الحاجب المنصور الذي حكم الأندلس ربع قرن دون أن يعتلي كرسي الخلافة!
حكم الحاجب المنصور الأندلس قرابة ربع قرن، مؤسسًا دولة داخل الدولة، وفي عام 392 هجريًا، كان محمد بن أبي عامر في إحدى غزواته حين اشتد عليه المرض، وتثاقلت عليه الجروح، فأوصى لابنه عبد الملك بالحجابة من بعده، بينما حصل ابنه الآخر عبد الرحمن على قيادة الجيش، واستمرت الوصاية نحو تسع سنواتٍ على الخليفة هشام المؤيد بالله.
في عام 355 هجريًا، أوشكت شمس عبد الرحمن الناصر – ثامن أمراء بني أمية في الأندلس – على المغيب، وبخلاف أنه أول من أعلن الخلافة في قرطبة، فإنه الوحيد الذي أوسع أعمامه له الطريق إلى الحُكم، في سابقةٍ هي الأولى في التاريخ الإسلامي، بأن يرث الحفيد عرش جدّه في حياة أبنائه.
ولم تكن مُبايعة الشيوخ له حينها زهدًا في السُلطة، بقدر ما كانت هروبًا وخوفًا من الضعف الذي ضرب جنبات الدولة الأموية وأذن بقُرب زوالها بعد نحو 200 عامٍ من تأسيسها، لكنّ الخليفة الناصر كان له نصيب من اسمه؛ فأخمد التمردات ووحّد دولته، ثم خاض حروبًا ضد الممالك المسيحية في الشمال، انتهت بإجبار خصومه الملوك على السير إليه في قُرطبة، وتقبيل يده على مشهدٍ من الناس.
أمجاد الخليفة الناصر أوشكت أن تؤول إلى واحدٍ من 11 ولدًا أنجبهم، ووقع الاختيار على الحكم المستنصر صاحب الخمسين عامًا الذي لم تكن له ذرية حتى ذلك الوقت، وبالرغم المخاوف التي راودت الناصر نفسه بأنّ فراغ الحُكم بعد وفاة المستنصر قد يُعيد الدولة إلى التمردات؛ إلا أنّ المفارقة كانت أنّ الابن الذي أنجبه المستنصر بعد ذلك – هشام المؤيد بالله – تسبب في ضياع مُلك الأمويين، بعدما استولى حاجبه المنصور محمد بن أبي عامر على دولته، وربما تسبب بشكل ما في سقوط الأندلس.
محمد بن أبي عامر.. المجنون الذي صدح «سأملك الأندلس»
حين دخل طارق بن زياد الأندلس لأول مرة عام 92 هجريًا؛ كانت قبيلة المعافري اليمنية التي ينتسب لها محمد بن أبي عامر ضمن الجيش الضئيل الذي أسس الحكم الإسلامي الوليد، وشرف النسب لا يتوقف عند الجدّ الخامس الذي جاء فاتحًا، فأبوه عبد الله بن أبي عامر أحد علماء الجزيرة الخضراء – جنوب إسبانيا حاليًا – وفقهائها، الذي اشتهر بزهده في مجالس السلاطين، لكنّ الطفل الذي وُلد عام 327 هجريًا، ورث فقه أبيه وسيرة أجداده، لكنّ طموحه ورغبته في مُلك الأندلس غلبت عليه، فارتحل إلى قرطبة – درة الدنيا آنذاك – طلبًا للعلم.
شخصية الحاجب المنصور المليئة بالطموح، جلبت عليه سخرية رفاقه حين أظهر لهم اعتداده بنفسه وتطلعه إلى حكم الأندلس وقيادة الجيش، وبحسب ما ذكره الوزير والمؤرخ الأندلسي لسان الدين بن الخطيب في كتابه «أعمال الأعلام»، فإنّ الحاجب المنصور في طريق رحلته إلى قرطبه أخبر رفاقه الذين صحبوه في سفره بأنه لم يأتِ لطلب العلم فقط، إنما ليصبح حاجبًا (الرجل الثاني في الدولة)، بل إنه تخطى ذلك حين قال: «سأملك الأندلس وأقود العسكر وينفذَ فيهما حُكمي».
وبقية القصة يذكرها لسان الدين بن الخطيب قائلًا: «طلب محمد بن أبي عامر من زملائه حين سخروا منه أن يتمنّوا عليه، فطلب الأول ولاية قرطبة، وطلب الثاني توليته حِسبة السوق، وطلب الثالث قضاء ولاية كورة، أما الرابع فتطاول عليه بالكلام البذيء»، تقول الرواية في صفحاتها الأخيرة إنّه لما وصل لمنصب الحاجب، حقق لرفاقه القدامى أمنياتهم، عدا الأخير الذي غرّمه مالًا باهظًا.
وفي جامع قرطبة الكبير؛ جذب الشاب القادم من ريف الجزيرة الخضراء أنظار الشيوخ إليه بعلمه بالتاريخ وأحوال العرب وحفظه الشعر وحبّه للفقه، فنال الإجازات العلمية واحدة تلو الأخرى، ورغم عزوفه عن حياة الغناء التي أسرف فيها أصحابه، إلا أنّ قدره ساقه يومًا إلى دار المدنيات للغناء التي أنشأها زرياب، حيث وقع بصره على جاريةٍ جاء في وصفها أنه اجتمع لديها جمال الشكل وعذوبة الصوت، وبهاء الطالع، لكنّ الفتى الوسيم آثر الهرب، قبل أن يعود بعدها بأيامٍ ليسأل عنها، لكنه فوجئ بأن صاحبها قد باعها، فأوقدَ الفراقُ حبًا انتهى قبل أن يبدأ.
في ذلك الوقت، كان الخليفة عبد الرحمن الناصر تطوف به الشواغل حول ولي عهده الحكم المستنصر الذي لم يُنجب حتى الآن، لذا قرر أن يُهدي إليه جارية جميلة تُدعى صُبح البشكانشية – القادمة من دار المدنيات – على أمل أن تلد له ولي العهد.
يصف المؤرخ إبراهيم بيضون العلاقة بين الأمير الأموي والجارية في كتابه «الدولة العربية في إسبانيا» بالقول: «وصلت إلى قلب المستنصر وعقله، لكن كان أكثر ما يستهويها هو بريق الخلافة وحياة القصور، أما الجانب الآخر في حياة المستنصر القارئ النهم حتى الإدمان فلم يجذبها إليه»، ويبدو جليًا أنّ الأمير الأموي والشاب الريفي تشابها في حبهما لامرأة واحدة، وثقافتهما الاستثنائية، وطلبهما للسُلطة، وهي المفارقات التي لم يدركها أصحابها في ذلك التوقيت.
على أبواب الزهراء.. حُلمٌ سبق صاحبه للداخل
عجبـتُ، وقد ودّعـتُها، كيـف لم أمـتْ ** وكيف انثنتْ عند الفراقِ يدي معي
فيا مُقلتي العبرى عليها اسكبي دمًا ** ويا كبدي الحرّي عليها تقطعي
*شعر للحكم المستنصر أنشده في زوجته حين اشتاق لها في إحدى غزواته
كانت الدولة الأموية في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر تنتهي عند حدود ممالك الشمال المسيحية، التي تتربص موت الخليفة للانقضاض على أملاكها القديمة، لكنّ الأندلس لم يكن مُحاصرًا من الشمال فقط؛ فالفاطميون نجحوا في تأسيس دولة لهم في المغرب على أساس شيعي امتدت لاحقًا إلى القاهرة وصمدت قرنًا من الزمان، بينما كانت الخلافة العباسية في بغداد تشهد طلائع الانهيار الداخلي ولم يشغلها ذلك عن عداء الأندلسيين، تزامنًا مع قيام الدولة الطاهرية في خُراسان.
بقيت قُرطبة وحيدة حاضرة الدنيا وجنتها بمدينتها «الزهراء»، لكنّ الوضع السياسي الداخلي كان يشهد تنافس القبائل العربية الذين طالما ثاروا على السُلطة المركزية للدولة، لذا كان الحل منذ جاء المؤسس الأول للدولة عبد الرحمن الداخل عام 128 هجريًا، هو الاستعانة بالصقالبة – العبيد – ليكونوا خدمًا وجندًا، في سياسة تحفظ توازن الحُكم.
جامع قرطبة الذي تحول إلى كتدرائية حاليًا
الحاجب المنصور | فتي الأندلس الذي فرحت أوروبا بوفاته | القصة التي لم تروى
بين كل تلك النزاعات السياسية في العالم الإسلامي، امتلك الحاجب المنصور دكانًا على أبواب مدينة الزهراء، حيث قصر الخليفة الجديد الحكم المستنصر الذي استكمل عهد أبيه عام 355 هجريًا، وبدأ في كتابة الرسائل ونسخ الكتب وتنقيحها مستعينًا بأسلوبه الأدبي الفريد وبيانه البديع، إلى جانب حُسن مظهره ولباقة لسانه، فكسب صداقات أعدائه المستقبليين من الصقالبة، ثم التحق كاتبًا عند قاضي الأندلس محمد بن إسحاق بن السليم الذي رشحه للحاجب جعفر المصحفي.
في تلك الأثناء ولدت الجارية المحظية عند الخليفة ابنه الأول عبد الرحمن، وتستدعي الحاجة البحث عمّن يدير أملاك ولي العهد الصغير، بالإضافة إلى كاتب رسائل لزوجة الخليفة، ويقع الاختيار على محمد بن أبي عامر، الذي سبق وأن وقع في حبها وافترق عنها، ليجتمعا في قصر السُلطان بدون ترتيب. يصف إبراهيم بيضون العلاقة بين الشاب الجميل وزوجة الخليفة: «وصل الشاب إلى قلب المرأة النافذة فاستهواها شبابه المتدفق وشخصيته الذكية ولسانه الذي أتقن صناعة الكلمة الأنيقة التي اكتسبها من احتراف الكتابة، فاستعان بتلك العلاقة فأخذ يتدرج في مناصب الدولة».
الحكم المستنصر أعجب أيضًا بشباب العامري وبعلمه بالأنساب والفقه والتاريخ، فبدا وكأن الجانب الثقافي الذي تجاهلته المحظية صُبح في شخصية زوجها، كان عاملًا فارقًا في تقريب الشاب وإسناد المهام له، فولاه دار السكة – وزارة المالية حاليًا – عام 356 هجريًا، وبعدها بعاميين أصبح قاضيًا على إشبيلية، وبعد وفاة ابن الخليفة استمر محمد بن أبي عامر في خدمة أمه التي أنجبت ولدها الثاني هشام، فأصبح وكيلًا له.
في عام 362 هجريًا أسند إليه أول مهمة سياسية لاختبار ذكائه، إذ ذهب إلى المغرب لاستمالة زعمائها للولاء للدولة الأموية في الأندلس، وبعدما نجح؛ عُيّن قاضي القضاة لعدوة المغرب، ولمّا عاد أصبح صاحب الشُرطة؛ ما يعني أنه صار الرجل الثاني في دولة الخليفة وهو لم يُكمل الثلاثين بعد.
وداخل أسوار مدينة الزهراء، شغف محمد بن أبي عامر قلب زوج الخليفة بهداياه التي كان منها قصرًا مصنوعًا من الفضة ظل حديث المدينة لأيام؛ يقول الحكم المستنصر لأحد المقربين منه: «ما الذي استلطف به هذا الفتى نساءنا حتى يملك قلوبهن، مع اجتماع زخرفة الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصغن إلا هداياه، ولا يرضين إلا بما أتاه»، وحينها سعى الواشون به عند الخليفة بأنه يُنفق من دار السكة، وكان الاتهام صحيحًا، لكن العامري دبر حيلة واقترض من أحد الوزراء ما سدّ به عجزه، وبرأت ذمته، وازداد قُربًا من القصر.
الحاجب المنصور.. الطَموح الذي اختار المُلك على الحب
آثاره تنبيك عـن أخـباره ** حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله ** أبدًا، ولا يحمي الثغور سواه
*رثاء منقوش على قبر ابن أبي عامر
عقب موت الخليفة الحكم المستنصر عام 366 هجريًا، برز صراع داخل القصري الأموي حول اختيار الخليفة الجديد، فبينما تمسّك الحرس القديم ممثلًا في الحاجب جفعر المصحفي وقائد الجيش غالب الناصري، بالإضافة إلى محمد بن أبي عامر بولي العهد، أراد الصقالبة تنحية وليّ العهد وتولية عمه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بدلًا عنه، وكادت خُطتهم تنجح كونهم أول من عرف بموت الخليفة، لولا أنّ كبير الخدم ارتكب خطًأ كبيرًا حين باح بخطته للحاجب الذي تظاهر بموافقته على قرارهم، ثم اتفق مع محمد بن أبي عامر – قائد الشرطة آنذاك – بأن يتولى قتل مرشَّح الصقالبة، وبذلك فاز الصغير بالعرش، واستمر نفوذ أمه في القصر، وبقي ابن أبي عامر إلى جانب أم الخليفة.
قصر الحمراء أعظم آثار الأندلس
ويبدو أنّ السُلطة كانت تسعى إلى ابن أبي عامر بقدر ما سعى هو إليها، فلم يكد يصل خبر موت الخليفة للمالك المسيحية في الشمال حتى نقضوا عهودهم وشرعوا في إعلان حرب الاسترداد لاستعادة مُلكهم الضائع، وكادت تصل حملاتهم الناجحة إلى قُرطبة عاصمة الخلافة الإسلامية في الأندلس آنذاك، وتصف المصادر التاريخية سبب عجز الدولة آنذاك تحت سمة انسحاب كبار رجالات الدولة في ظل ضعف الحاجب المصحفي، لذا كانت الفرصة سانحة أمام قائد الشرطة الذي جهّز جيشًا عاد لقرطبة بعد 52 يومًا محملًا بالسبي بالغنائم والانتصارات، وهو ما أكسبه شهرة إلى جانب شهرته بين العوام الذين أحبوه نظرًا لأنه من بني جلدتهم.
بدأ محمد بن أبي عامر خُطط استيلائه على السُلطة عقب عودته من قرطبة، عبر إزاحة خصومه الرئيسين، فاستغل الخلاف بين الحاجب جعفر المصحفي وقائد الجيش غالب الناصري، بسبب اتهام الأول للثاني بالتقصير في الدفاع عن الحدود الشمالية، علاوة على استغلاله علاقاته بأم الخليفة التي سعت لتولية حبيبها الحجابة مكان الشيخ العجوز، وكانت نهاية سلسلة المناصب التي حصدها ابن أبي عامر في يديه، حاكم لقرطبة وقائد جيش المدينة ووكيل الخليفة.
وبعد خمس سنوات من موت الخليفة الحكم المستنصر، وصل محمد بن أبي عامر إلى أوج قوته بعدما تخلص من خصومه، ثم عزل هشام المؤيد بالله داخل قصره ومنعه من الخروج، ثم أشاع بين الناس أن الخليفة فوّضه لإدارة البلاد لتفرغه للعبادة، والأخطر أنّ ابن أبي عامر تلقّب بالمنصور ودُعي له من على المنابر، حتى أنه وضع اسمه على النقود.
أمّا زوج الخليفة المستنصر التي شغفت قلب الحاجب المنصورة في البداية، فقد أصبحت حبيسة جدران القصر، وما كان منها إلا أنّ أشاعت بين العامة أن المنصور يسجن الخليفة ويحكم رغمًا عنه ويغتصب سلطانه، ثم خططت للانقلاب عليه بدعمٍ من قائد الجيش وحاكم المغرب، وبذلت أموالًا طائلة لتجهيز الجيوش، لكنّ ذكاء الشاب الذي سبق وأن قربه منها، كان أيضًا سبب هزيمتها واستسلامها لمجريات الأمور، بينما لم ينل ابنها من الخلافة سوى اسمها.
يقول المؤرخ الإسلامي ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» واصفًا الحاجب المنصور: «كان المنصور بن أبي عامر عالمًا، محبًا للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وأكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلًا، وكانت أيامه أعيادًا لنضارتها، وأمن الناس فيها».
الدولة العامرية.. هنا بداية سقوط الأندلس
يُنسب للحاجب المنصور بأنه كان أحد أقوى حكام الدولة الإسلامية في الأندلس طيلة بقائها ثمانية قرون، حيث وصلت في عهده الدولة لأقصى اتساع لها، ويصف المؤرخ الأندلسي ابن عذاري، في كتابه «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» فتوحات الدولة العامرية قائلًا: «غزا محمد بن أبي عامر في حياته 54 غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها»، حتى أنه يوصف في التراجم المسيحية بأنه أحد أعظم من حكم الأندلس، وهز عروش الممالك المسيحية على الإطلاق.
يقارن المؤرخ المصري محمد عبد الله عنان في موسوعته «دولة الإسلام في الأندلس» بين أقوى خلفاء بني أمية الخليفة عبد الرحمن الناصر، وبين الحاجب المنصور: «إذا كان عهد الناصر ألمع صفحة في تاريخ إسبانيا الإسلامية، فإن عهد المنصور لا يقل لمعانًا وتألقًا، بل ربما امتاز على عهد الناصر بما أحرزه من تفوق في السلطان والقوى العسكرية، وقد لقى الناصر نفسه على يد النصارى أكثر من هزيمة فادحة، أما المنصور، فقد انتهت إسبانيا النصرانية إلى حالة يُرثى لها من الضعف والتفكك، وقد وصل إلى مواطن لم يبلغها فاتح مسلم من قبل».
حكم الحاجب المنصور الأندلس قرابة ربع قرن، مؤسسًا دولة داخل الدولة، وفي عام 392 هجريًا، كان ابن أبي عامر في إحدى غزواته حين اشتد عليه المرض، وتثاقلت عليه الجروح، فأوصى لابنه عبد الملك بالحجابة من بعده، بينما حصل ابنه الآخر عبد الرحمن على قيادة الجيش، واستمرت الوصاية نحو تسع سنواتٍ على الخليفة هشام المؤيد بالله، وبعد موت عبد الملك خلفه أخوه عبد الرحمن شنجول في الحجابة، وهو الذي يُنسب إليه سقوط الدولة العامرية، وسقوط الدولة الأموية، وبداية سقوط الأندلس.
أعلن عبد الرحمن شنجول نفسه وليًا للعهد، وهو ما كان كافيًا للثورة التي شهدتها الأندلس، والتي انتهت بقتله وخلع الخليفة وتنصيب الأمير الأموي محمد المهدي بالله، الذي تصفه المصادر التاريخية بأنه لم يكن جديرًا بالحُكم، وتسببت سياساته الطائشة في اقتتال الأمراء داخل البيت الأموي.
قام محمد المهدي بسجن الخليفة المخلوع المؤيد بالله، ونفى ولي عهده، وسجن عددًا من كبار الأسرة الأموية، وقرر تسريح 7 آلاف جندي من الجيش، وحين كثر الخصوم عليه دارت معركة كان النصر فيها حليف المهدي، ليضطر الأمير الأموي المستعين بالله الاستعانة بملك قشتالة الإسباني لهزيمة المهدي والوصول إلى الحُكم. وبالرغم من انتصاره وتنصيبه خليفة، إلا أن فلول جيوش المهدي الهارب اتصلت بملك قشتالة وطلبوا مساعدته نظير دفع مبلغٍ ضخم من النقود الذهبية، وحين انتصر الجيش على المستعين بالله دخلوا قرطبة وحرروا الخليفة المؤيد بالله ليتولى فترة خلافته الثانية.
أدرك الخليفة المؤيد بالله أنّ مملكة قشتالة تضرب الأمويين بعضهم ببعض، وأنها خطرًا كبيرًا على مُلكه، ولكثرة الحروب الداخلية التي خاضها لم يكن له طاقة بها، علاوة على أنه لم يستطع أن يرفض طلب الملك الإسباني بإعادة الحصون الحدودية التي فتحها أبوه المستنصر بالله ومن بعده الحاجب المنصور، والتي بلغت نحو 200 حصن حتى توسعت حدود المملكة التي لم تقدم شيئًا بالمقابل للمؤيد بالله، حين حوصر من البربر الذين أسقطوا مُلكة واستباحة قُرطبة، وعيّنوا المستعين بالله مرة أخرى للخلافة الثانية.
لكنه لم يمض سوى ثلاث سنوات حتى قُتل عام 407 هجريًا، وتولي من بعده أربعة أمراء على التوالي (المرتضى بالله، والمستظهر بالله، والمستكفي بالله، والمعتد بالله). وفي عام 418، سقطت الدولة الأموية بعدما أغرقتها الدماء وتمزقت أوصالها من كثرة الصراع على الحُكم، وظهرت حقبة ملوك الطوائف بإعلان كل أمير نفسه خليفة لإمارة صغيرة، وبذلك كانت بداية النهاية لسقوط الأندلس وفقدان فردوس المسلمين الضائع.
منذ 3 سنوات
«لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ».. ما قاله شعراء الأندلس في رثاء المدن المفقودة
https://sasapost.co/almanzor-abu-amer/