مسألة الهويّة الوطنية في الجزائر : من التلاحم الشعبي الي التوظيف الإيديولوجي ثم التوجّه نحو التعايش الوطني
مقدمة : لقد عانى الشّعب الجزائري لمدة قرون من ويلات الاستعمار المتعاقبة،بدءا ًبالرومان وصولاً الى الاستعمار الفرنسيّ، أفقدته سيادته و أُقصي عن المشاركة في بناء وتسيير الدولة ووضعِ أسسها ومعالمها، عملت جميعها على طمس هويته، و لكن رغم كل ذلك احتفظ بهويته من انتماء و لغة و دينٍ، و عرف وحدة و تكاملا شعبيا حقيقيا بعيدا عن الصراعات الإثنية و الطائفية. ولعلّ أول من خاض و وظف مسألة الهوية كان الاستعمار الفرنسي في اطار حملته الاستيطانية المبنية على سياسة “فرِق تسد”، فحارب العنصر العربي بالأمازيغي قبل ثورة المقراني عام 1871 ثم حارب الامازيغي بالعنصر العربي خلال القرن 19 وبداية القرن العشرين بعد ميلاد و تصاعد القومية العروبية بالمشرق بدعم فرنسيي ثم حارب العنصر العربي بالعنصر البربري بعد الحرب العالمية الثانية. فأولد بذلك صراعا لدى النخبة ثم انتقل الى الحركة الوطنية السياسية، إلا أن ذكاء مناضلي المنظمة الخاصة التى تولدت عن حزب الشعب الجزائري كان اكبر من دهاء الفرنسيين، لما ّتجاوزوا الجدل بإعلان حرب تحريرية جزائرية لا شرقية و لا غربية. فاِلتف الجميع حولها محققة الإنتصار المنشود، استرجعت الجزائر سيادتها بعد قرون من الإستبداد. لكن المجموعة التى استحوذت على السلطة عقب الاستقلال انتهجت نفس مسار السياسة الاستعمارية، فواجهت خصومها من المعارضين السياسيين و البربريين (قبايل، مزابيين وشاوية) بتبنيها سياسة الإقصاء و القمع باسم القومية العروبية في عهد الحزب الواحد. و بعد تبني الجزائر التعددية السياسية، واصلت على نفس النهج، فحاربت الامازيغية بالإسلاميين و العروبيين في اواخر القرن العشريين، كما واجهت الإسلاميين المتشددين ببعض السياسيين المدافعين عن الأمازيغية لإجهاض المخطط والمشروع الاسلاموي ومكافحة الارهاب، في اطار سياسية ” فرق تسد”. وشهدت بداية القرن الواحد والعشرين مغادرة العديد من الوجوه السلطة الفعلية في البلاد، الذين كانوا يلعبون بملف الهوية و وتر الجهوية منذ الاستقلال، وتراخي ايديولوجية القومية العربية، تزامن ذلك مع نضج الطبقة السياسية بعد فترة من تجربة التعددية و تقبلهم لبعضهم البعض على الصعيد السياسي، باختلاف انتماءاتهم الفكرية، كلها ظروف جعلت مسألة الهوية تأخذ مجراها الطبيعي بتقبل الجميع العناصر المشكلة للهوية الجزائرية. فماهي هذه التطورات و التداعيات التى عرفتها مسألة الهوية في الجزائر؟ للإجابة عن الاشكالية ،تعرضت
(أولا) للموقف الشعبي من الهوية أثناء الاستعمار الفرنسي ثم الى توظيف المسألة من طرف السلطة الاستعمارية ثم والنخب الوطنية في اطار الصراع الإيديولوجي، وبعد الاستقلال لم يفصل في المسالة فواصلت السلطة توظيفها و نتج عن ذلك عدة تداعيات
( ثانيا)، وبعد تجربة التعددية و حدوث تغيرات على مستوى اعلى هرم السلطة ، وجدت مسألة الهوية طريقا نحو الحل، بالاعتراف المتبادل لعناصر الهوية من سلطة و نخب فكرية وأحزاب سياسية، لتتوافق مع الطرح الشعبي
(ثالثا). 1- التكامل الشعبي للهوية الجزائرية : إذا تأملنا في مكونات الشعب الجزائري الظاهرة بعيدا عن الإيديولوجيا و التعصب العرقي و الديني ، فإننا نتحدث عن ثلاثة عناصر تميز المجتمع ، وهي اللغة و الدين و العادات.
أ- ثنائية اللغة : يظهر حاليا من خلال الاحتكاك بالمجموعات السكانية من الشرق الى الغرب و من الشمال الى الجنوب وبين المناطق النائية من جبال وصحاري و بين الأرياف و البوادي و المدن أن اللغات التى يتحدث بها السكان هي الأمازيغية بلهجات متنوعة من منطقة الى أخرى، و العربية العامية بلهجات مختلفة من منطقة لأخرى ،أما بالنسبة للمتعلمين نجد منهم من يكتب و يقرأ بالعربية الفصحى و بدرجة أقل باللغة الفرنسية، أما اللغة الأمازيغية فيكتبها فئة قليلة بسبب شفويتها وعدم التكفل بها من قبل الدولة إلا بعد 1995، و ما يميز هذه اللغات وجود مفردات مشتركة بيها جميعا نتيجة للإحتكاك اليومي و العلاقات المتينة بين هذه الفئات السكانية. وإذا عدنا الى الوراء قرنين أو ثلاثة من الزمن نجد نفس لغات التواصل بين الجزائريين، و يقع الإختلاف في لغة الكتابة، فالكتابة لم تكن منتشرة في أوساط الشعب فالأدب و الشعر و الرواية كان شفويا لدى الناطقيين بالأمازيغية و كذا المتحدثين بالعامية، أما الكتابة باللغة العربية فقد كانت منحصرة لدى رجال الدين في المساجد و الزوايا و القضاة و الخوجات الذين نصبهم الأتراك لخدمة مصالح الدولة العثمانية، ماعدا فئة من السكان تعلموا العربية لحاجة دينية متمثلة في قراءة القرآن و حاجة ادارية و قضائية تتمثل في توثيق العقود وتحرير الأحكام بالخط العربي المشرقي أو العثماني أو الأندلسي. اما المناطق الناطقة بالأمازيغية، فلم تصلنا كتابات باللغة الامازيغية (التيفناغ)، ما عدا النقوش الحجرية المنحوتة بخط التيفناغ و الموروثة عن العصر الليبي والنوميدي، أما كتابة الامازيغية بالخط العربي فهذه الوظيفة كانت يستأثر بها رجال الزوايا من مرابطين و “أشراف”، و فيها نجد من العوام من يحفظ القرأن لكن دون القدرة على فهم اللغة العربية الفصحى أو كتابتها ، أو استنباط معاني القرآن.
ب- وحدة الدين : لقد اعتنق الشعب الجزائري الديانة الإسلامية بعد غزو شمال افريقيا فيما يسمى الفتح الإسلامي، فانتشر الإسلام تدريجيا في أغلب المناطق ليحل محل الديانة الوثنية و المسيحية واليهودية سواء بفعل العوامل السياسية (الفتوحات وقيام الدويلات) و التبادلات التجارية بين المشرق والمغرب والتجارة الداخلية ثم ازدهر بعد طرد الاندلوسيين من اسبانيا، و تم الاعتناء به طواعية بدليل أن أغلب المساجد والكتاتيب التى انشأت كان بناءها على يد السكان و تمويل الخيريين، ونفقات تسييرها و انتداب المشايخ فيها من اختصاص العرش أو الجماعة فأصبحت املاكا وفقية يشترك فيها الجميع. و لم يكن دور هذه المنشئات الدينية للعبادة فحسب، بل كان أيضا فضاءا لحفظ القرآن و الفصل في الكثير من القضايا والنزاعات. ت- تنوع العادات والتقاليد ....يتبع

موزاوي علي |  أستاذ و باحث جامعي – تيزي وزو




مسألة الهويّة الوطنية في الجزائر : من التلاحم الشعبي الي التوظيف الإيديولوجي ثم التوجّه نحو التعايش الوطني 1 Sans_t28