إمارة كريت.. دويلة بحرية أسسها ثوار الأندلس المهزومون واستمرت أكثر من قرن
للهزيمة مرارة مادية ومعنوية لا يدانيها أي شيء آخر علمه الإنسان من علقم الحياة ومآسيها، لاسيَّما عندما تصعقه الهزيمة من حيثُ لا يحتسب، بعد أن كانت يداه تقبضان على النصر قبل أن يتفلَّت، وتقع المأساة المروِّعة.
كان هذا الشعور الجارف بالمرارة يحتل كل بقعة في أعماق هؤلاء الآلاف، الذين انتقلوا من خانة المنفيين في داخل وطنهم، إلى لاجئين منفيين لا يعرفون إلى أين ستلقي بهم أمواج البحر المتوسط، الذي أصبح ساحله من أمامهم، وسيوف الجلاد – الذي لم يكتفِ بسحق ثورتهم، وأصرَّ على محو وجودهم ذاته – مُشهَرَة من خلفهم.
ثورة الربض.. قصة انتفاضة شعبية «فاشلة» ضد الحكم الأموي في الأندلس
اعتلوا في انكسارٍ ظهور السفن التي أعدها لإبعادهم أمير الأندلس، الحكم بن هشام الأموي، الذي جلَّله التاريخ بحمل لقب الربضي، نسبة إلى ربضهم – ضاحية خارج قرطبة عاصمة الأندلس – الذي ثاروا على حكومته الجائرة ثورة عارمة عام 202هـ، كادت أن تطيح بحكمه. أفلتَ الحكم بصعوبة بالغة من قبضة الثوار الذين أوشكوا على احتلال قصره، عندما تمكَّن جنوده بأمرٍ منه من الالتفاف إلى ظهور الثوار، وإضرام النار في بيوتهم، فاضطربت أحوالهم بين إكمال حصارهم للأمير الظالم، أو الارتداد فورًا إلى الربض لإنقاذ أهليهم ومساكنهم.
في الساعات التالية، انقلبت الآية، وظهر جُند السلطان، وأعملوا سيوفهم بغير شفقة في الآلاف من الثوار ومناصريهم، وأُعدم المئات منهم، وعلقت جثثهم في أنحاء متفرقة من العاصمة قرطبة. لم يكتفِ الحكم بهذا الانتصار الساحق على سكان الأرباض الذين طالما كانوا مصدرًا للقلاقل ضد حكمه، فأمر بإبادة أهم معاقل الثورة وهو الربض الجنوبي، وتسوية عمرانه بالأرض، ونفي سكانه جميعًا، ليتخلصَ من الحاضنة الشعبية التي خرجت الثورة من بين ظهرانيها.
ذاب بعض الربضيين المطرودين في مدن الأندلس المختلفة، بينما رحل آخرون للإقامة في المغرب الإسلامي على الجهة الأخرى من المتوسط، حيث استقبلتهم دولة الأدارسة العلويين بالترحاب؛ نكاية في خصومهم في الإمارة الأموية الأندلسية. أما الجانب الأكبر من هؤلاء الثوار المنفيين، فقد ذهبت بهم الأقدار بعيدًا في الجغرافيا والتاريخ على حدٍّ سواء.
تِيهٌ في المتوسط
قد يكون الفشل الكبير في فعل عمل عظيمٍ ما، هو ما يدفعك دفعًا إلى صفحة التاريخ، ولو على بعد آلاف الكيلومترات من بقعة الفشل. ليس ما سبق من دعايات التنمية البشرية، ولكنه تجسَّد على أرض الواقع في واقعة تاريخية كان مسرحها سواحل البحر الأبيض المتوسط قبل 12 قرنًا. ولكن لن يكون مثل هذا الأمر نزهةً حالمة، إنما طريق عسير، تكتنفُه التحديات والتخبطات والدماء.
كان جُلُّ ثوار الربض الأندلسيين من المولدين، وهم الأجيال التي نشأت من تزاوج الفاتحين المسلمين عربًا وبربرًا، من سكان الأندلس الأصليين، وكانوا كذلك من الحرفيين وأصحاب المهن اليدوية. سهَّلت تلك الظروف اتجاههم إلى الثورة، فقد كانوا يقاسون ظروفًا معيشية صعبة، تفاقمها الضرائب التي تُثقل كواهلهم، كذلك أكسبتهم تلك المصاعب قدرًا كبيرًا من البأس والعزيمة.
مقطع قصير يلخص في دقيقتيْن تاريخ إمارة كريت الإسلامية:
قرر الآلاف من الثوار المنفيين – وهم من تبقوْا بعد من رحلوا إلى المغرب أو تفرقوا في جهات الأندلس – أن يظلوا مجتمعين معًا، وأن ينشطوا في البحر المتوسط في شن الغارات على الأساطيل والقوافل غير الإسلامية، وذلك ليتقوُّوا بالغنائم لحين اتخاذ خطوتهم التالية بحثًا عن مُستقرٍّ جديد.
برز في صفوف هؤلاء الثوار شخصٌ يُعرَف باسم عمر بن حفص، ويُلَقَّب بأبي حفص البلوطي، وأصبح قائد ذلك الجيش الصغير المتعطش لأي انتصار تعادلُ حلاوته بعض ما قاسوه من مرارة الهزيمة الموجعة والنفي المُذل، وإن كانت بعض المصادر التاريخية تتحدَّث عن أن أبا حفص لم يكن قائد هؤلاء الثوار منذ بداية النفي، وأنه كان بالفعل موجودًا مع مجموعة من القراصنة الأندلسيين في الإسكندرية قبل قدوم الثوار المنفيين، وأنه انضمَّ إليهم، ثم تولى القيادة عليهم لاحقًا.
ولأنه ليسَ من الممكن عمليًّا التجول في مياه البحر للأبد؛ كان لا بد من معقل يسيطرون عليه، ويتخذونه مستقرًّا لهم، ومُنطلقًا لغاراتهم، وحبذا لو كان بعيدًا للغاية عن طائلة أمير الأندلس. ترامت الأنباء إليهم باضطراب الأحوال في مصر لكثرة الثورات والتمردات بها. استغل الأندلسيون تلك الأنباء، واحتلُّوا الإسكندرية احتلالًا مفاجئًا، وجعلوها إمارة مستقلة بذاتها تحت قيادة أبي حفص البلوطي، واستمرت تلك الإمارة لسنواتٍ متتالية.
عام 210هـ، جرَّد العباسيون في عهد الخليفة المأمون بن الرشيد حملة عسكرية قوية، بزعامة أحد أبرز قادتهم العسكريين، وهو عبد الله بن طاهر؛ لاستعادة السيطرة على مصر. نجح عبد الله في الاستيلاء على العاصمة، وأنهى ثورة ابن السُّري الذي كان قد استقلَّ بمصر عن حكم العباسيين.
بعد تأمين العاصمة، أرسل عبد الله إلى أبي حفص البلوطي في الإسكندرية يتوعده بالحرب والهلاك إذا لم يُسلِّم. لم يتردد الأندلسيون في طلب الأمان، والنزول تحت طاعة الخلافة العباسية، وكأنَّهم أرادوا تجنب معركة خاسرة جديدة تقودهم إلى نهايةٍ موجعة جديدة لم يكونوا مستعدين لتكرارها. اشترطَ الأندلسيون – وفي روايات أخرى أن ابن طاهر هو الذي ألزمهم بذلك – أن يُسمَح لهم بمغادرة الإسكندرية إلى أي بقعةٍ يختارونها، فوافق القائد العباسي على الفور، إذ كان بقاء مثل هذا التجمع الثوري الأندلسي الكبير مصدر إزعاج أمني وسياسي له.
غادر ما يقارب 12 ألفًا من الأندلسيين وعائلاتهم في 40 سفينة انطلقت من الإسكندرية في اتجاه الشمال الغربي. كانت الغارات البحرية التي شنَّها الأندلسيون في مناطق شتى من البحر المتوسط قد جعلتهم أكثر خبرة وتحديدًا الآن، فانتقوا هدفًا ثمينًا ليكون مُستقَرَّهم البديل عن الإسكندرية ومن قبلها الأندلس، وكان أيضًا بعيدًا عن متناول أذرع الإمارة الأموية الأندلسية، وهو جزيرة كريت، والتي كانت تخضع آنذاك لحكم البيزنطيين، العدو العتيد للمسلمين منذ بروز وجودهم على خارطة الأحداث في العالم القديم.
كريت والمسلمون.. قصة قرونٍ ثلاث
جزيرة كريت هي خامس أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، وتقع في الجزء الشرقي من المتوسط، تحرس المدخل الواسع المؤدي إلى بحر إيجة الفاصل بين اليونان وتركيا الحاليتيْن، وتتبع الأولى إداريًّا في العصر الحاضر. والجزيرة مستطيلة الشكل تقريبًا، يبلغ طولها حوالي 260 كيلومترًا، بينما يتباين العرض من مكانٍ لآخر بين حوالي 13 و60 كيلومترًا.
هذا الموقع الحيوي للجزيرة مكَّنها من أن تلعب دورًا بارزًا في التجارة البحرية قديمًا، لاسيَّما وهي تتحكم في مسارات الدخول والخروج من بحر إيجة الذي يؤدي إلى عمق أراضي الدولة البيزنطية، التي كانت الكيان الأقوى في ذلك الركن الجنوبي الشرقي من أوروبا، وفي شرقي المتوسط كذلك.
كانت الطبيعة الجبلية للجزيرة تمثل درعًا طبيعيًّا يسمح بالدفاع عنها، وكان ساحلها الشمالي المنحدر حيث رسا الأسطول الأندلسي الغازي عام 212هـ بقيادة أبي حفص عمر البلوطي، يسمح بوجود العديد من المرافئ للصيد وللتجارة وغيرها. وفي المناطق الوسطى والجنوبية من الجزيرة، كانت توجد السهول الخصيبة حيث تنشط الزراعة.
مقطع يُفصِّل بعض المحطات الرئيسة في تاريخ إمارة كريت الإسلامية:
لم تكن تلك الغزوة الأندلسية التي أسست إمارة كريت الإسلامية هي المرة الأولى التي يظهر فيها المسلمون بقوة في تاريخ تلك الجزيرة المتوسطية، التي كانت تُعرَف عربيًّا باسم جزيرة إقريطش. ففي عهد الخليفة عثمان بن عفان، أغار المسلمون عليها عام 34هـ، ثم في منتصف القرن الأول الهجري، في عهد الخليفة الأموي معاوية، جرت محاولة عسكرية لانتزاع كريت من حكم الروم البيزنطيين، العدو الأول للمسلمين آنذاك، لكن المحاولة لم تنجح.
بعد ذلك، ظلَّت الجزيرة في العموم بعيدًا عن طائلة الأساطيل الإسلامية عقودًا؛ لقربها من السواحل اليونانية، وبُعدها النسبي عن السواحل الإسلامية لشمال أفريقيا، وكذلك سواحل الشام، وإن نجحت بعض الغارات في عهدي الوليد بن عبد الملك الأموي أواخر القرن الأول الهجري، وهارون الرشيد العباسي، في الربع الأخير من القرن الذي يليه، في احتلال بعض أجزاء الجزيرة مؤقتًا.
عندما وطأ أبو حفص البلوطي ومن معه أرض كريت، كان تحت قيادته حوالي 3 آلاف مقاتل، والباقي من العائلات والمسنين. شرع الأندلسيون المهجوسون بالمصائر المؤلمة فورًا في بناء مدينة حصينة لهم على الجزيرة، عُرِفَت بربَض الخندق أو (Chandax)، والتي ستتطور منها لاحقًا مدينة إيراكليون، العاصمة الإدارية الحالية لإقليم كريت اليوناني، وذُكِرَ أن راهبًا من سكان كريت هو الذي دلَّ الأندلسيين على أنسب موقع لبناء معقلهم.
تتحدث بعض الروايات التاريخية عن أن أبا حفص كرَّر القصة التي اشتهرت تاريخيًّا عن فاتح الأندلس طارق بن زياد، وأمر بإحراق السفن بعد رسُوِّها ليقطع على نفسه ومن معه أي طريقٍ للعودة أو التراجع أو الاستسلام، فيضمن الحصول على استبسال اليأس والأمل معًا في المعارك والملاحم الوشيكة. لكن يناقض تلك الرواية ما ثبت فعلًا من نجاح الأندلسيين في كريت في تحقيق بعض الانتصارات البحرية ضد البيزنطيين في السنوات الأولى لإقامة إمارتهم، بل تمكنوا من الاستيلاء على العديد من جزر بحر إيجة القريبة من كريت، قبل أن ينتزعها البيزنطيون لاحقًا.
لحسن حظ الأندلسيين، كان هذا الوقت هو الأنسب لغزو كريت؛ فقد كانت الدولة البيزنطية تحت حكم ميخائيل الثاني، في حالة فوضى واضطراب منذ سنوات، نتيجة تمرد القائد العسكري توماس السلافي، ومشكلات سياسية وحربية أخرى، مثل ضغط دولة الأغالبة المسلمة في المغرب الأدنى، على جزيرة صقلية الإيطالية، التي كانت تحت حكم البيزنطيين. أسهمت العوامل السابقة في بطء استجابة الدولة البيزنطية مركزيًّا للغزو الجديد، مما وضع على كاهل الحامية البيزنطية المعزولة بالجزيرة بمفردها في البداية عبء مجابهة «الغزو الإسلامي» الطارئ.
كذلك كانت العاصمة البيزنطية لكريت، مدينة جورتينا، في حالة ضعفٍ، إذ لم تتعافَ بالكامل بعد من آثار زلزال ضخم دهمها قبل سنوات. حاولت الحامية البيزنطية محاربة الأندلسيين وطردهم من كريت، لكنهم هُزموا في غير موقعة، وبدأت رقعة سيطرة الأندلسيين في الاتساع.
في تلك الأثناء كان الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني يجهز حملة عسكرية كبيرة لاستعادة السيطرة على كريت بقيادة القائديْن العسكريَّيْن، فوتينوس وداميانوس. وصلت الحملة قبل مرور عامٍ على نزول الأندلسيين على الجزيرة، واصطدمت معهم في معركة طاحنة، استبسل فيها الأندلسيون، وتمكنوا من قتل داميانوس، وفشلت الحملة وانسحبت من الجزيرة.
في العام الذي يليه، رسا في كريت أسطول بيزنطي ضخم يقوده الأدميرال كريتيروس. مكونٌ من 70 سفينة، وأنزل جيشًا قوامه الآلاف من الجنود المتعطشين للانتقام لسالفيهم، تمكن البيزنطيون هذه المرة من الانتصار على الأندلسيين، وحاصروهم في معقلهم الأخير في ربض الخندق لعدة أشهر استمات فيها الأندلسيون في الصمود ضد الهجمات البيزنطية، رغم أن تحصينات المدينة لم تكن قد اكتمَلت بعد.
من الصعود إلى السقوط.. المختصر الشامل لتاريخ الأندلس
وفي إحدى الليالي، تسلَّل المدافعون من حصنهم، وباغتوا الجيشَ البيزنطي المرابط خارج ربض الخندق، وألحقوا به هزيمة فادحة، ثم تعقبوا قائده الذي فرَّ إلى جزيرة قريبة، وقتلوه، ثم صلبوه، ثم استعادوا ما فقدوه من مناطق سيطرتهم في كريت، وسيطروا على العاصمة البيزنطية جورتينا. بعد ذلك اندفع الأندلسيون للقيام بغزوات بحرية سيطرت أساطيلهم خلالها على العديد من جزر بحر إيجة، بعد أن توغلوا فيه إلى الشمال، وسحقوا أسطولًا بيزنطيًّا كبيرًا بزعامة الأدميرال أوريفاس في موقعة ثاسوس البحرية عام 214هـ.
لجأ البيزنطيون أيضًا لطلب التحالف من قوة إسلامية كبيرة ضد إمارة كريت الإسلامية الناشئة، فراسلوا أمير الأندلس عبد الرحمن الثاني بن الحكم الربضي، عدو مسلمي كريت الأصيل، الذي نفاهم وأفنى ربَضهم الثائر، فأجابهم عبد الرحمن إلى طلبهم قولًا لا فِعلًا، ولعل ذلك يرجع إلى آلاف الأميال من أمواج البحر التي تفصله عن الأندلسيين المتمردين، فلا خطر منهم يجبره على التحالف الفعلي مع قوة مسيحية كانت وما تزال عدوًّا للمسلمين، وحاربها أجداده الأمويون في المشرق قديمًا.
لم يكف البيزنطيون عن محاولة استعادة جزيرة كريت، فشنُّوا العديد من الحملات البحرية التي دفعوا بها المسلمين إلى كريت بعد أن استعادوا منهم كل الجزر الأخرى. وكادت حملة لاحقة على كريت نفسها في أربعينيات القرن التاسع الميلادي أن تقضي على الوجود الأندلسي، بعد أن حاصرت المسلمين مجدَّدا في ربض الخندق عام 843م، لولا اضطرار قائد الحملة للمغادرة إلى القسطنطينية عندما بلغته أنباء نزاع سياسي كبير بها. عندئذٍ شنَّ الأندلسيون هجومًا مضادًا ناجحًا قضوا به على من بقي من الحملة في كريت.
بل إن البيزنطيين عام 853م أغاروا على ميناء دمياط المصري ودمروا بعض السفن الراسية فيه، بحجة أنها كانت معدة للانطلاق نحو كريت دعمًا لإمارتها الإسلامية.
تدريجيًّا وخلال سنوات، فرض أبو حفص سيطرته على كامل الجزيرة، ومع توقف الهجمات البيزنطية الكبرى على كريت لسنوات، انصرفت جهوده إلى العمران، وكذلك إعادة بناء جيشه وأسطوله المنهكيْن.
إمارة إسلامية مزدهرة لا تضع سلاحها
من أجل تعمير الجزيرة، ومضاعفة الأنشطة الاقتصادية والعسكرية بها، فتح أبو حفص الأبواب أمام توافد المنفيين الأندلسيين والمغامرين المسلمين إليها، وكذلك اليهود الفارين من الاضطهاد المسيحي في أوروبا، وأيضًا التجار من مختلف مناطق المتوسط، وحتى بعض المتمردين البيزنطيين، والمرتزقة المحترفين. وأعانه على إدارة الجزيرة رضا جانب كبير من سكانها الأصليين من المسيحيين الأرثوذوكس عن الحكم الإسلامي؛ لتسامحه الديني، ولتخفيف الضرائب جزئيًّا، مقارنة بما كان عليه الحال في العهد البيزنطي. وهكذا أخذت أحوال الجزيرة في الازدهار، لاسيَّما مع انحسار الحملات البيزنطية التي تستهدفها ولو إلى حين.
كان هذا الازدهار الاقتصادي الكبير يرجع في جزء منه إلى توارد غنائم الغارات البحرية، لاسيَّما ضد أساطيل البيزنطيين التجارية والعسكرية، لكنه يعود في الجزء الأكبر إلى تطور الزراعة والتجارة كثيرًا في تلك الجزيرة الغنية، ذات الموقع الفريد الذي تمر به أهم خطوط التجارة البحرية في شرق المتوسط، بل يمكن تشبيه كريت في زمنها كمركز تجاري وبحري حيوي، بحال جزيرة سنغافورة، أو دبي، أو الدوحة في العصر الحالي. وقد كشفت دراسة العملات النقدية العائدة إلى عصر الإمارة، والتي كانت الأثر الإسلامي الذي بقي رغم عواصف الزمن، عن ارتفاعٍ كبير في مستوى المعيشة بين سكانها، وكثرة الأغنياء بينهم.
عام 240هـ، توُفي أبو حفص البلوطي بعد أن قضى زهاء 30 عامًا أميرًا لكريت، وقد خلَّفها قوية، وأعقبه في الإمارة ابنه شعيب بن عُمر.
على الصعيد الحربي، استمرت إمارة كريت قوة عسكرية لها شأن في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، لعقودٍ متتالية، لاسيّما وقد التحق بها العديد من المحاربين المسلمين من الشام وتونس وسواها، وأيضًا من البيزنطيين الذين اعتنقوا الإسلام. ولذا تتابعت هجمات أساطيلها البحرية ضد السواحل والجزر البيزنطية، مما تسبب في هجر سكان بعض تلك المناطق لها، ولجوئهم إلى الداخل.
عام 873هـ، وبزعامة فوتيوس – بيزنطي منشق دخل الإسلام – والذي عينه الأمير شعيب بن أبي حفص قائدًا لأسطول الإمارة، توغَّل المسلمون في بحر إيجة، ومنه إلى بحر مرمرة، وأغاروا على بعض المناطق البيزنطية القريبة من العاصمة القسطنطينية، لكن ما لبث الأسطول البيزنطي أن هزم أسطول إمارة كريت في موقعة كارديا البحرية في إيجة، ودفعه للارتداد إلى الجزيرة. كذلك تمكَّن مسلمو كريت من السيطرة لبضع سنوات على مدينة أثينا العاصمة التاريخية – والحالية – لليونان، حتى عام 902م.
استفادت إمارة كريت في أواخر القرن التاسع الميلادي من انشغال البيزنطيين بالحروب مع العباسيين في شمال الشام والأناضول، فخفَّ الضغط البيزنطي على الجزيرة ولو إلى حين، بعد أن تفاقم في أعقاب نجاح الأسطول البيزنطي في سحق أسطول كريت في خليج كورنيث اليوناني عام 879م.
كذلك بدأت أساطيل بعض الإمارات الشامية تُغير هي الأخرى على السواحل اليونانية وجزر بحر إيجة الخاضعة للبيزنطيين، حتى إنهم أغاروا على سالونيك اليونانية عام 904م، والتي كانت ثاني أكبر المدن البيزنطية آنذاك، ونهبوها، وأسروا أكثر من 20 ألفًا من سكانها، بيعوا رقيقًا في أسواق كريت، والتي كانت تتخذها أساطيل الشام محطة للإمداد والدعم خلال غاراتها ضد البيزنطيين. أسهمت تلك الجهود أيضًا في التقاط إمارة كريت لأنفاسها لبعض الوقت في صراعها الطويل مع البيزنطيين.
بل في عام 912م، شنَّ أسطول إمارة كريت هجومًا مشتركًا ضد الأسطول البيزنطي، متحالفًا مع أسطول شامي، وسُحق الأسطول البيزنطي سحقًا شبه تام.
مصير السقوط المحتوم والحصار الأخير
مع مرور العقود، بدأ الضعف يسري في أوصال إمارة كريت الإسلامية، وجرت عليها سُنَن الصعود والهبوط المعروفة للأمم. تزامن ذلك مع صحوة بارزة شهدتها الإمبراطورية البيزنطية في منتصف القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، لاسيَّما بعد نجاحها في تحقيق انتصارات كبيرة متتالية ضد خصومها الحمدانيين حكام شمال الشام المسلمين، وكذلك التصدي للهجوم الكبير الذي شنه الفايكينج الروس على شمال الأناضول في العقد الخامس من القرن العاشر الميلادي. اضطر حكام كريت المتأخرون إلى الخضوع للبيزنطيين، ودفع الجزية لهم، بعد أن كان أبو حفص وابنه قد فرضا الجزية على بعض الجزر والمناطق البيزنطية مقابل عدم الإغارة عليها.
عام 949م، نجحت إمارة كريت بصعوبة في التصدي لحملة بيزنطية كبيرة أرسلها الإمبراطور قسطنطين السابع، بعد أن باغتوها كالعادة بهجوم مضادٍ مفاجئ. لكن عام 960، جهَّز القائد البيزنطي القوي نقفور فوكاس، صاحب الانتصارات البيزنطية الكبيرة في الشام، حملة عسكرية هائلة للقضاء على إمارة كريت الإسلامية. لم تنجح أساطيل الإمارة وجيوشها في إعاقة إنزال الجيش البيزنطي الضخم إلى الجزيرة، والتي لم تتعرض لمثله منذ أكثر من قرن من الزمان.
حوصر المسلمون في حصن ربض الخندق، كما حدث منذ 130 عامًا أثناء تأسيس الإمارة، لكن هذه المرة استمر الحصار عامًا كاملًا، أُنهِكَ فيه المدافعون بشدة، ليتمكن البيزنطيون في مارس (آذار) عام 961م من اقتحام ربض الخندق، وقتل سكانها واسترقاقهم، وتدمير معظم أحيائها ومساجدها ومعالمها، ولذا لم يبقَ اليوم أثر عمراني للوجود الإسلامي في كريت، كما حدث في مناطق أخرى انحسر عنها المسلمون كالأندلس. وأُسر الأمير العاشر من سلالة أبي حفص البلوطي، وكان اسمه عبد العزيز بن شعيب، وأُرسل مقيدًا إلى القسطنطينية.
ولكن لم تنتهِ قصة جزيرة كريت مع حكم المسلمين عند هذا الحد، فبعد قرون عديدة، وتحديدًا في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، تمكن العثمانيون من السيطرة على جزيرة كريت، في البداية جزئيًّا، ثم خلال سنوات بسطوا سلطانهم على كافة أجزائها بعد أن كانت تخضع سابقًا لحكم جمهورية البندقية الإيطالية. استمرَّت السيطرة العثمانية زهاء قرنيْن ونصف، رغم ما تخلَّلها من بعض الحروب الخارجية والثورات الداخلية، حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، حيث استقلَّت الجزيرة مستغلة الضعف الشديد الذي اعترى الدولة العثمانية، وانضمَّت لليونان عام 1898م.
عندما غزا المسلمون أثينا .. الأندلس المنفية ج1.. القصة التي لم تسمع بها من قبل
https://sasapost.co/history-islamic-emirate-of-crete/
للهزيمة مرارة مادية ومعنوية لا يدانيها أي شيء آخر علمه الإنسان من علقم الحياة ومآسيها، لاسيَّما عندما تصعقه الهزيمة من حيثُ لا يحتسب، بعد أن كانت يداه تقبضان على النصر قبل أن يتفلَّت، وتقع المأساة المروِّعة.
كان هذا الشعور الجارف بالمرارة يحتل كل بقعة في أعماق هؤلاء الآلاف، الذين انتقلوا من خانة المنفيين في داخل وطنهم، إلى لاجئين منفيين لا يعرفون إلى أين ستلقي بهم أمواج البحر المتوسط، الذي أصبح ساحله من أمامهم، وسيوف الجلاد – الذي لم يكتفِ بسحق ثورتهم، وأصرَّ على محو وجودهم ذاته – مُشهَرَة من خلفهم.
ثورة الربض.. قصة انتفاضة شعبية «فاشلة» ضد الحكم الأموي في الأندلس
اعتلوا في انكسارٍ ظهور السفن التي أعدها لإبعادهم أمير الأندلس، الحكم بن هشام الأموي، الذي جلَّله التاريخ بحمل لقب الربضي، نسبة إلى ربضهم – ضاحية خارج قرطبة عاصمة الأندلس – الذي ثاروا على حكومته الجائرة ثورة عارمة عام 202هـ، كادت أن تطيح بحكمه. أفلتَ الحكم بصعوبة بالغة من قبضة الثوار الذين أوشكوا على احتلال قصره، عندما تمكَّن جنوده بأمرٍ منه من الالتفاف إلى ظهور الثوار، وإضرام النار في بيوتهم، فاضطربت أحوالهم بين إكمال حصارهم للأمير الظالم، أو الارتداد فورًا إلى الربض لإنقاذ أهليهم ومساكنهم.
في الساعات التالية، انقلبت الآية، وظهر جُند السلطان، وأعملوا سيوفهم بغير شفقة في الآلاف من الثوار ومناصريهم، وأُعدم المئات منهم، وعلقت جثثهم في أنحاء متفرقة من العاصمة قرطبة. لم يكتفِ الحكم بهذا الانتصار الساحق على سكان الأرباض الذين طالما كانوا مصدرًا للقلاقل ضد حكمه، فأمر بإبادة أهم معاقل الثورة وهو الربض الجنوبي، وتسوية عمرانه بالأرض، ونفي سكانه جميعًا، ليتخلصَ من الحاضنة الشعبية التي خرجت الثورة من بين ظهرانيها.
ذاب بعض الربضيين المطرودين في مدن الأندلس المختلفة، بينما رحل آخرون للإقامة في المغرب الإسلامي على الجهة الأخرى من المتوسط، حيث استقبلتهم دولة الأدارسة العلويين بالترحاب؛ نكاية في خصومهم في الإمارة الأموية الأندلسية. أما الجانب الأكبر من هؤلاء الثوار المنفيين، فقد ذهبت بهم الأقدار بعيدًا في الجغرافيا والتاريخ على حدٍّ سواء.
تِيهٌ في المتوسط
قد يكون الفشل الكبير في فعل عمل عظيمٍ ما، هو ما يدفعك دفعًا إلى صفحة التاريخ، ولو على بعد آلاف الكيلومترات من بقعة الفشل. ليس ما سبق من دعايات التنمية البشرية، ولكنه تجسَّد على أرض الواقع في واقعة تاريخية كان مسرحها سواحل البحر الأبيض المتوسط قبل 12 قرنًا. ولكن لن يكون مثل هذا الأمر نزهةً حالمة، إنما طريق عسير، تكتنفُه التحديات والتخبطات والدماء.
كان جُلُّ ثوار الربض الأندلسيين من المولدين، وهم الأجيال التي نشأت من تزاوج الفاتحين المسلمين عربًا وبربرًا، من سكان الأندلس الأصليين، وكانوا كذلك من الحرفيين وأصحاب المهن اليدوية. سهَّلت تلك الظروف اتجاههم إلى الثورة، فقد كانوا يقاسون ظروفًا معيشية صعبة، تفاقمها الضرائب التي تُثقل كواهلهم، كذلك أكسبتهم تلك المصاعب قدرًا كبيرًا من البأس والعزيمة.
مقطع قصير يلخص في دقيقتيْن تاريخ إمارة كريت الإسلامية:
قرر الآلاف من الثوار المنفيين – وهم من تبقوْا بعد من رحلوا إلى المغرب أو تفرقوا في جهات الأندلس – أن يظلوا مجتمعين معًا، وأن ينشطوا في البحر المتوسط في شن الغارات على الأساطيل والقوافل غير الإسلامية، وذلك ليتقوُّوا بالغنائم لحين اتخاذ خطوتهم التالية بحثًا عن مُستقرٍّ جديد.
برز في صفوف هؤلاء الثوار شخصٌ يُعرَف باسم عمر بن حفص، ويُلَقَّب بأبي حفص البلوطي، وأصبح قائد ذلك الجيش الصغير المتعطش لأي انتصار تعادلُ حلاوته بعض ما قاسوه من مرارة الهزيمة الموجعة والنفي المُذل، وإن كانت بعض المصادر التاريخية تتحدَّث عن أن أبا حفص لم يكن قائد هؤلاء الثوار منذ بداية النفي، وأنه كان بالفعل موجودًا مع مجموعة من القراصنة الأندلسيين في الإسكندرية قبل قدوم الثوار المنفيين، وأنه انضمَّ إليهم، ثم تولى القيادة عليهم لاحقًا.
ولأنه ليسَ من الممكن عمليًّا التجول في مياه البحر للأبد؛ كان لا بد من معقل يسيطرون عليه، ويتخذونه مستقرًّا لهم، ومُنطلقًا لغاراتهم، وحبذا لو كان بعيدًا للغاية عن طائلة أمير الأندلس. ترامت الأنباء إليهم باضطراب الأحوال في مصر لكثرة الثورات والتمردات بها. استغل الأندلسيون تلك الأنباء، واحتلُّوا الإسكندرية احتلالًا مفاجئًا، وجعلوها إمارة مستقلة بذاتها تحت قيادة أبي حفص البلوطي، واستمرت تلك الإمارة لسنواتٍ متتالية.
عام 210هـ، جرَّد العباسيون في عهد الخليفة المأمون بن الرشيد حملة عسكرية قوية، بزعامة أحد أبرز قادتهم العسكريين، وهو عبد الله بن طاهر؛ لاستعادة السيطرة على مصر. نجح عبد الله في الاستيلاء على العاصمة، وأنهى ثورة ابن السُّري الذي كان قد استقلَّ بمصر عن حكم العباسيين.
بعد تأمين العاصمة، أرسل عبد الله إلى أبي حفص البلوطي في الإسكندرية يتوعده بالحرب والهلاك إذا لم يُسلِّم. لم يتردد الأندلسيون في طلب الأمان، والنزول تحت طاعة الخلافة العباسية، وكأنَّهم أرادوا تجنب معركة خاسرة جديدة تقودهم إلى نهايةٍ موجعة جديدة لم يكونوا مستعدين لتكرارها. اشترطَ الأندلسيون – وفي روايات أخرى أن ابن طاهر هو الذي ألزمهم بذلك – أن يُسمَح لهم بمغادرة الإسكندرية إلى أي بقعةٍ يختارونها، فوافق القائد العباسي على الفور، إذ كان بقاء مثل هذا التجمع الثوري الأندلسي الكبير مصدر إزعاج أمني وسياسي له.
غادر ما يقارب 12 ألفًا من الأندلسيين وعائلاتهم في 40 سفينة انطلقت من الإسكندرية في اتجاه الشمال الغربي. كانت الغارات البحرية التي شنَّها الأندلسيون في مناطق شتى من البحر المتوسط قد جعلتهم أكثر خبرة وتحديدًا الآن، فانتقوا هدفًا ثمينًا ليكون مُستقَرَّهم البديل عن الإسكندرية ومن قبلها الأندلس، وكان أيضًا بعيدًا عن متناول أذرع الإمارة الأموية الأندلسية، وهو جزيرة كريت، والتي كانت تخضع آنذاك لحكم البيزنطيين، العدو العتيد للمسلمين منذ بروز وجودهم على خارطة الأحداث في العالم القديم.
كريت والمسلمون.. قصة قرونٍ ثلاث
جزيرة كريت هي خامس أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، وتقع في الجزء الشرقي من المتوسط، تحرس المدخل الواسع المؤدي إلى بحر إيجة الفاصل بين اليونان وتركيا الحاليتيْن، وتتبع الأولى إداريًّا في العصر الحاضر. والجزيرة مستطيلة الشكل تقريبًا، يبلغ طولها حوالي 260 كيلومترًا، بينما يتباين العرض من مكانٍ لآخر بين حوالي 13 و60 كيلومترًا.
هذا الموقع الحيوي للجزيرة مكَّنها من أن تلعب دورًا بارزًا في التجارة البحرية قديمًا، لاسيَّما وهي تتحكم في مسارات الدخول والخروج من بحر إيجة الذي يؤدي إلى عمق أراضي الدولة البيزنطية، التي كانت الكيان الأقوى في ذلك الركن الجنوبي الشرقي من أوروبا، وفي شرقي المتوسط كذلك.
كانت الطبيعة الجبلية للجزيرة تمثل درعًا طبيعيًّا يسمح بالدفاع عنها، وكان ساحلها الشمالي المنحدر حيث رسا الأسطول الأندلسي الغازي عام 212هـ بقيادة أبي حفص عمر البلوطي، يسمح بوجود العديد من المرافئ للصيد وللتجارة وغيرها. وفي المناطق الوسطى والجنوبية من الجزيرة، كانت توجد السهول الخصيبة حيث تنشط الزراعة.
مقطع يُفصِّل بعض المحطات الرئيسة في تاريخ إمارة كريت الإسلامية:
لم تكن تلك الغزوة الأندلسية التي أسست إمارة كريت الإسلامية هي المرة الأولى التي يظهر فيها المسلمون بقوة في تاريخ تلك الجزيرة المتوسطية، التي كانت تُعرَف عربيًّا باسم جزيرة إقريطش. ففي عهد الخليفة عثمان بن عفان، أغار المسلمون عليها عام 34هـ، ثم في منتصف القرن الأول الهجري، في عهد الخليفة الأموي معاوية، جرت محاولة عسكرية لانتزاع كريت من حكم الروم البيزنطيين، العدو الأول للمسلمين آنذاك، لكن المحاولة لم تنجح.
بعد ذلك، ظلَّت الجزيرة في العموم بعيدًا عن طائلة الأساطيل الإسلامية عقودًا؛ لقربها من السواحل اليونانية، وبُعدها النسبي عن السواحل الإسلامية لشمال أفريقيا، وكذلك سواحل الشام، وإن نجحت بعض الغارات في عهدي الوليد بن عبد الملك الأموي أواخر القرن الأول الهجري، وهارون الرشيد العباسي، في الربع الأخير من القرن الذي يليه، في احتلال بعض أجزاء الجزيرة مؤقتًا.
عندما وطأ أبو حفص البلوطي ومن معه أرض كريت، كان تحت قيادته حوالي 3 آلاف مقاتل، والباقي من العائلات والمسنين. شرع الأندلسيون المهجوسون بالمصائر المؤلمة فورًا في بناء مدينة حصينة لهم على الجزيرة، عُرِفَت بربَض الخندق أو (Chandax)، والتي ستتطور منها لاحقًا مدينة إيراكليون، العاصمة الإدارية الحالية لإقليم كريت اليوناني، وذُكِرَ أن راهبًا من سكان كريت هو الذي دلَّ الأندلسيين على أنسب موقع لبناء معقلهم.
تتحدث بعض الروايات التاريخية عن أن أبا حفص كرَّر القصة التي اشتهرت تاريخيًّا عن فاتح الأندلس طارق بن زياد، وأمر بإحراق السفن بعد رسُوِّها ليقطع على نفسه ومن معه أي طريقٍ للعودة أو التراجع أو الاستسلام، فيضمن الحصول على استبسال اليأس والأمل معًا في المعارك والملاحم الوشيكة. لكن يناقض تلك الرواية ما ثبت فعلًا من نجاح الأندلسيين في كريت في تحقيق بعض الانتصارات البحرية ضد البيزنطيين في السنوات الأولى لإقامة إمارتهم، بل تمكنوا من الاستيلاء على العديد من جزر بحر إيجة القريبة من كريت، قبل أن ينتزعها البيزنطيون لاحقًا.
لحسن حظ الأندلسيين، كان هذا الوقت هو الأنسب لغزو كريت؛ فقد كانت الدولة البيزنطية تحت حكم ميخائيل الثاني، في حالة فوضى واضطراب منذ سنوات، نتيجة تمرد القائد العسكري توماس السلافي، ومشكلات سياسية وحربية أخرى، مثل ضغط دولة الأغالبة المسلمة في المغرب الأدنى، على جزيرة صقلية الإيطالية، التي كانت تحت حكم البيزنطيين. أسهمت العوامل السابقة في بطء استجابة الدولة البيزنطية مركزيًّا للغزو الجديد، مما وضع على كاهل الحامية البيزنطية المعزولة بالجزيرة بمفردها في البداية عبء مجابهة «الغزو الإسلامي» الطارئ.
كذلك كانت العاصمة البيزنطية لكريت، مدينة جورتينا، في حالة ضعفٍ، إذ لم تتعافَ بالكامل بعد من آثار زلزال ضخم دهمها قبل سنوات. حاولت الحامية البيزنطية محاربة الأندلسيين وطردهم من كريت، لكنهم هُزموا في غير موقعة، وبدأت رقعة سيطرة الأندلسيين في الاتساع.
في تلك الأثناء كان الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني يجهز حملة عسكرية كبيرة لاستعادة السيطرة على كريت بقيادة القائديْن العسكريَّيْن، فوتينوس وداميانوس. وصلت الحملة قبل مرور عامٍ على نزول الأندلسيين على الجزيرة، واصطدمت معهم في معركة طاحنة، استبسل فيها الأندلسيون، وتمكنوا من قتل داميانوس، وفشلت الحملة وانسحبت من الجزيرة.
في العام الذي يليه، رسا في كريت أسطول بيزنطي ضخم يقوده الأدميرال كريتيروس. مكونٌ من 70 سفينة، وأنزل جيشًا قوامه الآلاف من الجنود المتعطشين للانتقام لسالفيهم، تمكن البيزنطيون هذه المرة من الانتصار على الأندلسيين، وحاصروهم في معقلهم الأخير في ربض الخندق لعدة أشهر استمات فيها الأندلسيون في الصمود ضد الهجمات البيزنطية، رغم أن تحصينات المدينة لم تكن قد اكتمَلت بعد.
من الصعود إلى السقوط.. المختصر الشامل لتاريخ الأندلس
وفي إحدى الليالي، تسلَّل المدافعون من حصنهم، وباغتوا الجيشَ البيزنطي المرابط خارج ربض الخندق، وألحقوا به هزيمة فادحة، ثم تعقبوا قائده الذي فرَّ إلى جزيرة قريبة، وقتلوه، ثم صلبوه، ثم استعادوا ما فقدوه من مناطق سيطرتهم في كريت، وسيطروا على العاصمة البيزنطية جورتينا. بعد ذلك اندفع الأندلسيون للقيام بغزوات بحرية سيطرت أساطيلهم خلالها على العديد من جزر بحر إيجة، بعد أن توغلوا فيه إلى الشمال، وسحقوا أسطولًا بيزنطيًّا كبيرًا بزعامة الأدميرال أوريفاس في موقعة ثاسوس البحرية عام 214هـ.
لجأ البيزنطيون أيضًا لطلب التحالف من قوة إسلامية كبيرة ضد إمارة كريت الإسلامية الناشئة، فراسلوا أمير الأندلس عبد الرحمن الثاني بن الحكم الربضي، عدو مسلمي كريت الأصيل، الذي نفاهم وأفنى ربَضهم الثائر، فأجابهم عبد الرحمن إلى طلبهم قولًا لا فِعلًا، ولعل ذلك يرجع إلى آلاف الأميال من أمواج البحر التي تفصله عن الأندلسيين المتمردين، فلا خطر منهم يجبره على التحالف الفعلي مع قوة مسيحية كانت وما تزال عدوًّا للمسلمين، وحاربها أجداده الأمويون في المشرق قديمًا.
لم يكف البيزنطيون عن محاولة استعادة جزيرة كريت، فشنُّوا العديد من الحملات البحرية التي دفعوا بها المسلمين إلى كريت بعد أن استعادوا منهم كل الجزر الأخرى. وكادت حملة لاحقة على كريت نفسها في أربعينيات القرن التاسع الميلادي أن تقضي على الوجود الأندلسي، بعد أن حاصرت المسلمين مجدَّدا في ربض الخندق عام 843م، لولا اضطرار قائد الحملة للمغادرة إلى القسطنطينية عندما بلغته أنباء نزاع سياسي كبير بها. عندئذٍ شنَّ الأندلسيون هجومًا مضادًا ناجحًا قضوا به على من بقي من الحملة في كريت.
بل إن البيزنطيين عام 853م أغاروا على ميناء دمياط المصري ودمروا بعض السفن الراسية فيه، بحجة أنها كانت معدة للانطلاق نحو كريت دعمًا لإمارتها الإسلامية.
تدريجيًّا وخلال سنوات، فرض أبو حفص سيطرته على كامل الجزيرة، ومع توقف الهجمات البيزنطية الكبرى على كريت لسنوات، انصرفت جهوده إلى العمران، وكذلك إعادة بناء جيشه وأسطوله المنهكيْن.
إمارة إسلامية مزدهرة لا تضع سلاحها
من أجل تعمير الجزيرة، ومضاعفة الأنشطة الاقتصادية والعسكرية بها، فتح أبو حفص الأبواب أمام توافد المنفيين الأندلسيين والمغامرين المسلمين إليها، وكذلك اليهود الفارين من الاضطهاد المسيحي في أوروبا، وأيضًا التجار من مختلف مناطق المتوسط، وحتى بعض المتمردين البيزنطيين، والمرتزقة المحترفين. وأعانه على إدارة الجزيرة رضا جانب كبير من سكانها الأصليين من المسيحيين الأرثوذوكس عن الحكم الإسلامي؛ لتسامحه الديني، ولتخفيف الضرائب جزئيًّا، مقارنة بما كان عليه الحال في العهد البيزنطي. وهكذا أخذت أحوال الجزيرة في الازدهار، لاسيَّما مع انحسار الحملات البيزنطية التي تستهدفها ولو إلى حين.
كان هذا الازدهار الاقتصادي الكبير يرجع في جزء منه إلى توارد غنائم الغارات البحرية، لاسيَّما ضد أساطيل البيزنطيين التجارية والعسكرية، لكنه يعود في الجزء الأكبر إلى تطور الزراعة والتجارة كثيرًا في تلك الجزيرة الغنية، ذات الموقع الفريد الذي تمر به أهم خطوط التجارة البحرية في شرق المتوسط، بل يمكن تشبيه كريت في زمنها كمركز تجاري وبحري حيوي، بحال جزيرة سنغافورة، أو دبي، أو الدوحة في العصر الحالي. وقد كشفت دراسة العملات النقدية العائدة إلى عصر الإمارة، والتي كانت الأثر الإسلامي الذي بقي رغم عواصف الزمن، عن ارتفاعٍ كبير في مستوى المعيشة بين سكانها، وكثرة الأغنياء بينهم.
عام 240هـ، توُفي أبو حفص البلوطي بعد أن قضى زهاء 30 عامًا أميرًا لكريت، وقد خلَّفها قوية، وأعقبه في الإمارة ابنه شعيب بن عُمر.
على الصعيد الحربي، استمرت إمارة كريت قوة عسكرية لها شأن في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، لعقودٍ متتالية، لاسيّما وقد التحق بها العديد من المحاربين المسلمين من الشام وتونس وسواها، وأيضًا من البيزنطيين الذين اعتنقوا الإسلام. ولذا تتابعت هجمات أساطيلها البحرية ضد السواحل والجزر البيزنطية، مما تسبب في هجر سكان بعض تلك المناطق لها، ولجوئهم إلى الداخل.
عام 873هـ، وبزعامة فوتيوس – بيزنطي منشق دخل الإسلام – والذي عينه الأمير شعيب بن أبي حفص قائدًا لأسطول الإمارة، توغَّل المسلمون في بحر إيجة، ومنه إلى بحر مرمرة، وأغاروا على بعض المناطق البيزنطية القريبة من العاصمة القسطنطينية، لكن ما لبث الأسطول البيزنطي أن هزم أسطول إمارة كريت في موقعة كارديا البحرية في إيجة، ودفعه للارتداد إلى الجزيرة. كذلك تمكَّن مسلمو كريت من السيطرة لبضع سنوات على مدينة أثينا العاصمة التاريخية – والحالية – لليونان، حتى عام 902م.
استفادت إمارة كريت في أواخر القرن التاسع الميلادي من انشغال البيزنطيين بالحروب مع العباسيين في شمال الشام والأناضول، فخفَّ الضغط البيزنطي على الجزيرة ولو إلى حين، بعد أن تفاقم في أعقاب نجاح الأسطول البيزنطي في سحق أسطول كريت في خليج كورنيث اليوناني عام 879م.
كذلك بدأت أساطيل بعض الإمارات الشامية تُغير هي الأخرى على السواحل اليونانية وجزر بحر إيجة الخاضعة للبيزنطيين، حتى إنهم أغاروا على سالونيك اليونانية عام 904م، والتي كانت ثاني أكبر المدن البيزنطية آنذاك، ونهبوها، وأسروا أكثر من 20 ألفًا من سكانها، بيعوا رقيقًا في أسواق كريت، والتي كانت تتخذها أساطيل الشام محطة للإمداد والدعم خلال غاراتها ضد البيزنطيين. أسهمت تلك الجهود أيضًا في التقاط إمارة كريت لأنفاسها لبعض الوقت في صراعها الطويل مع البيزنطيين.
بل في عام 912م، شنَّ أسطول إمارة كريت هجومًا مشتركًا ضد الأسطول البيزنطي، متحالفًا مع أسطول شامي، وسُحق الأسطول البيزنطي سحقًا شبه تام.
مصير السقوط المحتوم والحصار الأخير
مع مرور العقود، بدأ الضعف يسري في أوصال إمارة كريت الإسلامية، وجرت عليها سُنَن الصعود والهبوط المعروفة للأمم. تزامن ذلك مع صحوة بارزة شهدتها الإمبراطورية البيزنطية في منتصف القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، لاسيَّما بعد نجاحها في تحقيق انتصارات كبيرة متتالية ضد خصومها الحمدانيين حكام شمال الشام المسلمين، وكذلك التصدي للهجوم الكبير الذي شنه الفايكينج الروس على شمال الأناضول في العقد الخامس من القرن العاشر الميلادي. اضطر حكام كريت المتأخرون إلى الخضوع للبيزنطيين، ودفع الجزية لهم، بعد أن كان أبو حفص وابنه قد فرضا الجزية على بعض الجزر والمناطق البيزنطية مقابل عدم الإغارة عليها.
عام 949م، نجحت إمارة كريت بصعوبة في التصدي لحملة بيزنطية كبيرة أرسلها الإمبراطور قسطنطين السابع، بعد أن باغتوها كالعادة بهجوم مضادٍ مفاجئ. لكن عام 960، جهَّز القائد البيزنطي القوي نقفور فوكاس، صاحب الانتصارات البيزنطية الكبيرة في الشام، حملة عسكرية هائلة للقضاء على إمارة كريت الإسلامية. لم تنجح أساطيل الإمارة وجيوشها في إعاقة إنزال الجيش البيزنطي الضخم إلى الجزيرة، والتي لم تتعرض لمثله منذ أكثر من قرن من الزمان.
حوصر المسلمون في حصن ربض الخندق، كما حدث منذ 130 عامًا أثناء تأسيس الإمارة، لكن هذه المرة استمر الحصار عامًا كاملًا، أُنهِكَ فيه المدافعون بشدة، ليتمكن البيزنطيون في مارس (آذار) عام 961م من اقتحام ربض الخندق، وقتل سكانها واسترقاقهم، وتدمير معظم أحيائها ومساجدها ومعالمها، ولذا لم يبقَ اليوم أثر عمراني للوجود الإسلامي في كريت، كما حدث في مناطق أخرى انحسر عنها المسلمون كالأندلس. وأُسر الأمير العاشر من سلالة أبي حفص البلوطي، وكان اسمه عبد العزيز بن شعيب، وأُرسل مقيدًا إلى القسطنطينية.
ولكن لم تنتهِ قصة جزيرة كريت مع حكم المسلمين عند هذا الحد، فبعد قرون عديدة، وتحديدًا في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، تمكن العثمانيون من السيطرة على جزيرة كريت، في البداية جزئيًّا، ثم خلال سنوات بسطوا سلطانهم على كافة أجزائها بعد أن كانت تخضع سابقًا لحكم جمهورية البندقية الإيطالية. استمرَّت السيطرة العثمانية زهاء قرنيْن ونصف، رغم ما تخلَّلها من بعض الحروب الخارجية والثورات الداخلية، حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، حيث استقلَّت الجزيرة مستغلة الضعف الشديد الذي اعترى الدولة العثمانية، وانضمَّت لليونان عام 1898م.
عندما غزا المسلمون أثينا .. الأندلس المنفية ج1.. القصة التي لم تسمع بها من قبل
https://sasapost.co/history-islamic-emirate-of-crete/