القائد الامازيغي ماطوس أول من تزعم ثورة تحرير الأراضي الأمازيغية من الفينيقيين
يعد ماتوس أهم أبطال المقاومة الامازيغية، فقد كان قائدا عسكريا محنكا في جيش قرطاج، وكان من القادة المأجورين لمساندة حكومة قرطاج في خوض حروبها البونيقية ضد الرومان. بيد أن ماتوس سيثور ضد الدولة القرطاجية حينما عجزت الحكومة عن دفع مستحقاته المالية و أجور الجيش الامازيغي الذي كان يشكل نواة الجيش القرطاجي.
الفينيقيين عندما نزلوا ضيوفا لدى الملك الأمازيغي يارباس بتونس ، اهتموا بالتجارة أولا والفلاحة ثانيا، ولم يهتموا بالجانب العسكري وتكوين جيش قوي ،وهذا ما دفع القرطاجيين للتشكيل جيش عسكري من المرتزقة الليبيين يقودهم المحارب البطل ماتوس الذي أظهر شجاعة كبيرة في مجال المعارك والحروب التي خاضتها قرطاجة ضد التوسع اليوناني في غرب حوض البحر الأبيض المتوسط،وضد الهجمات التي شنها الرومان لتطويق الوجود البونيقي في جنوب إيطاليا وخاصة في صقلية فسردينيا ثم تونس. لكن هذا القائد الذي تزعم ثورة امازيغية طبقية وعسكرية ضد القرطاجيين البونيقيين سرعان ما سيخمدها القائد حملقار برقا لصالح الحكومة القرطاجية في تونس ، وسيصلب ماتوس سنة 237 قبل الميلاد.
لما استقرت الجالية الفينيقية في تونس، بدأت في ممارسة أصول التجارة و الاهتمام بالزراعة كما يدل على ذلك كتاب " موسوعة الفلاحة" لماغون. وبدأ الفينيقيون في التوسع والتمدين والإكثار من التشييد والعمران فبدأت قرطاجة في التوسع على حساب جيرانها من الامازيغ، فتغيرت معاملتها مع الأهالي، فكانت تسيء إليهم ، وتعاملهم باحتقار، وتشغلهم في أراضيها وسفنها ، كما جندتهم في جيشها البري وأسطولها البحري. ويقول الباحث الليبي محمد بن مسعود في كتابه:" تاريخ ليبيا العام": " وكان الفينيقيون يعتبرون أنفسهم غرباء عن البلاد. فلم يتعد نفوذهم داخل هذه المدن. وتركوا الليبيين يديرون شؤونهم حسب عاداتهم. ولما أصبحت قرطاجنة دولة عظيمة تغيرت حينئذ معاملتهم للطرابلسيين. وانقلبوا من جالية غريبة إلى أمة متسيطرة بقوتي البر والبحر."
ايضا أن القرطاجنيين استعانوا الامازيغ في مجال الفلاحة والملاحة والتجارة والحروب، لذا،" انخرط الامازيغ في جيوش قرطاجة، وأصبحوا يشكلون نواة ميلشياتها العسكرية، ووقفوا إلى جانبها في صراعها مع دول المدن اليونانية، وطيلة الحروب البونيقية (264-146ق.م) التي تواجهت فيها مع روما الصاعدة، منذ احتلالها(أي روما) لجزيرة صقلية سنة 261ق.م. ومع مرور الزمن توطدت العلاقات بين الأهالي البربر وسكان المدن البونيقية. فقد انبهر الأمراء النوميديون الذي أقام عدد كبير منهم في قرطاج، بحضارتها، وتزوجوا بنات طبقاتها النبيلة، وسموا أبناءهم بأسماء قرطاجية، وعبدوا آلهتها السامية، وحرضوا رعاياهم على العمل بأساليب ماغون الفلاحية."
بيد أن العلاقة الإيجابية التي كانت بين القرطاجيين والامازيغ سرعان ماسيشوبها نوع من الكدر والحذر مع تطاول البونيقيين على الساكنة الأمازيغية . وسيسبب تغير معاملة القرطاجنيين مع الأهالي في انقلاب الوضع من واقع التأثر والتأثير إلى واقع المواجهة والصدمات المتكررة بين الأهالي والضيوف المتسلطين والمتباهين بقوتهم البرية والبحرية، والمتعجرفين بسلطتهم الاقتصادية والمالية.
لذا، ثار الأمازيغيون على القرطاجنيين في انتفاضات شعبية عدة، وواجهوهم في مواجهات كثيرة ومعارك أخمدت بسرعة. وفي هذا السياق التاريخي يقول الأستاذ محمد شفيق:" لكن واقع الأمر هو أن التعايش السلمي انقضى عهده بسبب رغبة قرطاجة في التوسع خارج مجالها البحري الذي منحت إياه عن رضى. فنشبت بينها وبين الأمازيغيين تحرشات ابتداء من مطلع القرن الرابع قبل الميلاد. فحاصروها حصارا شديدا سنة 396ق.م.
وبما أن القرطاجيين شعب تجاري لايهتم سوى بالفلاحةو الملاحة البحرية ، فإنه لكي يحافظ على وجوده في غرب المتوسط ، كان عليه أن يعد جيشا جرارا لحماية مجاله الحيوي ويقف في وجه منافسيه من اليونانيين والرومان ،لذا عمدت قرطاجة إلى الاستعانة بالامازيغ وتجنيدهم في صفوف الجيش القرطاجي مقابل أجور تدفع لهم مقابل خدماتهم العسكرية واستبسالهم في المعارك الضارية. فحاربت بهم قرطاجنة الرومان برا وبحرا في ثلاث حروب بونيقية عاتية دامت مائة سنة ، وقطع بهم حنبعل جبال أوروپا ومرتفعات الألب لمحاصرة روما في عقر دارها،. و" على هذا النحو، فإن قرطاجة ظلت سيدة النصف الغربي من البحر الأبيض المتوسط حتى بلغت روما أشدها وأدركت خطر قرطاجة عليها فدخلت معها في ثلاث حروب بونيقية انتهت سنة 146ق.م بتدمير قرطاجة وإزالتها من عالم الوجود .
وقد سببت هذه الهزيمة الحربية في انهيار الاقتصاد القرطاجني وتوافد أعداد كثيرة من الجنود الأمازيغيين الذين عادوا من صقلية والمستعمرات الأخرى التي تنازلت عنها قرطاج لصالح روما، فسبب هذا التوافد في تأزيم خزينة الدولة العاجزة عن تسديد التزاماتها المالية تجاه الجنود العائدين؛ فسرحت الحكومة المحاربين البربر، فكان هذا القرار الجائر سببا مباشرا في اندلاع ثورة المرتزقة التي كان يقودها ماتوس.
أشعل نار الثورة القاءد الامازيغي ماطوس فاستجاب لندائه الحضر والبدو وسرعان ما التف حوله سبعون ألفا من الرجال يجمعهم نفس الحماس، للطرد الفنيقيين ،وعينت قرطاج " حانون" لمقاومتهم وكأنها أرادت أن تتحداهم لأن ألأفارقة كانوا لايكرهون رجلا كما كانوا يكرهونه، ولم يقدر " حانون" على منعهم من احتلال الحد الفاصل بين قرطاج وتونس سنة 240ق.م ومحاصرة أوتيكة وبنزرت."
ولم يشعل ماتوس في الحقيقة الثورة ضد القرطاجنيين إلا للدفاع عن الهوية الأمازيغية والكينونة الامازيغية والوقوف في وجه الظلم والابتزاز والاستغلال وتسريح الجنود الذين خدموا قرطاجنة أيما خدمة أثناء التصدي للغزاة الرومان في حروب بونيقية فظيعة أتت على اليابس والأخضر. لكن الحكومة القرطاجنية عاملت المنتفضين بوحشية وقسوة ودفعتهم في حروب ضد روما لم يكن للامازيغ لهم فيها ناقة ولاجمل.
كل هذه الحيثيات جعلت ماتوس يقود حملته العسكرية وثورته الشعبية التي كانت مدعمة من قبل الأهالي، تشارك فيها النساء الامازيغيات بكل ما يملكن من حلي وأدوات الزينة من أجل الدفاع عن موقف أزواجهن ضد الجبروت القرطاجي. فحاصر ماتوس المدن الإستراتيجية التابعة لقرطاجنة؛ فشكلت ثورته خطرا على الحكومة البونيقية في قرطاج، واستمرت العداوة متأججة بين الطرفين، واستمرت الحروب ناشبة بين قرطاجة و الامازيغ المناضلين مدة طويلة، فاتخذت المناوشات والمعارك صبغة صراع اجتماعي طبقي بين الامازيغ المنهكين بالفقر والجوع، والأثرياء القرطاجنيين الذين استحوذوا على خيرات البلاد كلها، وتركوا الأهالي يموتون فاقة وسغبا. كما اتخذت الانتفاضة الشعبية التي شارك فيها أهل القرى والمدن صبغة عسكرية؛ لكونها كانت تحت لواء قائد عسكري هو ماتوس الذي استطاع أن يضغط على العاصمة، وأن يشكل بانتفاضته العارمة خطرا حقيقيا على الوجود الفينيقي في شمال أفريقيا. بيد أن قرطاج عينت حانون الذي فشل في التصدي للثوار، فعينت بدله القائد الداهية هاميلكار الذي نجح في إخماد الثورة وتحقيق الانتصار على ماتوس .
ومن أهم نتائج تحالف قرطاج مع روما ، أن حاصر هاميلكار الثورة الشعبية الامازيغية، ليتخلص بعد ذلك من عدوه ماتوس لتنتهي المقاومة الأمازيغية المريرة والشديدة من حيث الآثار على قرطاج، ولكن هذه المقاومة ستعقبها مقاومات أمازيغية أخرى خطيرة سيشعلها الامازيغ ضد التواجد القرطاجني والروماني على حد سواء من قبل بعض الملوك الأبطال كماسينيسا و صيفاقس ويوبا الأول ويوغرطة وتاكفاريناس....