تقرير حول إهرامات الحطية في ليبيا من إعداد جلال عثمان - فويس أوفر عزالدين عبد الكريم
”:ذهبية كألواح الشمس، ونقية كعبق العصور، وساطعة رغم النسيان والإهمال، انها أهرامات الحطية التي تبعد حوالي 1123 كيلومترا جنوب طرابلس، وتنتصب وسط الكثبان الرملية كشاهد على حضارة الجرمنت التي قامت في تلك الربوع منذ نحو ثلاثة آلاف سنة. وهي الأهرامات الأقل شهرة في المنطقة مقارنة مع أهرامات مصر رغم أن هذه النصب الأثرية لا تقل أهمية حضارية عن أهرامات الجيزة.
يعود اكتشافها إلى خمسينيات القرن الماضي حيث عثر عليها مدفونة في الرمال، ويمكن الوصول إليها من خلال طرق عديدة ومنها اوباري بوابة الصحراء الليبية.
أسلاف الطوارق
والجرمنت حسب المصادر التاريخية هم قبائل ليبية تعتبر من أقدم الذين سكنوا إقليم فزان، وترجح بعض المصادر أن يكونوا أسلاف الطوارق الحاليين (أمازيغ الصحراء) وأنشأوا مملكة جرمة وعاصمتها جرمة التي بقت أطلالها شاهدة على حضارة زراعية وتجارية مهمة. كما استوطنوا جنوب غربي ليبيا وجزءا من جنوب الجزائر. ويقول بعض المؤرخين إن مملكة جرمة انشئت لتكون محطة عبور في طريق القوافل العابرة إلى أفريقيا جنوب الصحراء أو المتجهة إلى شمال أفريقيا. كما يؤكد بعض المؤرخين أن الجرمنتيين هم أول من ثاروا ضد الرمان وذلك خلال القرن الأول الميلادي .
وتسمية جرمنت هي أمازيغية أو يونانية تبناها لاحقا الرومان وهم يعتبرون أول حضارة مدنية أمازيغية متقدمة في المنطقة ومستقلة.
وتؤكد المصادر التاريخية أن الجرمنت هم قبائل تنتمي إلى حضارة متطورة جدا استوطنوا وسط الصحراء قادمين من جميع المناطق الصحراوية.
في هذا السياق يقول عالم الآثار الإنكليزي ديفيد ماتينغلي: “لم يكن الجرمنتيون من رواد الحضارة في الصحراء الليبية فحسب بل كانوا القاعدة الرئيسية التي انطلقت منها الأفكار والمعارف الجديدة لتطويع التقنيات المنتشرة في الصحراء إرساء لقواعد المجتمعات الصحراوية وشبكات التبادل التجاري، كما أن الحفريات في المواقع الحضرية والقرى والعديد من المقابر المتراصة للغاية تكشف عن أسلوب الحياة القديمة للجرمنت وعن الزراعة في الواحات أي على النقيض من الافتراضات السابقة من أنهم رُحّل. ومن جانب آخر أوضحت عمليات ترميم القطع الأثرية أنها حضارة مستقلة تماما عن الإمبراطورية الرومانية على الرغم من تمتعها بعلاقات تبادل تجاري مربح مع الرومان”.
ويضيف المؤرخ: “مقابر الجرمنت تكشف عن طقوس للدفن متنوعة للغاية بوجود ما يزيد عن 200 ألف موقع للدفن في وادي الحياة وحدها، وكثير من الأضرحة تضمنت الفنون الرومانية والإغريقية للمقابر الهرمية وهذا يرجح اتصال الجرمنتيين بالشعوب الأخرى في الشرق والجنوب الشرقي، أيضا تم العثور على جثتين محنطتين عمرهما 2000 عام”.
ومن أجل فهم الثقافة الليبية يجب العودة إلى جذور الحضارة الجرمانتية التي يعتبرها المؤرخ البريطاني من أعظم الحضارات في الصحراء. ويؤكد ديفيد ماتينغلي أنه “في هذا المكان قامت حضارة جرمنت التي وصل نفوذها إلى ساحل البحر المتوسط وامتد إلى جنوب الصحراء في تشاد والنيجر. وأكثر من ذلك فإن الجرمنت صنعوا العربة التي تجرها الخيول وأخذتها الحضارات الأخرى عنهم، كما أن لديهم بناء معماري من طراز مختلف وثمة إنارة وأبراج وحصون، وقد استخدموا الحصان والجمل وطوروا الكتابة، ويعيشون في قرى ومدن بأسوار عالية، وابتكروا نظاما خاصا لتوزيع المياه عبارة عن شبكة ري تحت الأرض تشبه تماما القنوات تتنقل المياه خلالها من أسفل إلى أعلى لتصل إلى خزانات فوق سطح الأرض”.
وحسب المصادر التاريخية فإن الجرمنت هم أول من بنى هذه الأهرامات (20 هرما) لتكون بمثابة قبور لهم وعلى جدران الكهوف حفروا مشاهد ورسومات تمثل بعض ملامح حياتهم في ذلك العصر. وتسمى هذه القبور بـ “جبانة الحطية”. وكانوا يدفنون فيها موتاهم وحرصوا على وضع شواهد من الحجر بأشكال مختلفة ومنها المثلث رمز آلهة “تانيت”. وتؤكد عديد المصادر التاريخية الليبية أن هذه الآثار بنيت بالطين والقليل من الحجر وبطريقة “ضرب الباب” كما عرفت في ليبيا حتى ستينيات القرن الماضي، ويصل ارتفاعها إلى خمسة أمتار بعمق لا يتجاوز المتر. وتم اكتشاف بعض الأدوات الفخارية الموضوعة داخل القبور بجوار الجثث. وتتشابه أهرامات الحطية مع أهرامات الجيزة باعتبار أن فكرة الدفن في الأهرام كانت منتشرة في تلك العصور.
وكان الجرمنت يمارسون على سفوح هذه الأهرامات الزراعة والفلاحة. وقد ظلت هذه الأهرامات صامدة رغم الاهمال وعوامل الزمن.
طقوس خاصة
يمتلك الأمازيغ أو شعوب شمال أفريقيا القدامى معتقدات عديدة أسطورية تعكس إيمانهم بوجود قوى عليا تحرك العالم. وتتحدث الكتب والمصادر التاريخية بإن الأمازيغ كانوا يؤمنون أيضا بآلهة جيرانهم المصريين وكذلك الفينيقيين والإغريق والرومان.
وفيما يتعلق بالطقوس الدينية فقد كان الأمازيغ يدفنون موتاهم بشكل مثني وفي أحيان أخرى في شكل جانبي. وكانوا يصبغون جثث موتاهم بالطين الأحمر. وكان تقديس الموتى أحد أهم ما يميز معتقدات الأمازيغ في العصور القديمة، وهي ظاهرة قديمة في شمال أفريقيا غرب مصر. من هنا فإن بناء القبور كان يأخذ حيزا هاما من اهتمام شعوب المنطقة ومنهم الجرمنت.
وحسب ما يذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت في كتاباته حول الجرمنت، فإنه شعب يقطن ليبيا، عرف بتجارة العاج والمعادن النفيسة والعبيد السود في أسواق قرطاج. وقد كان يملك جيشا منظما مكنه من توسيع نفوذه ومواجهة القوى المجاورة. ولهيرودوت مقولته الشهيرة “من ليبيا يأتي الجديد” وقد ذكر في “الكتاب الليبي” الذي كتبه في القرن السادس قبل الميلاد خلال تجواله في المنطقة: “بنيت هذه الأهرامات كمقابر لدفن الموتى وكان شعب الجرمنت يدفنون موتاهم وهم مُمدّدين على ظهورهم، باستثناء النسامونيس أو سكان سرت الذين اعتادوا دفن موتاهم بوضعية الجلوس، فحسب معتقداتهم يجب أن يكون الإنسان جالسا لحظة خروج الروح منه وطريقة الدفن هذه كانت شائعة لدى سكان المنطقة في تلك العصور القديمة”.
‎ويغلب الشكل الهرمي على القبور وينتشر أيضا في عمارة الحضارات القديمة ومنها أهرامات الحطية في مدينة جرمة الليبية، أو أهرامات الجيزة في مصر.
ويشير هيرودوت إلى أن الدفن جلوساً، كان منتشرا في المنطقة حيث يأخذ القبر فيه شكل النصب أو الهرم الصغير ويكون عريضاً من الأسفل ويضيق في الأعلى ليضم الرأس، ويأخذ باختصار شكل المثلث. فالمثلث ليس مجرد رسم هندسي بل أنه يعكس قدسية المعتقدات التي اعتنقها الليبيون القدامى على مدى عشرة آلاف سنة ماضية، فقد كان التكوينَ الأساسي لرسم الإنسان في لوحات فناني ما قبل التاريخ الليبيين، مع الدائرة التي نقلت شكل الرأس البشري، ليدخل المثلث بعد ذلك في أيقونات المعبودة تانيت الليبية.
وكانت جرمة، كما يشير هيرودوت في كتابه الرابع “مدينة صحراوية مزدهرة تسيطر على طرق التجارة بين البحر المتوسط وأفريقيا، وكانت في ذلك الوقت من مراكز تجارة العبور المهمة، ونتيجة لذلك الازدهار الاقتصادي ازدهرت الحياة الثقافية وتطورت طرق التدين وطقوسه وترسخ الاعتقاد في القيامة واليوم الآخر وعودة الموتى في حياة أخرى”.
ويؤكد رئيس مصلحة الآثار في ليبيا علي الخضوري في تصريحات صحافية على أن أهرامات الحطيئة أو الحطية أقدم من أهرامات مصر وذلك أثبتته الدراسات التي أجريت عن طريق باحثين وعلماء آثار غربيين وبواسطة تقنيات علمية خاصة، مردفا بأن هؤلاء العلماء أشاروا إلى أن هناك احتمالا كبيرا بان تكون جرمة هي موطن الإنسان الأول.
ومن أهم المعالم الأثرية التي تركها الجرمنت أيضا في هذه المنطقة مقابر تعود لآلاف السنين وكانت مصلحة الآثار الليبية قد أعلنت عن اكتشافها في آب/اغسطس عام 2017 وأشارت إلى أن المقابر الجرمنتية تم اكتشافها في منطقة “تساوة” وسط الصحراء الليبية جنوب البلاد وهي إحدى واحات وادي عتبة وكان يطلق عليها “جرمة الصغرى” نسبة لسكانها القدامى.
وتذكر مصلحة الآثار الليبية أن الموقع عبارة عن مجموعتين من القبور الدائرية والتي يزيد عددها عن 42 قبرا تقع على سفح جبلي يزيد ارتفاعه عن 60 مترا.
تراث مهدد بالخطر
ويقول الكاتب الليبي أحمد الهادي الرشراش رئيس المنتدى الثقافي في جامعة طرابلس لـ “القدس العربي”: “لقد بنى الجرمنتيون حضارة عريقة في تلك المنطقة في القرن الأول للميلاد وكانت جرمة عاصمتهم وتركوا عديد الآثار التي تحكي تاريخ الليبيين القدامى”. وأشار إلى أن أهرامات ليبيا هي من أهم المعالم الأثرية التي تركها الجرمنتيون وتعد أقدم من أهرامات مصر ولكنها ليست بالضخامة نفسها وهي بجانب مدينة قورينا (شحات) من أقدم المدن الأثرية في العالم وأضاف بالقول: “مع الأسف ليبيا غنية بالمعالم الأثرية وتعد هذه الأهرامات من أهمها ولكنها غير معروفة لدى الكثيرين ولا تحظى بالاهتمام الإعلامي نفسه الذي تحظى به مواقع أثرية أخرى في العالم رغم أهميتها وهي مهددة اليوم بسبب العوامل المناخية وغياب الاهتمام وآخر عملية ترميم تعود إلى تسعينيات القرن الماضي من قبل وزارة الآثار الليبية ورغم ذلك فإنها لم تكن بالقدر الكافي الذي يجنب هذه الآثار عوامل الانهيار”.
وأضاف: “مؤسسو هذه الأهرامات هم شعب الجرمنت وهم بناة حضارة كبيرة متطورة في الزراعة والري والتجارة هي مصدر فخر لليبيين وتعبر عن تراثهم وتاريخهم الضارب في القدم. فقد برع أسلافنا في تشييد كل شيء وحتى المقابر كانت على قدر كبير من الجمال والروعة”. وقال: “ليبيا تمتلك تاريخا عريقا وكانت البلاد ملهمة لعديد الحضارات وللأسف تتحول اليوم هذه البقعة من العالم إلى ساحة للحروب الأهلية والخارجية والمتضرر الأكبر هو هويتنا وتاريخنا وآثارنا التي تعود إلى آلاف السنين”.








تقرير حول إهرامات الحطية في ليبيا  Ayoo110