ثورة محمد بن أبي أمية آخر المورسكيين
الأندلس، البقعة البديعة التي استمرت في حِمى الحضارة الإسلامية ثمانية قرون متوالية، والتي لا يأتي ذكرها على الألسن إلا مصحوبا بمشاعر الشوق والحنين، ولعله شوق إلى تلك الحضارة الراقية التي لا تزال شواهدها باقية في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من حواضرها الغَنّاء، وفي القلب منها الحمراء وجنة العريف وبقايا الزهراء وقنطرة قرطبة ومسجدها وأبراج إشبيلية وغيرها مما تركه الأندلسيون.
على أن هذا الوجود، وتلك الحضارة التي جمعت بين الأناقة والرفاهة والجمال أصابها في أخريات أيامها ما لم نكن نتخيله لولا تواتره في كتب التاريخ الإسباني والإسلامي على السواء. لقد أُسيلت الدماء، وقُطّعت الأشلاء، وعُذّب الأندلسيون تعذيبا ممنهجا ووحشيا باسم الصليب والرب فيما سُمي بمحاكم التفتيش التي أشرف عليها قساوسة ورهبان، إلا أن الأندلسيين حاولوا مرارا مواجهة هذه الوحشية والخيانة رغم ضعفهم وعجزهم وتشتتهم وتنصيرهم، فقاموا بعدة ثورات، لعل أشهرها ثورة محمد بن أمية في البشرات وما حولها جنوب غرناطة.
فكيف آلتِ الأندلس وغرناطة إلى هذا المصير القاسي؟ وكيف خان فرناندو الخامس وإليزابيث عهودهم ومواثيقهم تجاه أهل الأندلس من المسلمين؟ وما أهم الجرائم التي ارتكبوها في حقّ المسلمين؟ وكيف ظهر محمد بن أمية والتف حوله المورسكيون؟ وما مآلات ثورته ونهايتها المأساوية؟
أيام الأندلس الأخيرة!
تلا ضعف سلطة الموحّدين في الأندلس ضياع العديد من مدنه على يد النصارى الإسبان، فسقطت قرطبة وإشبيلية وسرقسطة وغيرها في النصف الأول من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، وظهر في تلك الأثناء رجلان حاولا لمّ شعث التفرق الأندلسي وضعفه، والمحافظة على ما بقي من التراب الأندلسي، الأول هو محمد بن يوسف بن هود زعيم سرقسطة، الذي دانت له مناطق شرق الأندلس ومدنها، والثاني كان محمد بن يوسف بن الأحمر الذي اعترفت بسلطته مناطق جنوب الأندلس "الأندلس الصغرى"، على أن وفاة ابن هود جعل ابن الأحمر الزعيم الأهم، والقائد السياسي لمناطق شرق وجنوب الأندلس، وعلى يديه نشأت مملكة غرناطة، البقعة الأخيرة التي فرّ إليها المسلمون، واستعصموا بها، وظلوا يدافعون عنها طوال قرنين ونصف حتى السقوط الأخير على يد النصارى الإسبان.
عاشت مملكة غرناطة طوال قرنين في مواجهات مستمرة مع القوى النصرانية في الشمال التي كانت عامل ضغط وهجوم متواصل، ولولا دعم الدولة المرينية التي كانت تحكم المغرب حينذاك لما استطاع الأندلسيون البقاء والاستمرار والصمود، هذا فضلا عن إدراك الأندلسيين بطبقاتهم الاجتماعية كافة، علماء كانوا أم عامة أم عسكرا أنهم أصبحوا في النقطة الأخيرة، نقطة اللا عودة، وأن الضعف يعني السقوط والموت دون رحمة على يد الإسبان، الأمر الذي دفعهم للمقاومة والثبات عليها، رغم ما كان يعتريهم من ضعف وانقلابات داخلية ومؤامرات للظفر بالعرش.
قادت هذه الانقلابات الداخلية بين أبناء وأمراء بني الأحمر ملوكَ قشتالة وأراغون إلى استغلال الظرف والتقدم على حساب ممتلكات غرناطة، بل عملوا على إذكاء الفتن والصراعات الداخلية في نهايات القرن التاسع الهجري، حيث لجأ بعض ملوك بني الأحمر إلى فرناندو طالبين منه العون على خصومهم ومنافسيهم على العرش، لا سيما في التنافس الشرس بين أبي عبد الله الصغير وعمه محمد بن سعد أبو عبد الله الزغَل الذي اتصف بالشجاعة، هذا الصراع انتهى بتقسيم غرناطة، فاستغل ملك أراغون فرناندو وملكة قشتالة إيزابيلا هذا الظرف، وانطلقا بجيوشهما صوب غرناطة التي حاصروها حصارا محكما شديدا، فمنعوا عنها المؤن والمدد لشهور طوال، حتى اضطر أهلها وملكها أبو عبد الله الصغير إلى التسليم في محرم سنة 897 هـ/نوفمبر/تشرين الثاني 1491م وفق معاهدة بين الجانبين.
تضمنت معاهدة التسليم سبعة وستين شرطا، كان منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم وعقارهم، وضمان إقامة شريعتهم ولا يُحكم عليهم إلا بها، وأن تبقى المساجد والأوقاف كذلك، ولا يدخل النصارى بيوت المسلمين ولا يغصبوا أحدا، وألا يولّى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي، وإطلاق سراح جميع الأسرى المسلمين، وألا يُنصّر المسلمون عنوة، وغيرها من الشروط الأخرى، ثم انتقل الملك أبو عبد الله إلى إقليم أندرَش الواقع في جبال البشرات جنوب غرناطة، لكنه اضطر إلى الالتجاء إلى المغرب في العام التالي من التسليم بعدما أمره فرناندو بالمغادرة، واستقر هناك، حتى إن المؤرخ المقري رأى ذريته بعد ذلك بقرن في شوارع فاس يعانون الفقر وسؤال الناس!
الغدر والخديعة!
كان الغدر والرياء أبرز صفات الملك فرناندو المظفر، الذي أتيح له القضاء على دولة الإسلام بالأندلس، وقد نوه بهذه الصفات عدد من كبار المؤرخين المعاصرين واللاحقين، ومنهم المؤرخون القشتاليون أنفسهم، بل إن معاصره الفيلسوف السياسي مكيافيللي يقول في حقّه: "إن فرناندو الأرجوني غزا غرناطة في بداية حُكمه، وكان هذا المشروع دعامة سلطانه، وقد استطاع بمال الكنيسة والشعب أن يمدّ جيوشه، وأن يضع بهذه الحرب أُسس البراعة العسكرية التي امتاز بها بعد ذلك، وقد كان دائما يستعمل الدين ذريعة ليقوم بمشاريع أعظم، وقد كرّس نفسه بقسوة تسترها التقوى لإخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وبمثل هذه الذريعة غزا إفريقية، ثم هبط إلى إيطاليا، ثم هاجم فرنسا….
ومن هنا لبث المورسكيون أو المدجّنون (المسلمون المنصَّرون) في عهد فرناندو الخامس زهاء عشرين عاما، يتراوحون بين الرجاء واليأس، ويرزحون تحت غمر المطاردة المنظمة، وكان هذا الشعب المستضعف قد بدأ إدخاله قسرا للنصرانية، والذي أنكرت حقوقه إسبانيا، والكنيسة التي عملت على تنصيره، ورغم ذلك كان يحاول أن يتقبل مصيره المنكود بإباء، وظلت هذه البقية من المسلمين العزّل مصدر قلق وحقد من جانب الإسبان، فعملوا بكل طاقتهم على إرهاقه وإذلاله ومطاردته بمختلف الفروض والمغارم.
توفي الملكان الكاثوليكيان إليزابيث في عام 1504م وفرناندو الخامس في 1516م، ودفنا في جامع قرطبة الذي حُوِّل إلى كاتدرائية بناء على وصيتهما، وخلفهما حفيدهما شارلكان على عرش إسبانيا، وقد نعم المورسكيون في بداية حكمه بشيء من الأمان والعدل، لكن العناصر المتطرفة من الكنيسة ورجال الجيش عادوا إلى سابق عهدهم بمحاكم التفتيش والتعذيب والتضييق على المورسكيين وتنصيرهم وتزويج بناتهم من النصارى الإسبان.
ولم يجد المورسكيون أمام هذا الاضطهاد الممنهج والقسوة في المعاملة سوى الهرب من هذا الجحيم، فرغم اتباعهم للنصرانية، فإن سياسة الاضطهاد والتضييق ظلت مستمرة، وقد حاولوا الهجرة من الأندلس في العقد الخامس من القرن السادس عشر الميلادي صوب المغرب أو الجزائر أو غيرها، لكنّ قرارا صدر سنة 1541م حرّم عليهم تغيير مساكنهم، ومنعهم من الذهاب صوب بلنسية التي كانت منطلقهم البحري صوب المغرب وشمال أفريقيا دون تصريح ملكي نظير مبالغ فادحة.

الثورة الموريسكية.. الملاذ الأخير
وقد ظن المورسكيون أن عصر شارلكان (1516-1555م) كان عصر اضطهاد وظلم، لكن هذا الظن تبدد حين جاء عصر الوحشية والبشاعة على يد ولده الإمبراطور فيليب الثاني (1555-1598م)، فقد كان التنصير قد عمّ المورسكيين في غرناطة وبلنسية وغيرها، وصدر عام 1566م مجموعة من القوانين القاسية والوحشية، فقد أُخضعوا قسرا وأُجبروا على ترك هويتهم ودينهم ولغتهم وحتى ملابسهم، وعدم الاستحمام في الحمامات العامة، وتحريم استعمال الأسماء والألقاب العربية، وإجبارهم على فتح منازلهم وتفتيشها أيام الجُمَع والأعياد حتى لا يجتمعون سرا للاحتفال والعبادة، وحرمت عليهم معظم العادات والتقاليد الإسلامية والعربية التي اعتادوها زمن الإسلام في غرناطة
ويعبر أحد المعاصرين لهذه الأحداث وهو "فرنسسكو نونيث مولوي" في مذكراته سنة 1566م عن استمرار أعمال الاضطهاد والإساءة للمورسكيين فيقول: "في كل يوم نرى سوء معاملة أسوأ وأكثر في كل شيء، وبكل الطرق والوسائل، سواء من جانب سلطات العدالة المدنية وموظفيها أو من جانب رجال الدين، وهذا شيء ملاحظ، ولسنا في حاجة إلى معرفته أو الاستعلام عنه
كان الاضطهاد الأعظم في غرناطة، وكان المورسكيون مع القوانين الأخيرة التي أصدرها فيليب الثاني سنة 1566م، وبدأ تطبيقها دون هوادة في ذكرى سقوط غرناطة في الأول من يناير/كانون الثاني من العام التالي 1576م، قد أدركوا أنهم على موعد مع القطيعة النهائية مع دينهم وتراثهم وتاريخهم وأجدادهم، لا سيما وأن محاولاتهم للوساطة والود ودفع الأموال للتخفيف من وطأة هذا العدوان لم تفلح مع التعصب الكاثوليكي الأعمى، ومع مظالم ووحشية محاكم التفتيش التي أنزلت بهم صنوفا من التعذيب والأسر والقتل لم يروا مثلها من قبل.
فلما بلغ اليأسُ بالمورسكيين ذروته؛ تهامسوا على المقاومة والثورة، والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضني، أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم آخرُ جذوة من الكرامة والعزة، وقبل أن تُقطع آخر صِلاتِهم بالماضى المجيد، وكانت نفوسهم لا تزال تضطرم ببقية من شغف النضال والدفاع عن النفس، وكانوا يرون في المناطق الجبلية القريبة ملاذا للثورة، ويؤمّلون أن يصلوا بالمقاومة إلى إلغاء هذا القانون الهمجي أو تخفيفه
وكانت العصبة الأندلسية القديمة تتركز قوتها في حي البيّازين أسفل الحمراء في غرناطة، والتف الجميع حول أحد أعيانهم الأشاوس واسمه فرج بن فرج من أسرة بني السراج فرسان دولة بني الأحمر القدامى، واتفقوا على الوثوب على الحامية العسكرية الإسبانية في المدينة للفتك بها في أحد أعياد النصارى في أبريل/نيسان من عام 1568م وإعلان الاستقلال وبداية الثورة لتحرير الأراضي الأندلسية ورفع الضيم عن المورسكيين.
وبالرغم من أن خطتهم باءت بالفشل في ذلك التوقيت، فإن فرج بن فرج وبمعاونة مئتين من المورسكيين المسلحين فتكوا بمجموعة من القضاة والمحققين الإسبان خارج غرناطة في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، وأراد فرج أن يستغل الأحداث بصورة أكثر فعالية، فيفتك بحامية قصر وقلعة الحمراء الإسبانية، لكن كبار رجالات المورسكيين في غرناطة خشوا من العواقب، فاضطر فرج للخروج بقواته القليلة صوب قرى البشرات في جنوب المدينة، وهنا تسامع المورسكيون في أرجاء ومدن وقرى الأندلس كافة بما حدث، فتتابع الرجال والفرسان بأنفسهم وأموالهم وأسلحتهم مؤيدين الثورة، ومنضمين لها، وكانت الخطوة التالية تعيين أمير أو ملك ذي شأن على هذه الجموع التي تتوق إلى تحرير الأندلس
معارك البشرات
وقع اختيار الثوار وكبار المورسكيين على فتى من أهل البيازين ذي مال وجاه ومكانة يُدعى الدون فرناندو دي كُردوبا وفالور. وكان هذا الاسم النصراني القشتالي يحجبُ نسبة عربية إسلامية رفيعة. ذلك أن فرناندو دي فالور كان ينتمي في الواقع إلى بني أمية، وكان سليل الملوك والخلفاء الذين سطَعت في ظلّهم الدولة الإسلامية في الأندلس زهاء ثلاثة قرون. وكان الأمير الجديد يعرف خطرَ المهمة التي انتدب لها، وكان يضطرم حماسة وجرأة وإقداما. ففي الحال غادر غرناطة سرا إلى الجبال، ولجأ إلى شيعته آل فالور في قرية برذنار (Beznar)، فهرعت إليه الوفود والجموع من كل ناحية، واحتفل المورسكيون بتتويجه في التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول سنة 1568 في احتفال بسيط مؤثر
في ذلك الاحتفال فُرشت على الأرض أعلام إسلامية ذات أهلّة، فصلّى عليها الأمير متجها صوب مكة، وقبّل أحد أتباعه الأرض رمزا بالخضوع والطاعة، وأقسمَ الأميرُ أن يموت في سبيل دينه وأمته، وتسمّى باسم ملوكي عربي هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة، واختار عمه المسمى فرناندو الزغوير (الصغير)، واسمه المسلم ابن جوهر قائدا عاما لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر في اختياره للرياسة، وانتخب ابن فرج كبيرا للوزراء، ثم بعثه على رأس بعض قواته إلى هضاب البشرات، ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس؛ واتخذ مقامه في أعماق الجبال في مواقع منيعة، وبعث رسله في جميع الأنحاء، يدعون المورسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعودة إلى دينهم القديم
انضمت القرى الأندلسية واحدة تلو الأخرى، ورأى ابن أمية وقائده فرج بن فرج في أهلها وشبابها المثابرة والقوة والإيمان، بينما كان التعويل على مورسكيي حي البيازين والآلاف المؤلفة فيه شغلهم الأكبر، هؤلاء الذين ركنوا إلى مصالحهم وأمنهم الشخصي خوفا من المجازفة بأي أعمال تضر بمصالحهم، أو الانضمام إلى الثورة ضد الإسبان أصحاب القوة الأكبر والأعظم، والتي كانت في طور الإمبراطورية واستكشاف العالم والأميركتين وغزو شمال أفريقيا حينذاك.  
اتجهت ثورة المورسكيين إلى إستراتيجية حرب العصابات والكر والفر نظرا لقلة أعداد المقاتلين المورسكيين التي بلغت ستة آلاف مقاتل في بعض الروايات، وانتهجت في بدايتها الانتقام من القساوسة ودور العبادة وممتلكات النصارى، كنوع من الرد على مظالم محاكم التفتيش، وسالت الدماء، وأنصف المؤرخون الإسبان الأمير الثائر محمد بن أمية الذي رأوه أقل تعصبا من قائده العسكري فرج بن فرج، الذي أمر ابن أمية في نهاية المطاف بعزله عن منصب القيادة العسكرية للمورسكيين، فتقبّل فرج الأمر بصدر رحب، وعاد لصفوف الثوار جنديا في خدمة القضية الموريسكية
اشتدت شرارة الثورة، فأصبحت نارا مُحرقة امتدت إلى النواحي الشرقية والجنوبية من سلسلة جبال البشرات، فانتقلت إلى مناطق أدره وأندرش ودلاية ولوشار ومرشانة وشلويانية وغيرها من القرى التي قضى فيها المورسكيون على الحاميات الإسبانية العسكرية ووجودها بالكلية، وامتدت الثورة إلى أطراف مملكة غرناطة القديمة في قرى وادي المنصورة، وانتقلت إلى مدينة ألمرية ووادي آش وهما من أقوى وأهم المدن في مملكة غرناطة الإسلامية، وكان محمد بن أمية قائد هذه الجموع يتحصّن في الجبال الوعرة بين هذه المناطق.
ما موقف الإسبان من هذه الثورة، فقد اتخذوا إستراتيجية المواجهة دون هوادة، وقاد الجيش الإسباني اثنان من كبار الماركيزات وهما دي مونديخير ولوس فيليس، وقسموا أنفسهم بهدف تطويق الجيش الموريسكي بين الشرق والغرب، واستطاعت قوات إسبانية قادمة من غرناطة بقيادة دي خار إيقاع هزيمة للمورسكيين في مناطق جبال البشرات، وفلت ابن أمية بنفسه بأعجوبة وتشتت قواته، واستطاع الإسبان أسر أقارب وزوجة ابن أمية، وكاد النصارى أن يلقوا القبض على ابن أمية ووزيره الصوغير "الصغير"، لولا وجود إحن وبغضاء بين الماركيزين قائدي الجيش
واستغل ابن أمية هذه الضغائن وعدم الانسجام داخل الجيش الإسباني وسرعان ما أعاد لملمة صفوفه ومعاودة الهجوم على ألمرية، وتقابلوا في مواجهة شديدة مع الماركيز الآخر لوس فيليس، وسقط العشرات من الجانبين، ولم يرحم الإسبان الأسرى فقتلوهم بما فيهم الأطفال والنساء، وتعرض المورسكيون في حي البيازين في غرناطة إلى موجة اعتقال واسعة كانت نهايتها مأساوية إذ قُتلوا عن آخرهم، الأمر الذي دفع المورسكيين المتوارين والخائفين إلى الانطلاق ودعم ثوار البشرات، واستمرت أعمال الهجوم على الحاميات الإسبانية في السهول والجبال والقرى المنتشرة في جنوب وشرق غرناطة تؤتي نجاحها بقيادة محمد بن أمية ووزيره الصغير
اتسعت الثورة الأندلسية إلى الحد الذي أدرك معه الملك فيليب الثاني أن قادة الجيوش المحلية لم يعودوا قادرين على المواجهة، فأصدر قراره بتعيين أخيه دي خوان دي أستوريا في قيادة الجيش وزعيما لإقليم غرناطة لتوحيد الجهود، ومواجهة هذه الثورة بكل حسم.
النهاية!
لكن في تلك الأثناء وقعت الحادثة المأساوية التي عجّلت باندحار الثورة الموريسكية الكبرى، فقد وقع اختلاف وتناحر داخل المعسكر المورسيكي، وكانت النقمة على الأمير محمد الأموي على أشدها، فقد وصفته الروايات التاريخية القشتالية بالأمير الذي جمع بين المرحمة واللين على أتباعه، مع القوة والصرامة ضد المخالفين من عسكره، وتصف أن سبب مقتله كان جارية حسناء أخذها من وزيره عنوة فنقم عليه، ثم ساق عليه بعض ضباط جيشه فقتلوه غيلة، على أن هذه الرواية رغم تواترها قد لا تكون صحيحة في ظل المواجهة العسكرية الشرسة والمصيرية بين المورسكيين من جانب والإسبان من جانب.
قُتل محمد بن أمية في الربع الأخير من عام 1569م، وانتصاراته في ذروة مجدها، والآمال تنبعث في القلوب في استعادة غرناطة ذاتها، وارتقى قيادة الثورة مكانه أحد كبار الفرسان المورسكيين الملقّب بابن عبو "أبو" أو مولاي عبد الله كما لُقّب فيما بعد، ورغم بعض النجاحات التي أحرزها ابن عبّو، فإن خوان دي أستوريا قرر ضرب قلب القوة الموريسكية في منطقة جيليرا، ومنذ ديسمبر/كانون الأول 1569 إلى أبريل/نيسان من العام التالي 1570م عاد الإسبان للسيطرة على القرى والقلاع، وتحول المورسكيون إلى فرق عسكرية صغيرة بقيادة ابن عبو وفرج بن فرج والحبقي وغيرهم إلى الدفاع، لكنه كان دفاعا بلا جدوى أمام التقدم العسكري والمدفعي لقوات الجيش الإسباني، فقرر قسم بقيادة الحبقي الاستسلام مقابل الأمان كما وعدهم الإسبان، وقرر قسم آخر من قوات المورسكيين الهرب صوب شمال أفريقيا والتشتت في البلدان خوفا من غدر نصارى الإسبان الذي اعتادوا عليه، وذلك في مايو/أيار 1570م
رأى الملك فيليب الثاني وكبار رجال دولته وقساوسته أن بقاء المورسكيين وتجمعهم وكثافتهم في مناطق جنوب الأندلس يعد خطرا على الدوام، وبالرغم من أن غرناطة ذاتها لم تشترك في الثورة، فإن جميع القيادات كانت من الزعامات التي كانت منخرطة بصورة فعلية مع مصالح الإدارة والاقتصاد الإسباني، وكثير منهم كان من حي البيازين في غرناطة.
ولهذه الأسباب وبحلول 28 أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام 1570م، قرر فيليب الثاني تهجير المورسكيين كافة من مملكة غرناطة باتجاه مدن الشمال والغرب، وكان قرارا قاسيا شمل كل من حمل السلاح وكل من لم يحمله دون تفريق صوب مقاطعة قشتالة خاصة في أقصى الشمال الإسباني، وكان التهجير عملية تعذيب في حد ذاته، فقد انتشرت الأمراض بين المورسكيين، ومات الكثيرون منهم في الطريق، وبهذه الإجراءات تم القضاء على ثورة الموريسكي الأخير محمد بن أمية، ولم يمر أربعون عاما على هذه الأحداث، إلا وكان قرار الطرد النهائي موضع تنفيذ في عام 1609م، فخرج مئات الآلاف من المورسكيين بلا عودة صوب بلدان شمال أفريقيا والدولة العثمانية، لتنتهي القصة الموريسكية إلى الأبد!


https://www.facebook.com/MeemMagazine/videos/378784746602650/