إذا كان «الانفجار العظيم» هو بداية الكون فكيف نشأ من لا شيء؟


إذا كان «الانفجار العظيم» هو بداية الكون فكيف نشأ من لا شيء؟ 41142


ربما هو واحد من أعقد الأسئلة في علم الفلك رغم بساطته ومنطقية طرحه: كيف نشأ الانفجار العظيم من العدم؟ فإذا كان الانفجار العظيم هو النظرية الأكثر قبولًا لنشأة الكون، فما الذي انفجر تحديدًا؟ ومن أين جاءت تلك المادة التي انفجرت أساسًا؟ وهل كان هناك شيء مادي بالشكل الذي نعرفه قبل الانفجار العظيم؟
حسنًا، سنحاول في هذا التقرير الإجابة عن هذا السؤال بحسب أحدث ما وصل إليه الباحثون في مجال الفضاء والفلك، لكن عليك الانتباه أنها مجرد محاولة تفسير وقد لا تكون هي الحقيقة المطلقة في النهاية.
سنتحدث هنا عن محورين: الأول هو تلك المادة الأولى التي كانت وراء الانفجار العظيم ونشأت منها كل مكونات الكون من أصغر جسيم داخل الذرة وحتى أضخم النجوم والمجرات. ثم يأتي المحور الثاني: هل نعرف شيئًا عما كان موجودًا قبل الكون؟
المادة الأولى والانفجار العظيم
طالما حصل انفجار، فبالتأكيد هناك شيء مادي ما انفجر، إذًا كيف كان شكل تلك المادة التي انفجرت وما تركيبها؟ نحن نتحدث هنا عن «مادة» بعد انفجارها نشأ كل شيء، كل ما هو ما
دي وكل أنواع الموجات والأشعة. فإذا كنت تعتقد أننا سنتحدث عن تلك المادة مثل المواد الموجودة حاليًا والمكونة من الذرات أو الجزيئات، فمن المؤكد أنه لم يكن هناك أي شيء مثل هذه المواد في فترة الانفجار العظيم.




من الاساطير السومرية حتى نظرية الانفجار العظيم#كل_القصة2

بل إن الشكل الذي نعرفه عن المادة المكونة من ذرات لم يكن موجودًا حتى بعد مرور مئات الآلاف من السنين بعد وقوع الانفجار العظيم، ومن ثم، فإن ما انفجر هو مادة لكن ليست مثل ما بين أيدينا من المواد، لدى العلماء فهمٌ مفصل جدًّا لكيفية تشكل الذرات الأولى من جسيمات أبسط بعد مئات آلاف السنوات من حدوث الانفجار العظيم بعدما بردت الأجواء بما يكفي لاستقرار هذا الشكل المعقد للمادة الذي أصبحت عليه الآن، كما يعرف العلماء كيف اندمجت هذه الذرات لاحقًا في عناصر أثقل داخل النجوم في عمليات اندماج ينتج منها طاقة هائلة.
كل هذا جميل، لكن نعود ونسأل: ماذا حدث قبل هذا؟ كيف جاءت لنا هذه المادة «من العدم»؟ وكيف كانت طبيعتها؟ قبل تكوُّن الذرة، كان لا بد من وجود الجسيمات متناهية الصغر التي تتكون منها نواة الذرة، مثل البروتونات والنيوترونات، هذه الجسيمات كانت أول نوع من الجسيمات ذات المدى العمري الطويل التي نشأت في الكون، ولأنها ذات مدى عمري طويل ولم تكن تنهار بسرعة، تمكنت من تشكيل الذرات لاحقًا، بعد أن بردت أجواء الكون نسبيًّا.
ظهرت البروتونات والنيوترونات إلى حيز الوجود بعد نحو جزء من 10 آلاف من الثانية بعد الانفجار العظيم، قبل هذه النقطة، لم يكن هناك حقًّا أي مادة بأي معنى مألوف أو متصور للكلمة.
الحقبة الموحدة الكبرى
تسمح لنا الفيزياء بالاستمرار في تتبع الجدول الزمني إلى الوراء وصولًا إلى العمليات الفيزيائية التي تسبق وجود أي مادة مستقرة، هنا، نحن دخلنا إلى عالم الفيزياء التأملية أو النظرية، حيث لا يمكن للعلماء في مختبراتهم إنتاج طاقة كافية في تجاربهم لاستكشاف نوع العمليات التي كانت تجري في ذلك الوقت، من ثم، يتحدث العلماء هنا عن فرضيات تبنى على بعض المشاهدات وما تمليه قوانين الفيزياء.
يأخذنا هذا إلى ما يسمى «الحقبة الموحدة الكبرى» وهي الفترة التي ظهرت بين 10-36 و10-43 من الثانية بعد حدوث الانفجار العظيم، الفرضية المعقولة بالنسبة لقطاع كبير من العلماء هي أن العالم المادي في تلك الحقبة كان مكونًا مما يشبه حساء من الجسيمات الأولية قصيرة العمر، ومنها «الكواركات»، وهي اللبنات الأساسية التي تكونت منها البروتونات والنيوترونات.
في ذلك الوقت، كانت توجد لكل مادة، مادتها المضادة بكميات متساوية تقريبًا، أي أن لكل نوع من جسيمات المادة، مثل الكوارك، مادة مضادة، والمادة المضادة هي صورة طبق الأصل من المادة، والتي تكون متطابقة مع نفسها، لكنها تختلف فقط في جانب واحد، نتيجة لذلك، فإن المادة والمادة المضادة تبيدان بعضهما بعضًا في ومضة من الطاقة عندما تلتقيان، مما يعني أن هذه الجسيمات كانت تتكون وتتدمر في ذلك الوقت باستمرار.


إذا كان «الانفجار العظيم» هو بداية الكون فكيف نشأ من لا شيء؟ Astronomy-3101270_1280


هل هناك فراغ؟
نعود ونسأل: كيف وجدت هذه الجسيمات في المقام الأول؟ هنا نذهب إلى نظرية المجال الكمي التي تقول إنه حتى الفراغ (يقصد به الفراغ في الزمان والمكان طبقًا لنسبية أينشتاين أو الزمكان الفارغ)، مليء بالنشاط الفيزيائي في شكل تقلبات في الطاقة. يمكن أن تؤدي هذه التقلبات إلى ظهور جزيئات، لكنها تختفي بعد فترة وجيزة.
هذا يعني أن حالة الفراغ في الزمكان مليئة بجسيمات تتكون وتتدمر باستمرار «من لا شيء»، حسبما يبدو لنا، هذا يخبرنا بأن هذا الفراغ هو شيء وليس لا شيء كما نعتقد، ومن ثم نحن لم نصل إلى نقطة البداية بعد أو اللاشيء التي نشأ منها كل شيء.
حسنًا، يأتي الآن الدور على السؤال المنطقي التالي: من أين نشأ الزمكان نفسه؟ هذا يعني أنه علينا النظر إلى الخلف أكثر، تحديدًا إلى «حقبة بلانك»، وهي فترة مبكرة جدًّا من تاريخ الكون حيث تفككت أفضل نظريات الفيزياء وقواعدها. تعود هذه الحقبة إلى 10-43 من حدوث الانفجار العظيم، في هذه المرحلة، أصبح المكان والزمان أنفسهما عرضة للتقلبات الكمية.
هذه الحقبة تظهر لنا حجم المعضلة التي يقع فيها العلماء نتيجة عدم تمكنهم من دمج ميكانيكا الكم التي تحكم عالم الجسيمات متناهية الصغر، والنسبية العامة التي تنطبق على المقاييس الكونية الكبيرة، لكن لفهم حقبة بلانك، نحتاج إلى نظرية كاملة عما يسمى «الجاذبية الكمومية»، أي أن ندمج النظريتين معًا.
في حقبة بلانك، ينهار فهم العلماء العادي للمكان والزمان، أي أن المكان والزمان نفسيهما لم يكونا بالشكل نفسه الذي هما عليه الآن، ومن ثم فحتى فكرة فهم الأسباب والنتائج (الأسلوب الطبيعي والمنطقي للبحث العلمي) لم يكن يمكن تطبيقها في تلك الحقبة.
نظرية كل شيء
لا يزال العلماء لا يملكون نظرية مثالية عن الجاذبية الكمومية، رغم أن هناك محاولات مثل نظرية الأوتار والجاذبية الكمومية الحلقية، جميع هذه النظريات التي وضعت للجاذبية الكمومية تصف شيئًا ماديًّا كان يحدث في عصر بلانك هذا، لكن السؤال يعود من جديد: من أين تأتي هذه الأشياء المادية مهما كانت صورتها؟
يعترف علماء الفيزياء بأن أفضل ما توصلوا إليه في علوم الفيزياء فشلت تمامًا في تقديم إجابات، وحتى يحرز العلماء مزيدًا من التقدم بالعودة إلى فترات أسبق من الانفجار العظيم، فهم بحاجة إلى التقدم نحو ما يطلقون عليه اسم «نظرية كل شيء»، لكن قبل ذلك لن يتمكنوا من تقديم أي إجابة محددة.
المقصود بـ«نظرية كل شيء» هو تلك النظرية الشاملة التي يمكنها وصف الكون من خلال دمج النظريتين الأساسيتين في عالم الفيزياء: النسبية وميكانيكا الكم، تسعى هذه النظرية لتحقيق هذا الهدف من خلال إنهاء حالة رفض خضوع النظرية النسبية العامة لمقتضيات نظرية الكم.






حتى نهاية فترة العشرينيات من القرن الماضي، كانت النظرية النسبية العامة لأينشتاين قد انتشرت بشكل واسع كونها قدمت تفسيرًا مقبولًا لدى العلماء لفهم ما يحدث على مستوى الكون الكبير أو الفضاء الخارجي، بعدما تمكنت من وصف كيفية تحكم قوة الجاذبية في حركة الأجرام السماوية.
ومع بداية الثلاثينيات، بدأت تتشكل معالم ميكانيكا الكم عبر اشتغالها على الكون الصغير، أو على المستوى الذري، مما سمح لنا بفك أسرار الذرة ومكوناتها. تمكنت هذه النظرية من تقديم وصف دقيق لعمل كل القوى الطبيعية في العالم متناهي الصغر، عدا الجاذبية، وفي الوقت الذي قدمت فيه النظرية النسبية تفسيرًا لكيفية عمل الجاذبية بالنسبة للأجرام السماوية، لم تتمكن ميكانيكا الكم من تقديم فهم ملائم لكيفية عمل الجاذبية على مستوى الذرات والجزيئات الأصغر من الذرة.
من هنا فإن كلا النظريتين تتكاملان كلًّا على حدة، لكن الجمع بينهما يؤدي إلى نتائج توصف بالكارثية في فهم الكون من أصغر الأجزاء إلى أكبرها، فعند الجمع بين النظريتين فإنهما تتنافيان بحيث لا بد أن تكون واحدة منهما فقط على صواب.
جدلية الخالق الأعظم
نتيجة لذلك كله، يمكننا القول بكل ثقة إن الفيزياء لم تجد حتى الآن حالات مؤكدة لشيء ينشأ حرفيًّا من لا شيء، وللإجابة عن سؤال كيف يمكن لشيء أن ينشأ من لا شيء، سنحتاج إلى شرح الحالة الكمومية للكون بأكمله في بداية حقبة بلانك، وهو أمر كما ذكرنا يستحيل دون «نظرية كل شيء».
كل المحاولات لفعل ذلك تظل تخمينية للغاية، وغالبيتها ينقسم إلى بُعدين، الأول فيزيائي بحت كمحاولة لربط كل ما يحدث بالمسببات والنتائج، بينما البعد الثاني يذهب نحو فكرة وجود قوة خارقة مهيمنة فوق هذا الكون، بعبارة أبسط، فكرة وجود الإله الخالق للكون من لا شيء حرفيًّا.
التفسيرات المرتبطة بالفيزياء تتمثل بنظريات مثل الكون المتعدد، أي أن الكون الذي نعيش فيه يحتوي على عدد لا حصر له من الأكوان المتوازية، أو النماذج الدورية للكون، التي تولد وتولد من جديد. أي أن كل كون يولد من كون سابق له بعدما ينتهي وتتباعد في المجرات والنجوم إلى أقصى حد بصورة تجعل الضوء نفسه غير موجود تقريبًا.






توجد في هذه الجزئية جدلية كبيرة بين العلماء، فعند الوصول لحدود ما قبل الانفجار العظيم، يسلم بعض العلماء إلى وجود قوة خارقة أكبر، لكن العلماء الآخرين، خصوصًا أولئك الذين يقولون على أنفسهم إنهم ملحدون أو لا يؤمنون بوجود إله للكون، يصرون على إيجاد تفسير فيزيائي ما حتى لا يستسلموا لفكرة القوة الخارقة.
من بين هذه التفسيرات، كان الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل لعام 2020، روجر بنروز، الذي اقترح نموذجًا مثيرًا للجدل للكون الذي نعيش فيه أطلق عليه اسم «علم الكون الدوري المطابق»، استلهم بنروز هذا الاقتراح من علاقة رياضية معينة تظهر أن حالة الكون شديدة الحرارة والكثيف والصغير جدًّا (شكل الكون في الانفجار العظيم) تتطابق رياضيًّا مع حالة الكون شديد البرودة والفارغ والممتد (كما سيكون عليه الكون في المستقبل البعيد)، قد يبدو أن هناك تناقضًا صارخًا هنا، لكنه يقول إن الغياب التام للمادة في نهاية الكون السابق قد أدى إلى ظهور كل المادة التي نراها حولنا في كوننا.
ببساطة أكبر، يقول بنروز التمدد اللانهائي للكون سيجعلنا ننظر إلى السماء في يوم من الأيام فلا نجد أي نجوم أو مجرات لأنها تباعدت فيما بينها إلى درجة لم يعد يصل الضوء، وهنا يموت الكون لأنه وصل إلى مرحلة اللانهاية من التمدد، ولأن لحظة الانفجار العظيم هي لحظة لانهاية من الانكماش، فإن حالة اللانهاية تتطابق ويحدث انفجار عظيم جديد ليكون كونًا جديدًا آخر، وهكذا.
لكن هذه الفرضية لم تخبرنا بشيء بديهي بسيط: من أين جاء الكون الأول؟ لذلك، واضح أن إجابة سؤال من أين جاء الكون ستظل مستعصية على الفهم أو الاكتشاف، ببساطة لأن الفيزياء التي نحاول من خلالها تفسير الأمر هي فيزياء ظهرت نتيجة للانفجار العظيم، ولم تكن حاكمة فوق الانفجار العظيم، هذا يعني أن هذه الفيزياء لا تنطبق أساسًا على تلك الحقبة لأنها خلقت تالية لها ولم تكن موجودة وقت حدوثها.









https://sasapost.co/how-universe-began/?fbclid=IwAR3CcBJ6cdlT5aQ6d7cbI_Dyq-k4s7vwAubRecuix6uIiQpJRcUZEoJEIlk