كتاب التعدد اللغوي بشمال إفريقيا عبر التاريخ [PDF]
يعتبر التعدد اللغوي من الخصوصيات التي ميزت تاريخ شمال إفريقيا، بأشكال تختلف من فترة تاريخية إلى أخرى. وبإطلالة سريعة على تاريخ هذا المجال، نجد أن الأمازيغية (الليبية بمصطلح العصر القديم والبربرية بمصطلح العصر الوسيط) كانت هي المهيمنة على المشهد اللغوي، وهو ما تشهد عليه الوثائق الفرعونية، على الأقل، منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد.
عرفت هذه الوضعية تحولات متلاحقة منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد. فاستقرار الفينيقيين بالمنطقة وصعود قرطاج باعتبارها قوة في جنوب الحوض المتوسطي مهدا الطريق لدخول اللغة الفينيقية، التي سرعان ما عرفت تطورات نتج عنها ظهور اللغة البونية (Le Punique)، التي ينعتها البعض باللغة الإفريقية، وذلك حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. وفي القرن السابع قبل الميلاد أدت الهجرات الإغريقية نحو السواحل الليبية الحالية إلى ظهور مستوطنات إغريقية، حافظت لقرون عدة على اللغة الأصلية لهؤلاء المهاجرين. وقد نتج عن كل هذه الهجرات الجماعية ظهور’ جزر لغوية’ صغيرة في المجال المتوسطي الليبي (الأمازيغي)، كانت لها علاقات مع الساكنة المحلية المجاورة، مما نتج عنه تأثيرات متبادلة بين الأمازيغية القديمة من جهة، وهاتين اللغتين الوافدتين من جهة أخرى.
بتغير ميزان القوى في الحوض المتوسطي وخضوع شمال إفريقيا للاستعمار الروماني، انتشرت اللغة اللاتينية بالمنطقة بشكل تدريجي، وساعد على ذلك كونها لغة الديانة المسيحية التي عرفت بدورها انتشارا واسعا في كافة ربوع هذا الحوض. وسيتأثر المشهد اللغوي ببلاد المغارب من جديد، وبشكل لم يعرف له مثيل من ذي قبل، بدخول الإسلام إلى المنطقة، ليس فقط لأنه فتح المجال للغة العربية باعتبارها لغة الدين الجديد، ولكن أيضا لأنه مهد لهجرات قبائل عربية نحو المنطقة منذ القرن الخامس الهجري (الحادي عشر ميلادي). وهكذا بدأ مسلسل تعريب شمال إفريقيا، الذي نتج عنه ظهور ‘ العاميات المغاربية’، باعتبارها مجالا لتوارد الأمازيغية والعربية، ومستوعبا للإرث اللغوي السابق.
وبالإضافة إلى كل ما سبق، فقد تأثر المشهد اللغوي المغاربي، وإن بشكل سطحي، بلغات الاستعمار الحديث والمعاصر، بدءا باللغة التركية، ومرورا باللغات الأوروبية (الفرنسية، الإسبانية، الإيطالية).
وعموما، فالملاحظ أن التعدد اللغوي في شمال إفريقيا كان يٌدَبَّر على مر العصور من خلال مستويين: المستوى المجتمعي والمستوى المؤسساتي. والمقصود بالمستوى الأول الطرق التي كانت المجموعات البشرية تدبر به هذا التعدد في كل مناحي حياتها اليومية. أما المستوى الثاني فنقصد به كيفية تعامل المؤسسات مع هذا الواقع اللغوي.
ويبدو واضحا أن طريقة التعاطي مع هذا الواقع اللغوي في المراحل السابقة أصبحت رهينة بتنامي ثقافة الحقوق اللغوية والثقافية منذ أواخر القرن الماضي. ولتدبير هذا التعدد وفق آليات العصر، أحدثت بعض دول شمال أفريقيا مؤسسات رسمية أُسندت إليها مهام النهوض بلغاتها، كما أقرت دساترها التعدد اللغوي.
وأمام هذا الواقع الجديد، لا يمكن استشراف مستقبل التعدد اللغوي في شمال أفريقيا دون استيعاب أمثل لماضيه وفهم أعمق لآليات تدبيره في تاريخ المنطقة، إن على المستوى المجتمعي أو المؤسساتي. وإذا كان البحث التاريخي مدعوا للمساهمة في مقاربة هذا الموضوع بهدف استخلاص الدروس والعبر من التجربة التاريخية للمنطقة، فإن الدراسات اللغوية والأنتروبولوجية والسوسيولوجة وغيرها تعد كذلك ضرورية لإغناء النقاش العلمي حول مستقبل التعدد اللغوي في شمال إفريقيا.
وإغناءً للموضوع ، نقترح مقاربة التعدد اللغوي وإشكالات تدبيره في تاريخ شمال إفريقيا من خلال المحاور الآتية:
1- الوضعية اللغوية في شمال إفريقيا عبر التاريخ (العصر القديم، والعصر الوسيط، والعصر الحديث، والفترة المعاصر)؛
2- وظائف اللغات في تاريخ شمال إفريقيا (الأمازيغية، والفينيقية، والإغريقية، والبونية، والعبرية، واللاتينية، والعربية….) ؛
3- التأثير والتأثر بين مكونات المشهد اللغوي الشمال إفريقي عبر التاريخ.



كتاب التعدد اللغوي بشمال إفريقيا عبر التاريخ [PDF] Sans_t27