لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟



لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟ 40453


لست أدري من نشر دعابة مفادها أن الدول المتقدمة في شمال أوروبا والتي تحتل المراتب الأولى في جودة الحياة والحكامة والتدبير، ومنها "النرويج"، إنما هي دول ناجحة لأنها تطبق "الإسلام الصحيح"، الذي تخلينا عنه نحن.
بل إن الاحتكاك الأول للمسلمين مع نموذج الدولة الغربية الحديثة خلال القرن التاسع عشر وبدايات العشرين قد اكتسى طابع الصدمة التي عبر عنها بعض الرحّالة بقوله واصفا المجتمع الغربي: "رأيت إسلاما بلا مسلمين". وهي نفس الفكرة التي تقوم الحركات الإسلامية باستنساخها اليوم من جديد، بعد أزيد من قرن، المسافة الزمنية التي فشل فيها المسلمون في بناء نموذج ناجح للنهضة والنمو.
مثل هذه الأقاويل اليوم تعكس شقاء الوعي الإسلامي المعاصر، وعجزه عن رؤية الواقع، حيث تشكل هذه الأفكار التبريرية حجابا يخفي حقائق كثيرة:


لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟ 40458


ـ أولها أن التيار الإسلامي الذي فشل في كل شيء، عوض أن يعترف بفشل الإسلام السياسي ويقرّ بضرورة العلمانية، التي تجسدها خير تجسيد دول شمال أوروبا، يقوم بالعكس تماما، يسرق نجاحات الغير وينسبها إلى عقيدته.
ثانيها أن ما يرمي إليه هؤلاء بأقاويلهم تلك إنما هو الانتصار للدين وليس الدعاية للنماذج الناجحة ولأسباب نهضة الدول المتقدمة، تلك الأسباب التي هي منظومة غير قابلة للتجزيء، ولهذا ينجح الإسلاميون في نشر التديّن، ولا يفلحون أبدا


لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟ 4058


في نشر العلوم والمعارف والحريات والقيم الإنسانية.
ثالثها أن هؤلاء يريدون الصدق والأمانة والعدل وفعل الخير والتوزيع المتوازن للثروة وعدم التبذير والحكامة الاقتصادية والنظافة والتناوب على الحكم وفصل السلطات وسموّ القانون وتساوي الجميع أمامه، يريدون كل هذا باعتباره موجودا في الإسلام، لكنهم لا يعرفون بأن هذا كله مرتبط ارتباطا عضويا بقيم أخرى يرفضونها، حيث هناك معضلتان كبيرتان تواجههم:
أن هذه المبادئ والقيم الإيجابية مرتبطة ارتباطا عضويا بقيم أخرى هي المساواة التامة بين الرجال والنساء وبين جميع المواطنين بغض النظر عن التمايزات في اللون والجنس والعقيدة والعرق والنسب العائلي، وبالحريات الفردية والجماعية، وعلى رأسها حرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير والصحافة، وحرية اختيار نمط الحياة، وبمبدأ احترام الآخر الذي هو جوهر النظام العلماني الغربي، فهل هذه القيم موجودة أيضا في الإسلام ؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا يعارضونها بشراسة ويمقتونها ؟ فإما أنهم لا يعرفون الإسلام، وإما أن الإسلام لا يشتمل على تلك القيم التي هي أساس نهضة الغرب المتقدم.
أن في الإسلام قيم نبيلة بلا شك لكنها بدورها مرتبطة ارتباطا عضويا بنظام قيمي يتضمن قيما أخرى نقيضة للأولى، نظام ارتبط بدوره بسياق حضاري واجتماعي سابق لم يعد قائما اليوم، ومنشأ هذا ما نسميه فلنقم بتمرين ذهني بسيط علّ إخواننا الإسلاميين يفهمون المأزق الذي يتواجدون فيه بسبب طريقتهم الخاطئة في التفكير:



لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟ 4388


لنفرض أننا سايرنا هؤلاء في أقاويلهم وقررنا أن نتفق معهم على تطبيق تمرين آخر:
في النرويج دين رسمي في الدستور لكنه لا يعدّ مصدرا للتشريع ولا تفرضه الدولة على مواطنيها ولا تراقبه ولا تستعمله في السياسة ولا في التمييز أو المفاضلة بين المواطنين، أما في التعليم فتُعرّف بكل الديانات المتواجدة على أرضها من يهودية ومسيحية وإسلام وبوذية وبهائية وغيرها حتى يحترم أطفال النرويج كل المنتسبين إلى تلك الديانات في بلدهم. ولا تغصب الأطفال على إتباع دين معين بل تترك لهم حرية الاختيار عندما يكتمل نضجهم النفسي والعقلي ويبلغون سن الثامنة عشرة، لأن النظام التربوي هناك قائم على مبدأي الحرية والإبداع، وليس التقليد والإتباع.



لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟ 40455



سيقول إخواننا الإسلاميون: ولكن الإسلام هو خاتم الديانات وأفضلها وكل الديانات التي جاءت بعده باطلة وكل تلك التي جاءت قبله محرفة وهو وحده "الدين الصحيح"، فكيف نُعرف في مدارسنا بديانات محرّفة وندفع التلاميذ إلى احترامها بينما أهلها "كفار" ؟
إن المشكلة التي تمثل عائقا معرفيا في فكر الإسلاميين إنما تتجسد في عجزهم عن فهم شمولية النظام المجتمعي الغربي الناجح، الذي هو ثمرة تطور وصيرورة تاريخية طويلة، انتقلت من العبودية إلى التحرّر ومن الاستبداد إلى العدل، ومن الخرافة إلى العقلانية، ومن الجهل إلى العلم، فهم يرتاحون للحكامة وللتوزيع العادل للثروة ولفعالية الإدارة وللتناوب على السلطة في الغرب، لكنهم يريدون ذلك كله بدون مساواة بين الجنسين وبدون حريات وبدون فصل للدين عن الدولة، بينما لا تتحقق تلك إلا بهذه، وإلا لكانوا استطاعوا تحقيقها في بلدانهم سواء في الماضي أو في الحاضر.


لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟ 40459

[right]

إن "إسلام النرويج" إذن ليس سوى نظاما مبنيا على القيم الإنسانية الكونية، التي ساهمت في بنائها كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء، وهي نفس القيم التي تتقاسمها كل البلدان الناجحة بينما يتنكر لها المسلمون ولا يطيقونها، ويحاربونها يوميا في مدارسهم ووسائل إعلامهم، وتبدو لهم غريبة عن "أصالتهم"، ولهذا هو متخلفون.



لماذا لا نعيش "إسلام النرويج" ؟ 40460