العالم الأسرع من الضوء.. البحث عن سرعة تتجاوز الزمان والمكان
ربّما لم يحظَ رجل في المعمورة خلال الـ100 عام التي خلت بشهرة وزخم إعلامي كما حظي "ألبرت أينشتاين" صاحب تسريحة الشعر المبعثرة وغليون التدخين العتيق، ولم يكن لأحد أن يعلم إذا كانت أعظم اكتشافات العلوم الحديثة تنساق إليه أم أنّه هو من كان يسعى إليها، سواء أدرك ذلك أم لم يدركه.
هي شمس صيف عام 1902 التي ألقت بأشعتها الدافئة على شوارع "بيرن" السويسرية؛ المكان الذي يتوق إليه ذلك العالِم الشاب وطمح في العمل بها خبيرا تقنيا في المكتب الاتحادي للملكية الفكرية الذي يُطلق عليه باللغة الدارجة "مكتب براءات الاختراع".
وبحلول عام 1905، نال أينشتاين درجة الدكتوراه من جامعة زيورخ تزامنا مع حصوله على الجنسية السويسرية، ولكن لم يكن ذلك أعظم ما مرّ به في ذلك العام الذي يشير إليه المؤرخون على أنّه عام المعجزة (Annus Mirabilis).
ما كان لأينشتاين أن تمرّ عليه تلك الأبحاث العلمية مرورا يسيرا دون تمحيص وتفحص، فقد كانت ثمرة اطلاعه المستفيض والواسع هو نشره لـ5 أوراق بحثية، وأشهرها نظريته الشهيرة "النسبية الخاصة" التي غيّرت نظرتنا عن الكون إلى الأبد.
إنّ المعادلة الأشهر التي صاغها أينشتاين ضمن نظريته النسبية الخاصة والتي تنص على أنّ حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء يساوي طاقته، وهي ما تُعرف بمبدأ تكافؤ الكتلة والطاقة؛ يمثّل معامل سرعة الضوء حجر الزاوية في القانون، على افتراض أنّ للكون سرعة قصوى وهي سرعة الضوء، وأي تجاوز لهذه السرعة سيؤدي إلى انهيار الكون على نفسه، أو بمعنى آخر انهيار تلك القوانين التي تصف آلية عمل الكون.
التقدير الكمّي.. أول حساب لسرعة الضوء
لم يكن أينشتاين أول رجل يحسب سرعة الضوء، فقد سبقه بعقود محاولات شتّى لعلماء متفرقين أولهم الفلكي الدانماركي "أوول رومر" في القرن الـ17 عن طريق الخطأ والذي كان يعمل في مرصد باريس الفلكي في أثناء عمله على جمع ملاحظات عن قمر "أيو" رابع أكبر أقمار كوكب المشتري الكبيرة. فقد لاحظ رومر أنّ الأرض عندما تكون في أقرب نقطة مع المشتري يقع خسوفٌ لقمر أيو قبل 11 دقيقة تقريبا مما هو متوقع بناء على متوسط الفترة المدارية على مدى سنوات عديدة من المراقبة، وعند أبعد نقطة من كوكب المشتري -أي بعد 6 أشهر ونصف- يقع خسوف آخر للقمر ذاته، لكنّه يحدث بعد 11 دقيقة مما هو متوقع.
بالطبع لم يكن بديهيا مطلقا معرفة سبب وقوع هذا الاختلاف الزمني، بحكم أنّ القواعد النيوتنية الكلاسيكة كانت تجرّم التعامل مع الضوء على أنه أيّ شيء آخر عدا أن يكون لحظيا، فالمعتقَد القديم كان يتناول الضوء على أنّه سريعٌ للغاية لا يمكن قياسه، أو أنّ سرعته لا متناهية، ولا يمكن إسقاطه تحت أيّ منهجية قياس.
أثناء مراقبته لحركة أحد أقمار المشتري، لاحظ رومر أن فترة دورانه تختلف كل ستة أشهر، مما قاده إلى تقدير سرعة الضوء
ولعلّ تجاوز هذه المسلّمات استغرق بعض الوقت، لكن تجربة "رومر" فتحت بابا للتساؤل: لماذا حدث هذا الفارق الزمني بين موعد الخسوفين عندما تغيّر موقع الأرض مع المشتري؟ والإجابة بالطبع هو: لأنّ للضوء سرعة محدودة ويستغرق زمنا كي يقطع مسافة بين أي نقطتين.
وإذا كان فعلا لسرعة الضوء حد، فما هو هذا الحد؟ وهذا ما دفع الرياضي الهولندي "كريستيان هويغنز" إلى التحري في الأمر مجريا حساباته الفلكية، نتج عن هذه الحسابات سرعةً تقدّر بـ210 آلاف كيلومتر في الثانية، وهي أقل بـ 30% من السرعة الحقيقية للضوء. وسبب سوء النتيجة استناد هويغنز على أرقام رصد غير دقيقة لتوقيت الخسوف، وكذلك عدم دقة معرفته بأبعاد مدارات الكواكب، لكنّها كانت الإجابة الأولى التي تمنح تقديرا كميا لسرعة الضوء.1
النظرية الكهرومغناطيسية.. قوانين أربعة للعلاقة بين الكهرباء والمغناطيس
مع تطور أدوات القياس على مدار العقود التالية، زادت الدقة واقتربت النتائج من الرقم الصحيح لسرعة الضوء، لكن لم تأت اللحظة الفارقة إلا على يد الرياضي الأسكتلندي "جميس ماكسويل" في منتصف القرن الـ19، فقد أوجد نظرية الكهرومغناطيسية وصاغ قوانينه الأربعة الشهيرة لشرح العلاقة بين قوتي الكهرباء والمغناطيس.
اكتشف ماكسويل أنّ التغيير الذي يطرأ على المجال الكهربائي من شأنه أن يخلق مجالا مغناطيسيا، والعكس صحيح. وهذا يعني أنّ موجات كهربائية قادرة على إنتاج موجات مغناطيسية، وهي بدورها تنتج موجات كهربائية لتعود فتنتج موجات مغناطيسية مجددا وتستمر الحلقة على هذا النحو.
وفيزيائيا، يمكن تصوير كلا النمطين من الموجات بأنهما متعامدان على بعضهما، بحيث تكون الزاوية بين خط سير الموجة الكهربائية وخط سير الموجة المغناطيسية 90 درجة، وبهذا الشكل تكون هذه الموجات قادرة على السفر والتنقل في الفضاء وفي كل مكان.
الزمكان، نسيج الكون الذي يتحدب أكثر حول الأجسام الأكبر كتلة، وهو مفهوم آخر للجاذبية
وعندما أراد ماكسويل حساب سرعة هذه الموجات الكهرومغناطيسية المدمجة، وجد أنّ الأرقام تشبه إلى حدٍ كبير تلك التي وجدها من قبله العلماء عند حساب سرعة الضوء. وبدا الأمر مثيرا الآن أكثر، فاستخلص بأنّ الضوء قد يكون في جوهره موجات كهرومغناطيسية ليس إلا.2
وحينما قدِم أينشتاين لاحقا في بداية القرن العشرين، لم يكن معنيا إطلاقا بسرعة الضوء، بل كان منهمكا في تصوير الكون في إطار فيزيائي أكثر تماسكا مما هو عليه في الفيزياء الكلاسيكية. لقد أدرك أينشتاين العلاقة الحقيقية بين الزمان والمكان اللذان يمثلان النسيج الكوني معرِّفا إياهما بمصطلح مدمج بـ"الزمكان"، وهنا لاحت في الأفق إشكالية!
فلطالما أدركنا أنّ الزمان مختلف عن المكان في أصلهما حسابيا، فالمكان وحدة قياسه المتر أو القدم، أما الزمان فوحدة قياسه الثانية، وهاتان الوحدتان مختلفتان تماما عن بعضهما. لذا كان عليه الآن أن يجد رابطا وعلاقة لترجمة الحركة بين المكان والزمان، وبمعنى آخر؛ ماذا يقابل المتر الواحد من المكان زمانيا، وما هو "معدل التحوّل" اللازم بينهما؟
وهذا ما دفعه إلى البحث في المعادلات القديمة عن هذا المعادل العجيب، ولم يمكث طويلا حتى وجد ضالته بعد تطبيق نسبيته الخاصة على معادلات ماكسويل، فوجد أنّ هذا المعادل يساوي مقدار سرعة الضوء في الفراغ تماما، والتي تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية. وهنا اتضح له أنّ الصورة المتناهية للنسيج الكوني تربطه كمية تُساوي سرعة الضوء، ولا شيء بإمكانه تجاوز هذه الكمية بسرعته.
حاجز السرعة القصوى.. هل يتوجب علينا تصديقه؟
حاله كحال من لمعوا من قبله، فالعيون له متربصة ومترقبة لأي زلة وخطأ، واستمر هذا الحال من الأمس إلى اليوم، علما بأنّ كلّ من عرف أينشتاين أدرك أنّ الرجل صعب المنال، وما زالت انتصاراته القديمة المتجددة تدهش المجتمع العلمي إلى هذه اللحظة، لكنّ هذا لم يمنع البعض من إعادة النظر إلى بعض المسائل الحرجة وأولها حاجز السرعة القصوى للكون.
في الحقيقة، لم يكن أينشتاين معنيا بمعرفة أهمية سرعة الضوء لذاته، ولم يكن يشغله ذلك من الأساس، لكن تطابق الأرقام التي نتجت من الحسابات هي ما دفعته إلى القول بأنّ قيمة "معدل التحوّل" -التي ذكرناها سابقا- مساوية لقيمة سرعة الضوء، وعليه فإنّه ما من شيء يقدر على التنقل والتحرك متجاوزا هذه السرعة وهذه القيمة.
نفق الدودة، فرضية وضعها علماء الكون للانتقال عبر الزمن بأسرع من الضوء
يشير العلماء إلى أنّ الضوء قادر على تحقيق هذه القيمة لأنّه يتألف من جسيمات أولية عديمة الكتلة تدعى الفوتونات، وأي جسم أو جسيم آخر له كتلة يستحيل عليه تحقيق هذه السرعة، وفي أفضل الاحتمالات يمكن الاقتراب منها فحسب.
قد تكون هذه مجرّد حسابات توافقت مع معطيات تم افتراضها مسبقا بناء على بعض الحقائق، ولكن إذا تغيّرت المعطيات هل ستتغير النتائج؟ هكذا يتساءل البعض. لذا ما يحول بين إثبات تنبؤ نظريات أينتشاين أو نفيها هو التجربة النظرية أو العملية. وهنا نستعرض أبرز ما تم طرحه "نظريا" بهذا الشأن خلال العقود القليلة الماضية.
"محرك الاعوجاج".. سبيل سفن الفضاء
في ورقة بحثية قدّمها الفيزيائي المكسيكي "ميغيل ألكوبيير" في عام 1994 بعنوان "محرك الاعوجاج.. السفر فائق السرعة ضمن النسبية العامة" والتي اقترح بها منهجية مغايرة للنمط التقليدي في السفر والتنقل في الفضاء السحيق بسرعات فائقة، دون الإخلال بأي من قواعد الكون الفيزيائية.. يقول "ألكوبيير" في مقدمته " إنّه لمن المعروف أنه في إطار النسبية العامة من الممكن تشويه نسيج الزمكان بطريقة تسمح لسفينة فضائية بالسفر بسرعة كبيرة.3
هذا التشوه يحدث بفعل موجة تخلق أمامها انكماشا بالفضاء وتمددا خلفها، وبعد ذلك ستدخل المركبة الفضائية في داخل هذه الموجة وهو ما يعرف بفقاعة الاعوجاج، لتنطلق هذه الفقاعة بسرعات عالية دون الحاجة للمركبة أن تتحرك.
إنّ هذه الفقاعة الزمكانية بإمكانها السفر والتنقل في الفضاء بسرعات تتجاوز سرعة الضوء بكثير، وسيكون سفر المركبة الفضائية ضمنيا بداخلها.
ويُشبّه ألكوبيير هذه العملية بحقبة ما بعد نشأة الكون وعملية تمدده، إذ يتوسع الكون بسرعات أكبر من سرعة الضوء. ولو كان هناك مراقبان يوجدان في حيز ضمن هذا التوسع، فسيكون من السهل القول إنّ هذين المراقبين يسيران بسرعة أكبر من سرعة الضوء، لكنّ هذا غير صحيح، لأنّهما ما زالا قابعين داخل الحدود الكونية التي تمنع ذلك، وما نشاهده خرقا لسرعة الضوء هو سرعة توسع الكون ذاته.4
يعمل "محرك الاعوجاج" على خلق تشويه في الزمكان على شكل فقاعة يتنقل خلالها في أرجاء الكون
ولتحقيق مثل هذا النموذج يستوجب علينا فهم "تأثير كازيمير"، ويُقصد به باختصار أنّه قوة فيزيائية تحدث على نطاق ميكروسكوبي في مساحة ضيّقة للغاية. ويبدو أنه تعريف معقد، لكن يمكن ضرب مثالٍ يُسهّل فهمه. فإذا وضعنا لوحين متقابلين غير مشحونين وتفصل بينهما مسافة محدودة للغاية -ربما بضع ميكرومترات- في الفراغ، فإنّ ثمّة قوة جذب محدودة تنتج من هذين اللوحين.
يعتقد العلماء أنّ الاستعانة بهذه القوة من شأنه تعزيز فكرة إنشاء محرك الاعوجاج عن طريق سحب وجذب المركبة الفضائية إلى الأمام بتقليص الزمكان نفسه.5
وعلى مستوى التطبيق العملي، فقد اقترح فريق من العلماء بقيادة الدكتور "هارولد وايت" الفيزيائي والمهندس لدى وكالة ناسا، اقترح هيكلا لمحركات الاعوجاج يمكن إنشاؤه في العالم الحقيقي واستخدامه لاستكشاف تأثير كازيمير. وتبدو هذه خطوة صغيرة، لكنها عظيمة وممكنة على حد وصفه، وقد تفتح لنا آفاقا مستقبلية لتنفيذ ما نشره الفيزيائي "ألكوبيير" للتنقل في الفضاء.6
مادة غريبة وأنفاق دودية.. انتقال عبر الزمان والمكان
ليست الأنفاق الدودية سوى مجموعة من الحلول والمخرجات من معادلات أينشتاين لنظرية النسبية العامة، وهي اكتشاف مشترك بين أينشتاين نفسه والفيزيائي الأمريكي "ناثان روزن" في عام 1935، فقد استخلصا نموذجا "نظريا" لجسور فلكية تربط بين نقطتين تفصل بينهما مسافات كبيرة في الزمكان، وقد أطلقا عليها "جسور أينشتاين روزين" قبل أن تتغير التسمية لاحقا إلى الأنفاق أو الثقوب الدودية.7
ويعتقد علماء الفيزياء النظرية أنّ وسيلة التنقل هذه قادرة على توجيه أي جسم إلى نقاط بعيدة جدا بسرعات تفوق سرعة الضوء، على أن يكون التنقل ليس ضمن الإطار المرجعي المحلي، أي أن يكون التنقل ضمن النسيج الزمكاني، وهو ما توفره هذه الأنفاق الدودية تماما كطريقة "محرك الاعوجاج" الذي جاء ذكره آنفا.
وفي أصل وجودها فإن حالها كحال الثقوب السوداء، حيث كانت الاستنباطات الرياضية أول الدلائل على وجودها، على الرغم من أنّ الثقوب السوداء قد تبعها رصد مباشر بواسطة تلسكوبات راديوية ذات تقنية عالية وتم توثيقها خلال العامين الماضيين، وهذا ما لم يحدث مع الأنفاق الدودية حتى هذه اللحظة.
الثقب الأسود، أحد بوابتي النفق الدودي إلى الطرف الآخر من الكون
ويرى كثيرون -ومنهم منظّرو نظرية الأنفاق الدودية أنفسهم- أنّ مثل هذه الجسور الكونية غير ممكنة الحدوث فضلا عن أنّها خطيرة للغاية كونها غير مستقرة، أي أنّها تنهار فجأة وتضمحل دون سابق إخطار.
وفي وصف النفق الدودي، فإنّ له فوهتان، إحداهما ثقب أسود والأخرى ثقب أبيض، وهذا رغم أنّ الثقوب البيضاء غير مكتشفة حتى هذه اللحظة، وإنما هي الأخرى من استنباطات النظرية النسبية التي قدمها الفيزيائي النمساوي "لودفيج فلام".
وتربط هاتان الفوهتان أو المدخلان نقطتين بعيدتين عن بعضهما في الكون بواسطة جسرٍ مُبطّن بـ"مادة غريبة"، وتأثير هذه المادة يعمل عكس تأثير المواد الطبيعية بسبب احتوائها على كثافة طاقة سلبية وضغط سلبي كبير. وعوضا عن أن تجذب الأشياء نحوها تجعلها تنفر، وسبب ضرورة وجودها هو أنّها تُبقي النفق الدودي مفتوحا وممتدا دون أن ينهار وينكمش على نفسه.
توالي التأثير.. تشابك كمي وانتقال لحظي
في حديثنا عن التنقل بسرعة أعلى من سرعة الضوء، لا يمكننا التغاضي عن فيزياء الكم -أو ميكانيكا الكم كما يحلو تسميتها- في هذا العالم المتناهي الصغر حيث يختلف منطق القوانين وتختلف الحسابات. وتعد نظرية التشابك الكمي إحدى تلك الظواهر المثيرة والغريبة التي تشغل حيّزا كبيرا لدى علماء فيزياء الكم.
تفترض هذه النظرية جسمين على مستوى عالم الكم، أي صغيرين للغاية، تربط بينهما علاقة كمومية بالسرعة والموقع والزخم واللف المغزلي وغيرها من الخصائص، ويتأثران بذات التأثير، فإذا تأثر أحدهما تأثر الآخر مهما بلغت المسافة الفاصلة بينهما في الكون بحكم الرابط بينهما، ويكفي النظر إلى صفات زوجٍ واحد لمعرفة صفات الآخر، ولهذا السبب سُميّت بالتشابك الكمي.
يهتم هذا الفرع من الفيزياء بعالم ما هو دون الذرية. ولأنّ تطبيقه صعب للغاية، يتم تبنّي فرضياته في أغلب الأحيان نظريا وحسابيا دون اللجوء إلى التطبيق المباشر لعدم توفر الآلة والوسيلة. وفي ورقة بحثية صدرت عام 1935، قدّم أينشتاين وروزن والفيزيائي الروسي "بوريس بودولسكي" دراسة لمدى قوة ارتباط الحالات الكمية مع بعضها البعض، ووجدوا أنه عندما يرتبط جسيمان ارتباطا وثيقا، فإنهما يفقدان حالتهما الكمومية الفردية ويتشاركان بدلا من ذلك حالة واحدة موحدة.8
التشابك الكمي، علاقة تربط بين جسمين على مستوى العالم الكمي بالسرعة والموقع والزخم واللف المغزلي
كما أنّ عامل المسافة غير مهم في هذه النظرية، أي مهما بلغت فإنّ النتائج ستكون ذاتها. ويعتقد العالم الألماني "إروين شرودينغر" -وهو من مؤسسي فيزياء الكم- أنّ التشابك الكمي هو أكثر المحاور جوهرية في العالم الكمّي، وأنّ وجود مثل هذه النظرية هو بمثابة الخروج الكامل من منهجية التفكير الكلاسيكية.
وما دام الانتقال والتأثير لحظيا، إذن لا بد من أنّ المعلومات المرسلة بين نقطتين تنتقل بسرعة أعلى من سرعة الضوء، وبهذا سنكسر إحدى ضوابط الكون الرئيسية. والأمر ليس بهذه البساطة، وقد سبق لأينشتاين أن أشار إلى هذه المعضلة واصفا إياها بأنه "عملٌ مريع عن بعد".
وعلى الرغم من أنّه ليس هناك حل واضح لهذه المعضلة بعد، فإنه يمكن القول: كما يتبنى التشابك الكمي خاصية الانتقال اللحظي، فإنّه كذلك يحافظ على مبدأ السببية، أيّ أنّه ما من شيء يحدث دون مسبب.
فلو أنّ مراقبا لجسم كمّي يتابع حالته، فلن يدرك التأثير الواقع عليه حتى يحصل على معلومات لمقارنة ذلك التأثير من طرف المراقب المُرسِل، ولن تصل هذه المعلومات إلا بعد أن تقطع المسافة الفاصلة بسرعة لا تتجاوز سرعة الضوء. لذا يعتقد كثيرون بأنّ مثل هذه الوسيلة ما زالت حبيسة سرعة الضوء، على الرغم من كونها ظاهريا تواصل لحظي.9
التاكيونات.. جسيمات متناهية الرشاقة
في عام 1967، نشر فيزيائي أمريكي من جامعة كولومبيا ويُدعى "جيرالد فاينبرغ"، ورقة بحثية عُنونت "إمكانية وجود جسيمات أسرع من الضوء"، مستعرضا بها جسيمات تخيلية تمتلك صفات مغايرة ومستعينا بالنظرية النسبية الخاصة، وهي المرّة الأولى التي يظهر بها مصطلح "تاكيون" وتعني بالإغريقية جسيمات متناهية الصغر ورشيقة للغاية.
افترض فاينبرغ وجود نوعين من الجسيمات دون الذرية، أحدهما البراديونات وهي تمثل كل ما يتعلق بكتلة العالم المرئي، ومن أهم صفاتها أنّها تزيد طاقتها كلّما زادت سرعتها، وأنها كلما اقتربت من سرعة الضوء ستكتسب طاقة ما لانهائية وهذا فيزيائيا غير ممكن.
أما النوع الآخر وهو التاكيونات وتختلف عن نظيرتها بأنّها تفقد الطاقة بدلا من اكتسابها حينما تزداد سرعتها، ولهذا السبب يمكن لها أن تجتاز سرعة الضوء نظريا، بل ينبغي أن تكون دوما في هذا النطاق من السرعة وما دونه.10
التاكيونات، جسميات تفقد طاقة كلما زادت سرعتها، مما يسمح لها نظريا باجتياز سرعة الضوء
وقد يُخيّل للبعض عند الحديث عن التاكيونات أو الجسيمات التكويونية، أنّها ضربٌ من الخيال أو أنها إحدى صرعات كتّاب الخيال العلمي في إطار سعيهم نحو خلق الإثارة الروائية، غير أنّ الأمر له أبعاد علمية أبعد من ذلك بكثير، إذ إنّ التاكيونات نظريا لا تخالف قوانين النسبية ما دامت تلتزم شرط ازدياد الطاقة اللانهائي مع زيادة السرعة.
لكن ما يخالف وجود التاكيونات فعليا هو أنها تخالف في جوهرها أحد المبادئ الفيزيائية، وهي السببية التي تطرقنا إليها مسبقا، لأنّها بطبيعة الحال قادرة على كسر الثابت الزمكاني الذي يربط النسيج الكوني، أي قيمة سرعة الضوء، وبالتالي قادرة على السفر بالزمن إلى الماضي، وتلقائيا سنجد أنفسنا أمام المعضلة الشهيرة "مفارقة الجد".
وفي ختام الحديث، إن عتبة سرعة الضوء ما زالت حلما عصيا للفيزيائيين الحالمين بكسر شوكة نظريتي النسبية لأينشتاين، وربّما هو الطموح الذي يستهدفه روّاد الفضاء لمن يبتغي الوصول إلى أقاصي الكون وأطرافه من مجرة إلى أخرى بالنظر إلى ما يسمح به عمره المحدود.
إنّ العمل تحت مظلّة مبادئ النسبية العامة لن يسمح بوجود أيّ جسيمات تخترق الثابت الكوني لسرعة الضوء في الفراغ، والحل الوحيد هو الالتفاف على هذه المعادلات. فبدلا من أن يكون الإطار المرجعي محليا، سيكون على نطاق أوسع، أي بالنسيج الكوني ذاته وذلك بإحداث تشويه فيه، كما تفعل الأنفاق الدودية وكذلك مشغل ألكوبيير، وحينها سيمنحنا الزمكان فرصة التنقل بسرعات تفوق سرعة الضوء بأضعاف مضاعفة، تماما كما يحدث الآن في توسّع الكون الذي يفوق سرعة الضوء.
المصادر:
[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). اولي رومر وسرعة الضوء. تم الاسترداد من: https://www.amnh.org/learn-teach/curriculum-collections/cosmic-horizons-book/ole-roemer-speed-of-light
[2] ستر، باول (2020). لماذا سرعة الضوء على ما هي عليه؟. تم الاسترداد من: https://www.space.com/speed-of-light-properties-explained.html
[3] ألكوبيير، ميغيل (2000). ورقة بحثية: محرك الالتواء: السفر فائق السرعة ضمن النسبية العامة. قسم الفيزياء والفلك، جامعة ويلز.
[4] نفس المصدر.
[5] هال، جاسيكا (2021). العلماء لم "يصنعوا" فقاعة الاعوجاج، لكنهم أقرب إلى اختبار واحدة. تم الاسترداد من: https://www.extremetech.com/extreme/329631-scientists-havent-created-a-warp-bubble-but-theyre-a-bit-closer-to-testing-one
[6] كلارك، أوبري (2022). هل عثرنا على محرك الاعوجاج؟ يشرح العلماء كيف يحدث ذلك. تم الاسترداد من: https://www.sciencetimes.com/articles/35310/20220101/warp-bubble-found-scientists-explain-how-this-works.htm
[7] تليمان، نولا (2022). ما هي نظرية الثقوب الدودية؟. تم الاسترداد من: https://www.space.com/20881-wormholes.html
[8] ستر، باول (2021). ما هو التشابك الكمي؟. تم الاسترداد من: https://www.livescience.com/what-is-quantum-entanglement.html
[9] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). هل التواصل الكمي أسرع من سرعة الضوء؟. تم الاسترداد من: https://quantumxc.com/blog/is-quantum-communication-faster-than-the-speed-of-light/#:~:text=No%20real%20information%20is%20passed%20when%20the%20entangled%20particles%20affect%20each%20other.&text=The%20end%20result%20is%20always,than%20the%20speed%20of%20light.%E2%80%9D
[10] لي، روبرت (2021). تاكيونز: حقائق عن هذه الجسيمات الأسرع من الضوء. تم الاسترداد من: https://www.space.com/tachyons-facts-about-particles
https://doc.aljazeera.net/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-