكل الدولة ذات الحكم المركزي الذي يفرض سيطرته على جميع أنحاء شبه الجزيرة.
ومن المعروف أنه قبل البعثة النبوية في بدايات القرن السابع الميلادي، لم يكن هناك كيان سياسي مركزي واحد يسيطر على جميع أنحاء الجزيرة العربية، بل أن كل قبيلة أو كل مجموعة من القبائل المتقاربة المجاورة كانت تحكم نفسها حكماً ذاتياً.
ولكن نستطيع أن نجد عدداً من الإشارات إلى أن العرب كانوا على أعتاب الدخول في مرحلة التنظيمات السياسية المركزية أو القريبة الشبه بالتنظيمات المركزية في الفترة الزمنية التي سبقت بعثة الرسول.
ومن أهم الأمثلة في شبه الجزيرة العربية في تلك الفترة، جدّ الرسول، المعروف باسم قصي بن كلاب، فقد كان قصي زعيم قريش ومؤسسها وأبوها الروحي، وهو الذي قام بتأسيس مؤسسات قريش ووظائفها الكبرى، مثل دار الندوة واللواء والسقاية والرفادة.
وكانت لكل مؤسسة من تلك المؤسسات الأربع عدد من المهام والاختصاصات المعينة والمتمايزة وكان من الطبيعي أن يهيمن قصي بن كلاب - وهو رجل قريش القوى - على جميع تلك الاختصاصات وأن يحوز على جميع المقادير والسلطات.
كانت مكة في منتصف القرن الخامس الميلادي بمثابة دولة يمسك قصي فيها بجميع الشؤون التشريعية والحربية والمالية، ولذلك نظر إليها بعض الباحثين والمؤرخين في ذلك الوقت على أنها “جمهورية”، وأن قصي بن كلاب كان بمثابة رئيس لها.
ومن الأمثلة الأخرى التي تؤكد على اقتراب العرب من فكرة المركزية والدولة قبل البعثة، أن الكثير من المصادر والكتابات التاريخية التي تعرضت لشخصية عبد الله بن أبي بن سلول، قد ذكرت أن قومه من أهل يثرب كانوا يعتزمون أن ينصبوه ملكاً على يثرب وأن يضعوا التاج على رأسه.
وترى تلك المصادر أن سبب نفاق ابن سلول وإظهاره الإسلام وإبطانه الكفر هو أنه اعتقد أن الرسول قد سلبه حقه في الزعامة والرياسة وأنه صرف عنه أبناء قبيلته اللذين أسلموا واتبعوه.
3- الاتجاه الاجتماعي القائم على المساواة
التجلي الاجتماعي كان من أهم وأكبر تجليات الإسلام وأكثرها عمقاً وتأثيراً في نفوس أتباعه ومعتنقيه.
الكثير من المؤرخين والباحثين نظروا للإسلام على أنه ظاهرة ثورية اجتماعية كان الدين أحد نتائجها وليس العكس، فالإسلام قد أحدث تغيراً اجتماعياً كبيراً في المجتمع العربي القبلي، كما أن العامل الاجتماعي كان له دور كبير في ظهور الإسلام وتطور حركته في بدايات البعثة النبوية.
كان الإسلام في بداياته موجهاً نحو اجتذاب أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة والمعدمة، تلك الطبقات التي انهكتها خدمة الطبقات الأرستقراطية والاقطاعية القبلية القوية على مدار السنين.
ولذلك فانه ليس من الغريب أن نجد أن معظم المسلمين الأوائل كانوا من أبناء العشائر الضعيفة الخاملة الذكر و المعدومة القوة، كما أنهم لم يكونوا من المعروفين بالثراء و الجاه و النفوذ.
لو رجعنا لقائمة المسلمين السابقين لوجدنا أسماء عدد من المحالفين لبني مخزوم مثل ياسر و زوجته سمية وابنهما عمار، ولوجدنا عدداً من الموالي والعبيد الأرقاء مثل زيد بن حارثة، وعبد حبشي مثل بلال بن رباح، ومولى رومي هو صهيب.
أمّا باقي القائمة فتتضمن أسماء عدد من أواسط الناس مكانة من قريش، فأبو بكر وطلحة كانا من تيم، بن مرة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف كانوا من بني زهرة والزبير بن العوام كان من أسد.
كل تلك العشائر لم تكن ذات قوة أو مكانة في قريش ولم يكن لها نفوذ يذكر على الساحة القبلية المكية. أما العشائر التي وقفت ضد الإسلام وحاربته وعملت على القضاء عليه، فكانت من أقوى العشائر القرشية وأهمها، وكان منها بني أمية بن عبد شمس وبني مخزوم.
إذا ما رجعنا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام، وجدنا العديد من الدلائل والإشارات الواضحة إلى وجود تغيرات اجتماعية مهمة من شأنها أن تتطور لتؤدي إلى الوضع الذي آلت إليه الأمور فيما بعد.
ويظهر ذلك بوضوح في واقعة “حلف الفضول”، وهو أحد أحلاف قريش الأربعة في الجاهلية. تقول القصة أن أحد التجار القادمين إلى مكة قد دخل في تجارة مع العاص بن وائل فقام هذا الأخير بظلم التاجر ومنع عنه حقه، وعندها ذهب التاجر إلى عدد من العشائر مثل عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم وعدي لطلب نصرتهم له، لم تساعده تلك العشائر لمكانة العاص بن وائل وقدره في قريش.
قام التاجر بمناشدة الناس في الكعبة وأنشد الاشعار لتبيان مظلوميته، فقامت عدد من العشائر بنصرته مثل هاشم وبني زهرة وتيم بن مرة وعبد المطلب بن عبد مناف وأسد بن عبد العزى، واجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وانطلقوا بعد ذلك إلى دار العاص بن وائل فأخذوا حق التاجر المظلوم واعطوه له.
وقد حضر الرسول ذلك الحلف، وقال عنه لاحقاً، "لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".
استمر ذلك التحالف بعد الإسلام، ونظرة واحدة إلى أسماء العشائر التي اشتركت فيه ومقارنتها بأسماء العشائر السباقة إلى الإسلام يكشف لنا بوضوح العلاقة بين الحلف والإسلام.
الاتجاه الحربي العسكري الميال للفتح وفرض السيطرة
لا ريب أن حركة الفتوحات الإسلامية التي قام بها المسلمون بعد إخضاع جزيرة العرب للإسلام، كانت أحد أهم تجليات الدعوة الإسلامية.
المسلمون الذين اعتنقوا الدين الجديد سرعان ما خرجوا خارج حدود شبه الجزيرة العربية، وانساحوا شرقاً وغرباً وسيطروا على البلدان والأقاليم واصطدموا بالقوة الفارسية والقوة البيزنطية فحطموا الأولى بشكل تام بينما أجبروا الثانية على التراجع وترك الجزء الأكبر من أملاكها في المشرق.
هذه الروح الحربية التوسعية الهائلة التي بان أثرها بعد قيام الدولة الإسلامية، لم تكن وليدة اللحظة. إرهاصات كثيرة تشير إلى أن العرب في تلك المرحلة الزمنية كانوا قد وصلوا إلى درجة من القوة والبأس والتنظيم العسكري مكنتهم أن يبدؤوا في مشاريعهم التوسعية.
ومن أهم تلك الإشارات موقعة "ذي قار"، ففي تلك المعركة استطاعت الجيوش العربية المكونة من تحالف قبائل شيبان وبكر بن وائل وغيرها من القبائل أن تلحق الهزيمة بجيوش فارس وحلفائها من العرب.
وبعيداً عن التسيس الذي تعرضت له هذه الحادثة في مناسبات مختلفة، إلا أنّ تلك الموقعة كان لها أثر هائل، إذ شجعت القبائل العربية على الانضمام للجيوش الإسلامية الأولى.
المصادر: تاريخ الرسل والملوك للطبري؛ مروج الذهب ومعادن الفضة للمسعودي؛ تاريخ اليعقوبي؛ السيرة النبوية لابن هشام؛ محمد في مكة لمنتجمري وات؛ موسوعة الإسلام.
https://raseef22.net/article/97424-%D9%87%D9%84-%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A6-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84