باريس 1900.. صور تحكي قصة الثورة الصناعية والثقافية
في مطلع القرن الـ20 شهدت العاصمة الفرنسية باريس واحدة من أكبر الثورات التقنية والصناعية في تاريخها، كانت تلك الفترة الفاصلة في التاريخ أشبه بالأعجوبة آنذاك، وظلت عالقة في أذهان الفرنسيين وقلوبهم ليطلقوا عليها اسم "الحقبة الجميلة".
كانت فترة قصيرة تشبه الحلم الجميل، وجعلت من مدينة النور باريس منارة مشرقة استقطبت أنظار العالم، وأصبحت مهوى أفئدة الكثيرين حول العالم من محبي الفنون وكل ما هو جديد ومبهر.
سننطلق في هذا الفيلم -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- في رحلة جميلة فريدة، ترافقها صور استثنائية لم تشاهَد من قبل، لاكتشاف باريس مطلع القرن الـ20 في بدايات اكتشاف السينما والفن الحديث.
في تلك الفترة انجرفت المدينة في دوامة لا متناهية من الملذات والحفلات جعلت غيرها من الأمور تبدو بلا قيمة. وسنغوص بدورنا في هذه الفترة التي كانت مذهلة دون شك، سواء اعتبرناها جميلة أم لا.
بدت باريس عالقة في الزمن مع نهايات القرن الـ19، وبدت مشاهد العربات البدائية التي تجرها الأحصنة التي يبثها الفيلم من ميدان كونكورد وسط العاصمة آيلة للأفول، وكأنها تصور اللحظات الأخيرة لعالم سيختفي قريبا، رغم أنها كانت جزءا أساسيا من حياة الباريسيين اليومية.
السينما.. اختراع القرن الذي أذهل الناس
من هذه المشاهد انطلقت ثورة تقنية مذهلة، ستمكننا من مشاهدة لقطات نادرة لعروض فنية تقليدية صُورت في حديقة النباتات في باريس، بواسطة اختراع جديد آنذاك سيعرف فيما بعد بالسينما.
كانت السينما آنذاك قيد التطوير، لكنها وصلت أخيرا. ففي أحد أيام شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1895 في باريس بدأت المرحلة الأخيرة لما سمى اختراع القرن، وتظهر المشاهد من داخل غرفة في مقهى غراند، حيث كان رجلا الأعمال الشابان لويس وأوغست لوميير على وشك عرض ظاهرة غريبة.
فيلم "الخروج من المصنع" كان أول عرض سينمائي في التاريخ حيث عرض في باريس سنة 1895
كان ذلك العرض السينمائي الأول في التاريخ، فعلى قطعة قماش بيضاء عُرض فيلم "الخروج من المصنع" الذي بدت فيه العاملات بأحد المصانع يتحركن وكأنهن حقيقة، مما أثار ذهول المشاهدين.
بلغ طول شريط ذلك الفيلم 17 مترا وعرضه ٣٥ ملم، وقد استوحى الأخوان لوميير آلة العرض السينمائي من ماكينة الخياطة، وبلغت سرعة العرض 16 إطارا في الثانية، فكانت لحظة تاريخية خلدت السينما من خلالها العالم، وسرعان ما ستقلب باريس رأسا على عقب.
معرض باريس 1900.. تقنيات أذهلت الحاضرين
بعد هزيمة نابليون الثالث أمام ألمانيا سنة 1870، عادت فرنسا جمهورية مرة أخرى، وحاولت تعزيز مكانتها من خلال إقامة استعراضات في كل مدن البلاد. وقد أرادت الحكومة الفرنسية في عام 1900 إعادة الأمل للفرنسيين وتحقيق الوعود لهم بالتقدم والسلام. وأي رمز للعمل والوحدة والعمل الجماعي أفضل من إقامة احتفال ضخم مترف يخلده التاريخ للاحتفال بالقرن الجديد؟ فكان معرض باريس المذهل الذي افتتحت أبوابه في أبريل/نيسان عام 1900 واتسم بالفخامة والجمال وضم كل الملامح التي تحتفي بالمستقبل المشرق.
وقد نُصبت بوابة المعرض في نهاية الشانزليزيه قرب ميدان كونكورد بارتفاع شاهق بلغ 45 مترا اعتلاه تمثال امرأة تفتح ذراعيها للعالم، كما ضم المعرض ساحة بمساحة 100 فدان على امتداد نهر السين. وحقق المعرض نجاحا باهرا وتفوق على المعارض العالمية الكبرى آنذاك كمعرض بروكسل وشيكاغو.
امتد معرض "باريس 1900" على نهر السين ابتداء من ميدان كونكورد وحتى برج إيفل
وزار المعرض عشرات الآلاف من الزوار، احتشدوا على جسر ألكسندر الثالث الجديد، وبني هيكل زجاجي لـ"غراند باليه"، وأعيد تسمية الشارع الذي أقيم فيه المعرض ليصبح شارع الأمم. كما أقيمت خيام في المعرض لمستعمرتي فرنسا الجزائر وتونس في ساحة تروكاديروا، وكان هذا مقابل ساحة "شامب دي مارس" حيث انتصب برج إيفل الشهير.
ضم المعرض ممرا ميكانيكيا متحركا بطول 3 كيلومترات وارتفاع 7 أمتار وبسرعة تبلغ 8 كيلومترات في الساعة، ويصل هذه الممر المتحرك إلى كل مرافق المعرض.. تقنيات أذهلت الحاضرين.
وكان جناح السينما من أنجح المرافق في المعرض، حيث تمكن الحضور من سماع الموسيقى ومشاهدة المشاهير أمثال سارة برنار.
وعاشت العاصمة أجواء احتفالية بامتياز على مدار ستة أشهر، وختمت الحكومة المعرض بمأدبة حضرها 25 ألف ضيف من حول العالم. فقد امتدت طاولات الطعام على مدى طويل، واستخدمت في المأدبة نحو 40 ألف زجاجة نبيذ، وعدد هائل من قطع الدجاج والكثير من الطعام، وانطلقت باريس نحو المستقبل بقوة.
عربات البنزين.. شركة رينو وإمبراطوريتها الصناعية
ومنذ تلك الحادثة، بحثت فرنسا بلا هوادة عن الابتكارات التي ستغير نمط حياتها، فظهرت عربات البنزين بمحرك احتراق غيرت مفاهيم العالم بالنسبة لسرعة الحركة. وقد أقيمت سباقات السيارات وأعجب الناس بها.
وفي تلك الحقبة أصبح المستقبل مُلكا للشجعان، ولمع اسم الشاب لويس رينو عبقري الميكانيكا، وأدرك لويس وأخوه مارسيل أن زيادة شهرة الاسم التجاري الذي أطلقه على سياراته مرهون بسباقات السيارات، فخاض هو وأخوه سباقات السيارات في أوروبا، وتصدر اسمه عناوين الأخبار.
عربات البنزين ذات محرك الاحتراق غيرت مفهوم السرعة في باريس
بعد ذلك أسس لويس رينو إمبراطورتيه الصناعية، فكان نجاحه الأول من خلال مركبة صغيرة سهلة القيادة ومعقولة الكلفة، وقد قامت شركة أجرة باريسية بشراء 3000 مركبة.
كانت فكرة عبقرية، عززت شهرة شركة رينو عالميا، وصولا إلى اليابان، وانهالت الطلبات عليه من لندن ونيويورك.
معانقة السماء.. محاولات التحليق والطيران
ظهرت الاختراعات بعد ذلك بسرعة كبيرة، وأصيب العالم بالذهول أمام تلك التغيرات العميقة. وفي تلك الاثناء زاد انتشار الكهرباء والهاتف في باريس وتشعب قطار الأنفاق في المدينة.
وأصبحت البشرية مستعدة لفصل جديد من ثورتها، فحدث تطور كبير في الملاحة الجوية، ليتحقق حلم عمره قرون، وظهرت محاولات جادة للطيران إذ قام الفرنسي غابريل فوازان بالتحليق بطائرة شراعية يجرها قارب عام 1905.
الفرنسي غابريل فوازان يقوم عام 1905 بالتحليق بطائرة شراعية يجرها قارب
وفي عام 1908 حاول الأمريكي ويلبر رايت التحليق بطائرة ذات محرك بفرنسا، ثم في العام 1909 حلق الطيار لويس بليريو قرب كالير وتمكن من الهبوط على الجانب الآخر للقناة الإنجليزية قرب دوفر، بعد أن قطع 38 كيلومترا واستغرق الوقت 32 دقيقة، وأصبح بليريو بطل العصر الحديث.
وقد بدا في نظر الكثيرين أن تقدم البشرية في القرن العشرين لا حدود له، حيث بات من الممكن تصوير أجرأ الأفعال وتسجيلها مما يحقق شهرة لأولئك المخاطرين، لكن عواقب ذلك كانت وخيمة في بعض الأحيان كما حدث مع الخياط المبتكر فرانسوا ريشيلت الذي لم يقاوم فكرة أن يصبح أول رجل يطير، لكنه دفع حياته ثمنا لمحاولته الفاشلة للطيران من على برج إيفل.
شارل باتييه.. السينما كما نعرفها اليوم
بعد الأخوين لوميير، تمكن لوي غومون ومهندسوه من تحسين جودة الكاميرا والعرض السينمائي، واقترحت سكرتيرته أليس غي أن ينتج أفلاما لنفسه لتباع مع الكاميرا، كما اقترحت السكرتيرة أن يقدموا سردا لقصص خيالية أمام الكاميرا.
كانت غي أول مخرجة أفلام في تاريخ السينما، وقامت بإخراج العديد من الأفلام لشركة غومون، ولُونت المشاهد في لوفردين دبريت يدويا.
"أليس غي" أول مخرجة أفلام في التاريخ، ومشهد لـ"ماكس لندر" الجذاب المرح والمفعم بالحيوية
لكن في الحقيقة يدين العالم لشارل باتييه الذي طور السينما لتصبح كما نعرفها الآن، فقد كانت لديه فكرة عبقرية من خلال تصميم أماكن خاصة يقصدها الناس للفرجة، واخترع ترخيص تأجير الأفلام للشركات المرخصة. كما أيقن بضرورة الاعتماد على الأبطال في جلب الناس لمشاهدة الأفلام السينمائية، وكان أول نجم سينمائي غابرييل لوفيل الذي اخترع شخصية ماكس لندر الجذاب المرح والمفعم بالحيوية وزرع الضحكة في أوروبا بأسرها، وهو الذي ألهم الشاب شارلي شابلن.
حقوق العمال.. تحسُّن ظروف المعيشة
في تلك الحقبة تحسنت أوضاع العمال، وأصبح لديهم يوم عطلة أسبوعي مدفوع الثمن، ففي يوم الأحد كانوا يركبون الدراجات الهوائية ويسبحون أو يتنزهون على ضفاف المارن، واختبر الرجال والنساء "الحرية" بشكل غير مسبوق.
كانت المهرجانات السنوية فرصة لإقامة الاحتفالات الشعبية الكبيرة، كاحتفال منتصف الصوم الكبير الباريسي، فكانوا يحبون الموسيقى وانتشرت الرقصات الشعبية، وكانت احتفالات الـ14 من تموز/يوليو مزدانة بالكبرياء والوطنية.
وكانت الرياضة أشهر نشاط في بداية القرن، وأقيمت أول سباقات الدراجات الهوائية على الطرق، وبدأ سباق "طواف فرنسا" عام 1903 الذي أعلنت عنه صحيفة لوتور. كما كان للملاكمة نصيب أيضا خلال السباقات، ومن أشهر الملاكمين جورج كاربونتيه ابن عامل المناجم الذي أصبح بطلا عالميا.
عمال يمارسون هواية ركوب الدراجات بعد أن تحسنت ظروفهم المعيشية إثر حصولهم على إجازة يوم الأحد
وبعد أن تحسنت الظروف المعيشية للعمال، أصبح لديهم وقت فراغ أكبر في حياتهم اليومية الصعبة، ويعود الفضل في ذلك للتعبئة الكبيرة التي عملوا عليها. وبعد جلسات المقاهي طوّر العمال أنفسهم، وأنشؤوا ما بات يعرف بالاتحاد التجاري الفرنسي، ثم الاتحاد العام للعمل الذي أوجد العمال من خلاله أسلوبا مباشرا للمطالبة بحقوقهم، وعنوانهم الكبير في ذلك "الإضراب العام"، وكان الهدف الأكبر للاتحاد تقليص ساعات العمل التي كانت تبلغ 12 ساعة في اليوم، لكنهم لم يفلحوا.
كان "الخدم" جزءا أساسيا في المجتمع الباريسي البرجوازي المترف، وهو أمر كان يعكس المستوى الاجتماعي، فالبرجوازيون يتنزهون في غابات بولونيا برفقة حاشية كبيرة وتختتم بشرب الشاي في حدائق باغتيل أو بحضور سباقات الخيول في أوتيه، وكانت فرصة لاستعراض أرقى الملابس.
ومن مظاهر حياتهم أيضا البيت الريفي الذي كانوا يصلون إليه في القطارات، فقد كان بيت الاصطياف مستوحى من قصور الطبقة الأرستقراطية القديمة. كما أصبحت إلى شواطئ لتريبور واتريتا في نورمندي رائجة، وكانت دوفيل ومقاهيها هي الأنسب للسياحة الساحلية الراقية.
كانت باريس القلب النابض لكل تلك التحولات وتحديدا في مركز غراند بوليفارد حيث الضوضاء وأصوات حركة السيارات وعربات الخيول وسائقيها بسلوكهم غير المنضبط، كانت المدينة تضج بالحياة ومتعطشة للازدهار.
لوحات باسم الاتحاد العمالي بباريس تنادي إلى "الاضراب العام" من أجل تقليص عدد ساعات العمل
وفي لافيليت يتزاحم وكلاء السوق لشراء الماشية التي تصلهم كل يوم عبر القطار القادم من الريف لتؤخذ إلى المسالخ المجاورة مباشرة.
وكان الخشب وبعض الموارد تنقل إلى باريس عبر قناة سان مارتان على نهر السين، وكان المكان يزدحم بالأمناء والعمال لنقل البضائع في الليالي التي كانت تسمى "معدة باريس" حيث يزدحم بائعو الفواكه الذين تتعالى أصواتهم ترويجا لبضاعتهم.
وشهدت تلك الفترة ظهور الطبقة الوسطى، وظهور وظائف جديدة بين الحرفيين والتجار وموظفي المكاتب، واستقطبت صناعة الأزياء الشابات الماهرات في الخياطة، وانضممن إلى الأستديوهات والورش برواتب بسيطة. أما متاجر مثل بورماشيه ودوفيل واللوفر فعرض فيها الأثاث والمفروشات.
وتوزع التسلسل الهرمي الاجتماعي في باريس جغرافيا، ليختار الأثرياء الجزء الغربي للعيش فيه بعيدا عن دخان المصانع.
كما بنى البارون هاوسمن منازل على طول الشوارع وكانت مزودة بالماء والغاز، وفي المقابل بُني سكن العمال في شمال وشرق المدينة في البليفيل والباستيل ومنوليمونتان إذ توفرت المياه فقط في الساحة وصنبور البلدية.. كانت الحياة شاقة في تلك النواحي.
أمطار غزيرة.. وضع هش أمام الكوارث
في العام 1910 شهدت باريس أمطارا غزيرة استمرت عدة أسابيع، وبلغ ارتفاع مستوى نهر السين 8 أمتار وغمرت المياه شوارع المدينة وحي غرينيل قرب القصر الملكي. كان الأمر رهيبا، وهناك تذكر الباريسيون بكل طبقاتهم الاجتماعية هشاشة الوضع أمام الكوارث الطبيعة.
وعليه، فقد أنشأ الجنود والعمال ممرات خشبية لمساعدة الناس في التنقل، وشُلت الحياة وتدهورت الأحوال الصحية إلى حد خطير، وكانت هذه المرحلة بداية للاضطراب والتوتر في حي لومريه الفقير، حيث الحياة شاقة على الناس. كما ارتفعت تكاليف المعيشة وكانت الرواتب قليلة وظهرت مطابخ الحساء لتوفير الغذاء على قارعة الطريق لمن هم في ضائقة.
في عام 1910 غرقت باريس بالأمطار فأنشأ الجنود والعمال ممرات خشبية لمساعدة الناس في التنقل
وبدأت عدة مؤسسات بالإضراب، وكان عمال السكة الحديد من بين هؤلاء، فأوقِفت القطارات، لترسل الحكومة قواتها وتفصل مديري السكة مما أدى لاندلاع مواجهات بين الجيش والمتظاهرين.
وفي عام 1912 احتفل الجيش بالـ14 من يوليو/تموز في ميدان لونغشون، وكان ذلك استعراضا للقوة الوطنية وتم تصويره بمناطيد عسكرية، وذلك ردا على التهديدات الألمانية. فقد كان قيصر ألمانيا وليم الثاني غاضبا بسبب اقتسام العالم بين فرنسا وبريطانيا، وقرر زيادة الضغط على جارته الأوروبية.
وبسبب ذلك اضطرت فرنسا لإقامة علاقات دبلوماسية بعدما وجدت نفسها في عزلة، فعقدت تحالفا مع قيصر روسيا نيكولاس الثاني، ثم اتفاق الود مع بريطانيا، كما تم إقامة تحالف ثلاثي بين كل من فرنسا وروسيا وبريطانيا عرف بالوثاق الثلاثي، وهكذا أصبحت قادرة على إقامة استعراضاتها العسكرية.
مدينة الملاهي.. انغماس في المتعة
انغمس الناس في باريس بإقامة الحفلات في المقاهي وقاعات الموسيقى، متناسين ما سيحدث لهم، حيث اجتمع الباريسيون في دائرة كبيرة لرقص الفراندول التي امتدت من مولان روج فولي باريجير ومن أولمبيا إلى بالتبران، وضج ليل باريس بالمسرحيات الفخمة، وتصدر المبدع إريك ساتيه وموريس رافيل وكلود دوبوسيه هذا الجو الإبداعي.
وحققت سمفونية "ظهيرة جنيّة الغاب" لكلود دوبوسيه شهرة كبيرة، وهي التي استلهمها من قصيدة "لامالار مي"، وقد تجاوزت القواعد الصارمة للموسيقى الكلاسيكية، فأعجبت جرأته الجيل الشاب، حيث أُنتجت المسرحية من قبل بانيه روس الذي أنشأها ديغاليف.
سمفونية "ظهيرة جنية الغاب" لكلود دوبوسيه تعزف في مسرحية الليلة الأولى من "طقس الربيع"
صمم الرقصات الحديثة نيجونسكي الذي عمل لاحقا مع مؤلف الموسيقى الروسي إيغور سترافنسكي في مسرحية الليلة الأولى من "طقس الربيع"، لكن الجمهور لم يكن معتادا على هذا النوع من الحداثة في الموسيقى والرقص، فأثار ذلك جدلا واسعا.
ومن وحي المكان الذي كان يقيم فيه كل عام -وهو فندق غراند في نورماندي- ألّف مارسيل بروست رواية سونزوي "البحث عن الزمن المفقود" المجلد الأول وقام بنشره بنفسه في 7 مجلدات شكلت تاريخ الأدب الفرنسي.
في تلك الروايات أصبحت كابورغ في نورمندي بشواطئها ومتنزهاتها والأثرياء الذين يرتادونها مدينة بالبك.
وفي الوقت ذاته طور الشاعر البولندي غيوم إبولينير الشعر الفرنسي حينما نشر مجموعة "الكهولز"، ومن أشهر قصائدها "كازون" و"ذا سونغ أوف ذا بولي لوفد".
تسكع غيوم مع الرسام أندريه روفير، والتقطا صورا لنفسيهما. وهنا لا بد من ذكر الفنان الإسباني بابلو بيكاسو المتحمس والطليعي والمدافع باستماتة عن الحركة التكعيبية، حيث هاجر إلى باريس وقلب تاريخ الفن رأسا على عقب عام 1907 في لوحته الشهيرة "فتيات أفينون" التي خرجت عن المنظور الذي وضعه فنانو عصر النهضة.
وقد اضطر المبدع جورج مليس لترك عالم صناعة الأفلام بسبب تعرضه للقرصنة بعد أن كان أول مخترع للمؤثرات الخاصة، واتسمت أعماله بالشاعرية والسحر، وكانت أشبه بقصص الخيال كعمله الشهير "رحلة إلى القمر" الذي عُد تحفة فنية.
بوسترات من سلسلة أفلام التحري "فانتوماس"
أما لويس فوياد لغومو فقد صنع سلسلة أفلام، وكان آخر جزء منها ناجحا بشكل كبير، وهي قصة التحري الشهيرة "فانتوماس"، وكانت سيناريوهاته مفعمة بالتشويق، فـ"فانتوماس" قصة لص معاصر استغل قصة الجانحين الحديثين الذين عرفوا باسم الأباتشي، وهم مجموعة من الشباب الخارجين عن القانون يقطنون في المناطق المحصنة خارج باريس تعرف بالبلفورتيف.. كانت أشبه بحدود تعكس الفجوة بين الفقراء والأثرياء.
فقد ترك هؤلاء الأباتشي المدرسة أو الوظيفة وعملوا كعصابات، وكانوا يتحدون القانون وعرفوا بقبعاتهم الخاصة والأوشحة حول رقابهم، تسلحوا بالسكاكين والمسدسات، وأثاروا فضول العامة، فقد كانوا ممقوتين ومحبوبين في الوقت ذاته. كما أثار فضول الطبقة البرجوازية وسحر الرجال الممثلة بولير وخصرها النحيل، خصوصا حين أدت رقصة الأباتشي التي حققت شهرة واسعة.
المرأة.. تنتصر لحقوقها وتترك بصمتها
أما ملكة الأباتشي فهي ماري إميلي إيلي التي اشتهرت بالكسكادور أو الخوذة الذهبية، نسبة إلى شعرها الأشقر، وتولى فوندا -رئيس الأباتشي ببانكور- حمايتها، لكنها أحبت ليكا -وهو أباتشي من عصابة أورتو- قصة حب مأساوية وحقيقية انخرطت فيها عصابتان، وتم ترحيل رئيسي العصابة، ثم نشرت الكسكادور سيرتها الذاتية بعنوان "أيامي ولياليّ".
وفي المقابل ظهرت المرأة المتزوجة في الأفلام بصورة مثالية تعتني بأطفالها وتحافظ على عائلتها. لكن بغض النظر عن الدور الذي عاشته المرأة، فقد عانت النساء في باريس من الاضطهاد السياسي والاقتصادي، حيث كن يشكلن أكثر من ثلث العمال، وكانت رواتبهن أقل من نصف الرجل، كما كان الراتب يدفع للزوج.
ملكة الأباتشي "ماري إميلي ايلي" تنشر سيرتها الذاتية بعنوان "أيامي ولياليّ"
وأول نصر معنوي حققته المرأة هو التخلص من المشد الممقوت الذي لطالما قطع أنفاسهن من أجل معايير الجمال، وكان المصمم بول بوريه هو من قام بهذه الثورة، إذ صمم ملابس خالية من المشدات، ورفع الوسط إلى أسفل الصدر لتصبح مريحة وقريبة من شكل الجسم الطبيعي.
لكن في مجتمع يسيطر عليه الرجال بدت تلك الانتصارات بسيطة، وكانت النساء بحاجة إلى رائدات يمهدن الطريق لهن.
ظهرت "ماري كوري" المهاجرة البولندية التي جاءت للدراسة في باريس. كانت أول فتاة تحصل على مقعد في الفيزياء العامة بجامعة السوربون، وحازت على جائزة نوبل مرتين واحدة في الفيزياء وأخرى في الكيمياء.
"ماري كوري" المهاجرة البولندية التي درست في السوربون وحصلت على جائزتي نوبل للسلام
أما مارغريت دورون فاستطاعت أن تنشئ أول صحيفة يتكون طاقمها كله من النساء، وهي صحيفة "لافروند"، وبذلك وصلت إلى بورصة باريس والجمعية الوطنية اللتين كانتا حكرا على الرجال، وقامت بترشيح نفسها هي ومجموعة من النساء في الانتخابات التشريعية بشكل رمزي، لكنهن منعن من ذلك.
باريس.. انتهى الحلم سريعا
في عام 1914 اغتيل ولي عهد النمسا فرانسوا فرناندو الذي كان حليفا لألمانيا، فأمر القيصر نيكولاس الثاني بتعبئة عامة وأعلن القيصر وليم الثاني بأن ألمانيا مهددة بالحرب. وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في الأول من أغسطس/آب ثم على فرنسا في الثالث من الشهر نفسه.
الحرب العالمة الأولى تندلع سنة 1914 لتنهي حقبة باريس الذهبية بذهاب الشباب والرجال إلى الحرب
هيمن الحزن والشعور بالخطر على قلوب الفرنسيين، وأعلنت أجراس الكنائس التعبئة العامة، فتهافت الرجال الذين كانوا يحلمون بالمستقبل دفاعا عن مدينتهم.
علِق بعضهم في خنادق سوم وآخرون في وحل فردان، وقتل الآلاف منهم في ريعان شبابهم، وانتهى حلم باريس سريعا، أما حقبتهم الجميلة فبقيت في قلوبهم.
https://doc.aljazeera.net/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-1900-%D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%AA%D8%AD%D9%83%D9%8A-%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7/?fbclid=IwAR1IOcngEMg2HL7XbSySm_Yqj8K9Cs1s6uKDXJuIjJy1RxRUoVJg12YOUC8