نهاية الأندلس و تاريخ المورسكيين
نهاية الأندلس و تاريخ المورسكيين 11048
خلاصة ماسبق :
لما توفى محمد بن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة ، خلفه في الملك ولده أبو عبدالله محمد بن محمد بن يوسف الملقب بالفقيه لعلمه وتقواه .
وكان يتمتع بكثير من الخلال الحسنة، من قوة العزم ، وبعد الهمة وسعة الأفق ، والبراعة السياسية . وكان عالماً أديبا يقرض الشعر ، ويؤثر مجالس العلماء ، والأدباء .
وفي أول عهده نشط ملك قشتالة ألفونسو العاشر الملقب بالعالم أو الحكيم ؛ إلى محاربة المسلمين ، وكان مثل أبيه فرناندو الثالث ، يرى أن دولة الإسلام بالأندلس (غرناطة في ذلك الوقت) قد دنت نهايتها وكان يتربص بها لانتهاز الفرص .
وكان بنو مرين وهم الذين استولوا على ملك الموحدين بعد ذهاب دولتهم ، في عنفوان قوتهم حينها .
تولى أبو يوسف يعقوب المريني بن عبد الحق رياسة بني مرين سنة( 656 هـ) ، وفى العام التالي (658 هـ ) هاجم النصارى ( الإسبان ) في سفنهم ثغر سلا ، فبادر أبو يوسف يعقوب بإنجاده ، وحاصرهم حتى جلوا عنه .
ولم يفت ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة أهمية التحالف مع بني مرين والاستنصار بهم ، فلما تولى محمد الفقيه ملك غرناطة ، أرسل عقب ولايته وفداً إلى يعقوب ملك بني مرين يحمل رسالة استغاثة مؤثرة .
ثم تتابعت رسل ابن الأحمر (حاكم غرناطة) وبنى أشقيلولة (حكام مالقة ووادي آش) إلى السلطان أبي يوسف يعقوب ، ينوهون بالخطر الداهم الذي يهدد الأندلس ، ويستحثونه للإسراع بإغاثتهم لكنه كان منشغلا بنزاعه مع صاحب تلمسان يغمراسن .
و في سنة (673 هـ/ 1275م) استجاب السلطان أخيراً لدعوتهم ، وكتب إلى ابن الأحمر يطمئنه بقدومه ، وكان بنو مرين في عنفوان دولتهم يجيشون بنزعة الجهاد الفتية .
-------------------------------------------------------------------
🔸 ️خرج السلطان يعقوب من فاس في رمضان سنة 673 هـ برسم الجهاد في الأندلس، وأرسل للمرة الثانية إلى الأمير يغمراسن صاحب تلمسان ، يعرض الصلح توحيدا للكلمة وتعضيداً للجهاد . فقبل يغمراسن وتم الصلح .
وبادر السلطان فجهز ولده أبا زيان(*1) في خمسة آلاف مقاتل ، فعبر البحر من قصر المجاز ( قصر مصمودة ) إلى الأندلس ، ونزل بثغر طريف في شهر ذي الحجة سنة 673 هـ/ 1275م) ، ونفذ إلى أرض النصارى حتى شريش ، وعاث فيها وعاد مثقلا بالسبي والغنائم .
وقدم إليه ابن هشام وزير ابن الأحمر ثغر الجزيرة فنزل فيه ، وجاز ابن هشام إلى العدوة فلقي السلطان أبا يوسف في معسكره على مقربة من طنجة .
وكان السلطان قد استكمل أهبته ، فعبر من قصر المجاز إلى الأندلس في صفر سنة (674 هـ / يوليه 1275م) ، في جيش كثيف من البربر ، داعيا إلى الجهاد على سنة أسلافه المرابطين والموحدين ..
وكان أبو يوسف قد اشترط على ابن الأحمر حينما استنجد به ، أن ينزل له عن بعض الثغور والقواعد الساحلية ، لتنزل بها جنوده في الذهاب والإياب ، فنزل له عن رندة وطريف والجزيرة الخضراء ، ونزل أبو يوسف بجيشه في طريف ، وهرع ابن الأحمر وبنو أشقيلولة إلى لقائه ، واهتزت الأندلس
كلها لعبور ملك المغرب .
ولكن ابن الأحمر ما لبث أن غادره مغضبا لما رأى من تدخله في شئون الأندلس بصورة مريبة .
ذلك أن بني أشقيلولة أصهار بني الأحمر ، وفي مقدمتهم محمد بن أشقيلولة زعيم الأسرة وزوج أخت محمد بن الأحمر ، وأخوه أبو الحسن زوج ابنته ، كانوا يجيشون نحو عرش غرناطة بأطماع خفية .
وكان أبو محمد ممتنعاً بمالقة مغاضبا لملك غرناطة ؛ فلما عبر أبو يوسف إلى الأندلس ، سار إليه وانضوى تحت لوائه ، ولم يفلح أبو يوسف في التوفيق بين ابن الأحمر وبين أصهاره ، وخشي ابن الأحمر عاقبة هذا التحالف بين أصهاره وبين أبي يوسف ، فارتد إلى غرناطة حذرا متوجسا .
ونفذ السلطان أبو يوسف بجيشه إلى بسائط الفرنتيره (*2) وكانت في يد النصارى وعاث فيها . ثم توغل غازيا ينتسف الضياع و المروج و يسبى السكان ، حتى وصل إلى حصن المقورة وأبدة على مقربة من شرقي قرطبة .
وعندئذ عول القشتاليون على لقائه دفاعا عن أراضيهم . وخرج القشتاليون في جيش ضخم ، تقدره الرواية الإسلامية بنجو تسعين ألف مقاتل(*3)، وعلى رأسهم قائدهم الأشهر صهر ملك قشتالة الدون نونيو ديلارا، الذي تسميه الرواية الإسلامية : " دونونه أو دننه أو ذنونه " .
وكان أبو يوسف قد ارتد عندئذ بجيشه إلى ظاهر إستجة، ومعه حشد عظيم من الغنائم والأسرى ، فأغلقت المدينة أبوابها ، واستعدت للقتال ، ووضع أبو يوسف الغنائم
في ناحية تحت إمرة حرس خاص حتى لا تعيق حركاته ، وعقد لولده أبي يعقوب على مقدمته ، وخطب جنده وحثهم على الجهاد والموت في سبيل الله .
ثم تقدم لملاقاة النصاري ، ومعه بعض قوات الأندلس برئاسة بني أشقيلولة . ووقع اللقاء بين المسلمين والنصارى على مقربة من إستجة جنوب غربي قرطبة ، في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة (674 هـ/ 9 سبتمبر 1275 م) ، فنشبت بين الفريقين معركة سريعة هائلة ، هزم النصارى على أثرها هزيمة شديدة ، وقتل قائدهم الدون نونيو دي لارا وعدة كبيرة منهم (*4).
وكان نصراً عظيما أعاد إلى الأذهان ، ذكريات موقعة الزلاقة وموقعة الأرك ، وكان أول نصر باهر يحرزه المسلمون على النصاري ، منذ موقعة العقاب ، ومنذ انهيار الدولة الإسلامية
بالأندلس ، وسقوط قواعدها العظيمة .
وتبالغ الرواية الإسلامية في تقدير خسائر النصارى ، فتقول إنه قتل منهم في الموقعة ثمانية عشر ألفاً ، جمعت رؤوسهم
وأذن عليها المؤذن لصلاة العصر ، هذا في حين أنه وفقاً لقولها أيضاً ، لم يقتل من المسلمين سوى أربعة وعشرين رجلا(*5) .
وبعث السلطان أبو يوسف برأس دون نونيو إلى ابن الأحمر ، فقيل إنه بعثها بدوره إلى ملك قشتالة مضمخة بالطيب ، مصانعة له وتوددا إليه . 🤔
وكتب أبو يوسف إلى العدوة رسالة يشرح فيها حوادث الموقعة ، وما انتهت إليه من نصر باهر ، فقرئت على المنابر ، وكتب رسالة مماثلة إلى ابن الأحمر ، فرد عليه بالشكر والدعاء .
ورفع ابن أشقيلولة إلى أمير المسلمين أبي يوسف ، قصيدة يهنئه فيها بالنصر جاء فيها :
هبت بنصركم الرياح الأربع وسرت بسعدكم النجوم الطلع
وأتت لنصركم الملائك سبقا حتى لضاق بها الفضاء الأوسع
واستبشر الفلك الأثير تيقنـا أن الأمور إلى مرادك ترجع
وأمدك الرحمن بالفتح الذي ملأ البسيطة نوره المتشعشع
ولبثت أبو يوسف بالجزيرة الخضراء بضعة أسابيع ، قسمت فيها الغنائم واستراحت الجند . ثم خرج للمرة الثانية في جمادى الأولى سنة 674 هـ ، وتوغل غازيا في أراضي
قشتالة حتى وصل إلى أحواز إشبيلية ؛ فأغلقت المدينة أبوابها .
وعاث أبو يوسف في تلك الأنحاء، ثم سار إلى شريش فضرب حولها الحصار ، فخرج إليه زعماء المدينة ورهبانها وطلبوا إليه الأمان والصلح ، فأجابهم إلى طلبهم وعاد إلى قواعده مرة أخرى بالجزيرة الخضراء ، مثقلا بالغنائم والسبى .
وقضى بضعة أسابيع أخرى بالجزيرة الخضراء ، ثم عبر البحر إلى المغرب في أواخر شهر رجب 674 هـ ، بعد أن قضى بالأندلس زهاء خمسة أشهر .
على ان هذا النصر الباهر ، الذي أحرزه السلطان أبو يوسف المريني على النصارى ، لم يحدث أثره المنشود في بلاط الأندلس .
ذلك أن محمد بن الأحمر جنح إلى الإرتياب في نيات ملك المغرب ، وخصوصاً مذ أسبغ السلطان حمايته على بنى أشقيلولة ، وغيرهم من الخوارج على ملك غرناطة ، ومثلت بذهنه مأساة.الطوائف وغدر المرابطين بهم (*6) .
وبعث ابن الأحمر إلى السلطان قبيل مغادرته الجزيرة ، يعاتبه على تصرفه في حقه بقصائد مؤثرة يستعطفه فيها ويستنصره ، والسلطان بجيبه عنها بقصائد مثلها .
ومن ذلك قصيدة من نظم أبي عمران بن المرابط كاتب ابن الأحمر :
أفلا تذوب قلوبكم إخواننـا
مما دهانا من ردى أو من ردى
أفلا تراعون الأذمة بيننـا
من حرمة و محبة و تودد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم
و سيوفكم للثـار لم تتقلد (*7)
وفى أوائل سنة (676 هـ )توفى أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة ، فعبر ولده محمد إلى المغرب ونزل عنها للسلطان ، فبعث إليها السلطان حاكما من قبله ، فزاد
ذلك في توجس ابن الأحمر ، وأرسل وزيره أبا سلطان عزيز الداني في بعض قواته إلى مالقة، ليحاول الاستيلاء عليها، فلم يوفق .
ولم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى عبر السلطان أبو يوسف المنصور البحر إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة (677 هـ/
1278م) ، ونزل بمالقة فاحتفل به أهلها ، ثم توغل بجيشه في أرض النصارى يعيث فيها، ومعه بنو أشقيلولة في جندهم، حتى أحواز إشبيلية ،واجتنب القشتاليون لقاءه .
ثم دعا ابن الأحمر إلى لقائه ، فوافاه عند قرطبة والريب يملأ نفسه ، وتبادل الملكان عبارات العتاب والتعاطف ، ولكن ابن الأحمر لم تطمئن نفسه ، وعاد السلطان إلى المغرب دون أن تصفو القلوب .
وزاد توجس ابن الأحمر لحوادث مالقة وانحيازها إلى السلطان ، وجال بخاطره أن التفاهم مع ملك قشتالة خير وأبقى . 🤔
وفي أواخر سنة 677 هـ استطاع ابن الأحمر أن يستولى أخيراً على مالقة ، وذلك بإغراء صاحبها بالنزول عنها ، والاستعاضة بالمنكب وشلوبانية(*8).
ثم سعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة والتحالف معه، على منع السلطان المنصور من العبور إلى الأندلس .
ونزلت القوات القشتالية بالفعل في الجزيرة . وكاتب ابن الأحمر أيضاً الأمير يغمراسن ملك المغرب الأوسط ، خصم
السلطان المنصور، يسأله العون والتحالف. وعلم المنصور بذلك فأراد العبور توا إلى الأندلس ، ولكن عاقته حوادث المغرب حينا .
وفى أوائل سنة 678 هـ/1279م ) بعث ولده الأمير أبا يعقوب إلى الأندلس في أسطول ضخم ، ونشبت بينه وبين أسطول النصاري المرابط شرقى المضيق معركة هائلة ، هزم النصارى على أثرها واستولى المسلمون على سفنهم ، ونزلوا بالجزيرة ، فغادرها النصارى في الحال .
وأراد الأمير أبو يعقوب أن يتبع نصره ، بعقد الصلح مع ملك قشتالة والتحالف معه على قتال ابن الأحمر ومهاجمة غرناطة ، فأنكر عليه أبوه السلطان المنصور ذلك
ثم زحف جند المغرب على ثغر مربلة ، وهو من أملاك ابن الأحمر يريد الإستيلاء عليه ، فامتنع عليهم . وانتهز القشتاليون تلك الفرصة ، فزحفوا على غرناطة ، ومعهم بنو أشقيلولة ، فلقيهم ابن الأحمر وردهم على أعقابهم( 679هـ ) .
بيد أنه بالرغم من هذا النصر المؤقت أخذ يشعر بدقة موقفه ، وخطورة القوى التي يواجهها ، سواء من جانب القشتاليين ، أو من جانب الجيوش المغربية ، التي استدعيت في الأصل لتكون له سنداً وغوثاً ، فانقلبت إلى مناوأته وقتاله .
ومن جهة أخرى فقد كان السلطان المنصور يخشى عاقبة هذا التصرف على مصير المسلمين ؛ وعلى ذلك فقد بعث إلى ابن الأحمر في وجوب عقد المودة والتفاهم ، فلقى لديه مثل
رغبته ، وبادر السلطان إلى عقد أواصر الصلح والتحالف بين المسلمين ، على أن ينزل ابن الأحمر عن مالقة للسلطان المنصور ، لتكون له قاعدة للعبور والغزو .
وصفا جو العلائق على أثر ذلك بين ابن الأحمر وبني مرين ، وشغل السلطان المنصور حينا بمحاربة الخوارج عليه .
ذذولم يمض قليل على ذلك، حتى عادت شئون الأندلس تستغرق اهتمام المنصور ؛ وكانت شئون الأندلس قد غدت في الواقع عنصراً بارزا في سياسة بني مرين .
وكانت مملكة غرناطة حتى في ذلك الوقت الذي انكمشت فيه الدولة الإسلامية في الأندلس ، تلعب دورها في شئون أسبانيا النصرانية كلما اضطربت فيها الحوادث .
ولما سطع نجم الدولة المرينية فيما وراء البحر ، اتجه إليها اهتمام النصارى ، وكانت كلما وقعت في قشتالة حرب أهلية ، لجأ هذا الفريق أوذاك إلى مؤازرة غرناطة أو بني مرين ، على غرار ما كان يحدث في الماضي .
ومن ذلك ماحدث في سنة (669هـ / 1279 م) من خروج الإنفانت فيليب مع جماعة من النبلاء على أخيه ألفونسو العاشر والتجائهم إلى السلطان المنصور في طلب العون واستجابته ، لدعوتهم، واتخاذهم غرناطة قاعدة لجهودهم.
وكادت تنشب من جراء ذلك حرب بين المسلمين والنصارى ، لولا تدخل فيولا ملكة قشتالة ، واسترضائها للخارجين
بمختلف المنح .
ولابد لنا أن نذكر هنا أن الفونسو العاشر ملك قشتالة هذا ، هو
ألفونسو العالم أو الحكيم El Sabio ، وكانت له صلات وثيقة بعلماء الأندلس ، ومنهم تلقى الكثير وتأثر بمناهجهم في التفكير والدرس .
وقد وضع ألفونسو جداوله الفلكية الشهيرة المسماة بالجداول « الألفونسية » ، على يد جماعة من العلماء المسلمين واليهود والنصارى ، كما وضع تاريخاً عنوانه Cronica General de Espada «تاریخ اسبانيا العام » وقد اعتمد فيه على مصادر عربية كثيرة.
ومع أنه لا يخلو من كثير من الأساطير والروايات المغرقة ، فإنه يعتبر من أهم مصادر التاريخ الإسباني في العصور الوسطى !
وكان ألفونسو العاشر يحب جيرانه المسلمين ، ويقدر علمهم ورفيع ثقافتهم، وكان هذا من أسباب السخط عليه في مملكته ، وكان من جراء اشتغاله بالعلوم والآداب ،في عصر لا تنهض الممالك فيه إلا بالحرب والسياسة ، أن اضطربت شئون المملكة .
وفى سنة (1282 م/ أوائل 681 هـ) ثار عليه ولده سانشو وآزره معظم النبلاء ، واستطاع أن ينتزع العرش لنفسه . فاتجه أبوه الملك المخلوع إلى السلطان أبي يوسف المنصور ، وأرسل إليه بالمغرب وفدا من الأحبار يستمد منه الغوث والعون ضد ولده .
فاستجاب السلطان لصريخه ، وعبر البحر في قواته إلى الأندلس في ربيع الثاني سنة 681 هـ ، وهرع ألفونسو إلى لقائه بمحلته بالجزيرة على مقربة من رندة ، مستجيراً به ، ملتمساً لنصرته ، وقدم إليه تاجه رهنا لمعونته . فأمده السلطان بمائة ألف من الذهب ، ليستعين بها على حشد الجند .
قال ابن خلدون ، وقد رأى هذا التاج ببلاط بني مرين أيام أن كان في خدمتهم : « وبقى بيدهم فخراً للأعقاب لهذا العهد » (*9).
وغزا أبو يوسف أراضي قشتالة وحاصر قرطبة ، ثم زحف على طليطلة ، وعاث في نواحيها ، ووصل في زحفه إلى حصن مجريط (*10) .
وتحاشي ابن الأحمر في البداية لقاء السلطان لفتور العلائق بينهما ، ولتوجسه من مخالفته لألفونسو ورأى من جانبه أن يتفاهم مع سانشو ملك قشتالة الجديد ، وزحف على المنكب
وهي من الثغور التي تحتلها قوات المغرب ، فغضب السلطان وارتد لقتاله .
وكادت تنشب بين الملكين المسلمين فتنة مستطيرة ، لولا أن خشى ابن الأحمر العاقبة ، وعاد إلى التفاهم مع المنصور ، وصفا الحو بينهما نوعا . وعاث المنصور في أراضي قشتالة مرة أخرى ، وغص جيشه بالسبي والغنائم ، ثم عاد إلى المغرب بعد أن ولى على الجزيرة حاكما من قبله .
واستمرت الحرب الأهلية أثناء ذلك في قشتالة بين الإبن والأب ، ولبث هذا النضال الدموى زهاء عامين ، حتى توفى ألفونسو العاشر طريداً مهزوما في سنة 1284 م / 683 هـ ) ، فكان لوفاته وقع عميق في غرناطة والمغرب ، وأرسل كل
الملكين المسلمين عزاءه في الملك العالم المنكوب إلى بلاط قشتالة .
وكان موقف المملكتين الإسلاميتين غريباً إزاء حوادث قشتالة ، إذ كان ملك المغرب يؤازر الملك المخلوع ، وكان ملك غرناطة بالرغم من عطفه على ألفونسو العاشر ، يؤازر ولده الخارج عليه .
والحقيقة أن ابن الأحمر كان يشهد تقاطر الجيوش البربرية إلى الجزيرة الخضراء بعين الجزع ، ويتوجس شراً من وجودهم بها ، وقد كانوا يحتلون معاقلها وثغورها ، ويظاهرون الخارجين عليه في مالقة والمنكب وغيرهما من القواعد الجنوبية .
وكان يتوقع أسوأ العواقب من تدخل ملك المغرب في شئون
الأندلس على هذا النحو ، وكان مثل المرابطين ومأساة الطوائف عبرة خالدة ، تساوره دائماً ، وتذكى جزعه .
على أن موت ألفونسو العاشر ، وانتهاء الحرب الأهلية في قشتالة ، خفف من هذا التوتر بين المملكتين . وكان ابن الأحمر يذكر في الوقت نفسه ، غدر ملك قشتالة ، وخطر النصاري على مملكته ، فيجنح بعد التأمل إلى إيثار التفاهم مع ملك المسلمين ..
وفى صفر سنة (684 هـ / 1285 م) عبر السلطان المنصور إلى الأندلس للمرة الرابعة ، وزحف على أراضي النصارى ، وغزا مدينة شريش ؛ وسار ولده أبو يعقوب إلى أحواز إشبيلية فعاث فيها . ثم زحف المنصور على قرمونة والوادي
الكبير ، وخرب جنده بسائط إشبيلية ولبلة وإستجة والفرنتيره .
وسر ابن الأحمر لاجتياح أراضي قشتالة على هذا النحو ، وبعث الى السلطان مددا من غرناطة ، وجاءت الأساطيل المغربية ، فطاردت أساطيل العدو في مياه المضيق واحتلته . .
ورأى سانشو ملك قشتالة تفاقم الأمر وعقم المقاومة ، فجنح إلى طلب السلم وبعث إلى السلطان وفداً من الأحبار يطلب الصلح ، ويفوض السلطان في اشتراط ما يراه ...
فاستجاب السلطان لرغبتهم ، واشترط عليهم مسالمة المسلمين كافة ، يمتنع النصارى عن كل اعتداء على الأندلس ، وعلى أراضى المسلمين ومرافقهم وأن ترفع الضريبة عن التجار المسلمين بدار الحرب ( بلاد الأعداء ) ، وأن تنبذ قشتالة سياسة الدس بين الأمراء المسلمين ، فقبل النصارى جميع الشروط المطلوبة ، وتعهدوا بتنفيذها .
وقدم سانشو بنفسه إلى معسكر السلطان ، فاستقبله المنصور بحفاوة ، وقدم إليه طائفة من الهدايا، وتعهد سانشو بتحقيق شروط الصلح كاملة .
وسأله السلطان أن يرسل إليه قدراً من الكتب العربية ، التي استولى عليها النصارى من القواعد الأندلسية ، فأرسل إليه « ثلاثة عشر حملا » منها ، وأرسلها السلطان إلى فاس ، فكانت نواة المكتبة السلطانية .
واتخذ المنصور أهباته الأخيرة نحو شئون الأندلس ، وندب ابنه الأمير أبا زيان للنظر على الثغور الأندلسية ، وأوصاه
بألا يتدخل في شئون ابن الأحمر .
وكان من آثار التفاهم بين ابن الأحمر والمنصور ، أن أفسح ابن الأحمر لقرابة السلطان من بني مرين النازحين إلى الأندلس مجال السلطان والنفوذ في بلاطه .
وكان عدة من هؤلاء من خاصة الفرسان ومشاهير الغزاة ، فأسند ابن الأحمر إليهم رئاسة الجند في منصب عرف في الخطط الغرناطية « بمشيخة الغزاة » ، ويحتله بالأخص رئيس من بني العلاء المرينيين يسمى « شیخ الغزاة » ،
وتولى بنو العلاء قيادة الجيوش الأندلسية عصراً ، وكانت لهم في ميدان الحرب والجهاد مواقف مشكورة . (*11) .
ولابد لنا أن نذكر كلمة عن أصل مشيخة الغزاة هذه ، التي لبثت عصراً سراً أهم المناصب العسكرية في مملكة غرناطة ، ولبثت في الوقت نفسه دهراً وقفاً على القادة من بني مرين .
وذلك أنه لما اتجه بنو الأحمر إلى الاستنجاد بإخوانهم فيما وراء البحر ، ملوك بني مرين ، استجاب لندائهم عاهل بني مرين السلطان أبو يوسف بن عبد الحق ، وعبرت إلى الأندلس
النجدات المرينية الأولى بقيادة أبى معرف محمد بن إدريس بن عبد الحق وأخيه عامر ، وهما من خاصة قرابة السلطان ، وانتزعت مدينة شريش من النصارى ، وذلك حسبما تقدم ذكره .
وكان السلطان أبو يوسف يخشى من انتقاض فريق من
القرابة وأبناء العمومة ، تجديداً للخصومة القديمة بين فرعي بني مرين الملكيين ، وهما بنو عسكر وبنو حمامة ، فلم يجد خيراً من إرسال من يخشى بأسهم من هؤلاء إلى الأندلس باسم الجهاد .
وكان ابن الأحمر يستقبلهم بترحاب ومودة ،فاجتمع لديه عدة من أولاد بني عبد الحق ؛ وكان ابن الأحمر يعقد لهم على قيادة الغزاة المجاهدين . من زناتة ، وبني مرين . وكان أول من عقد له القيادة منهم ، موسى ابن رحتو ، ثم عقد لأخيه عبد الحق ، ثم لغيرهما من القرابة . (*12)
وكان أول من استعملهم لقيادة الغزاة على هذا النحو السلطان محمد بن الأحمر الملقب بالفقيه ثم توالى عبور هؤلاء القادة إلى الأندلس .
وكان معظمهم من قرابة السلطان والخارجين عليه . وكان في مقدمة من نزح إلى شبه الجزيرة ، أبو العلاء ورحتو ابنا عبد الحق، وأولاد أبي يحيى بن عبدالحق وأولاد عثمان بن عبد الحق . واستقروا ، جميعاً بالأندلس في كنف سلطان غرناطة ، وكانوا يرجعون في رياستهم إلى كبيرهم عبد الله بن أبي العلاء .
وعقد له ابن الأحمر محمد الفقيه على جند زناتة إلى أن
هلك في إحدى الغزوات ضد النصارى وذلك في سنة 693 هـ ؛ ثم عقد ابن الأحمر السلطان أبو عبد الله المخلوع ، القيادة لأخيه عثمان بن أبي العلاء على حامية مالقة وغربيها ، وكانت لنظر الرئيس أبى سعيد فرج بن إسماعيل . فلبث في منصبه
إلى أن وقع الخلاف . بين سلطان غير ناطة وسلطان المغرب أبي يوسف المربنى ، وقام عثمان بن أبي العلاء في ذلك بدور كبير . (*13) .
وقفل السلطان المنصور راجعاً إلى الجزيرة ليستجم ثم يعود إلى المغرب، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى أدركه المرض ، وتوفى بالجزيرة في المحرم سنة 685 هـ / مارس سنة 1285م) ، بعد حياة حافلة بصنوف الجهاد المستمر ، سواء
بالمغرب أو الأندلس .
وكان السلطان أبو يوسف المنصور من أعظم ملوك المغرب قاطبة ، وكان يعيد بشغفه بالجهاد ، ووفرة جيوشه وأهبته الحربية ، ذكرى أسلافه العظام أمثال يوسف بن تاشفين ، وعبد المؤمن ، ويعقوب المنصور . وقد وصفه مؤرخ معاصر بما يلى :
« أبيض اللون ، تام القد ، معتدل الجسم ، حسن الوجه ،
واسع المنكبين ، كامل اللحية ، معتدلها ، أشيب ، كأن لحيته من بياضها قطعة ثلج ، سمح الوجه ، كريم اللقاء ، شديد الصفح ، كثير العفو ، حليا ، متواضعا شفيعاً كريماً ، سمحاً ، سمحاً ، جواداً ، مظفراً ، منصور الراية » .(*14)
فخلفه على عرش المغرب ولده الأمير أبو يعقوب ، وكان مثل أبيه معنياً بشئون الأندلس خبيراً بها . واستمرت علائق بلاط غرناطة وبني مرين أعواماً أخرى على حالها من المودة والصفاء ، وزادت توطداً حينها قبل سلطان المغرب ، أن ينزل لابن الأحمر طوعاً عن وادى آش . #جواهر_الأدب_والتاريخ
-------------------------------------------------------------------
(*1) الذخيرة السنية ص ١٦٤ ، ولكن ابن خلدون يقول إن السلطان بعث الجند مع ولده منديل ( ج ۷ ص ۱۱۹ ) و منديل حفيد السلطان أبي يوسف .
(*2) الفرقتيره La Frontera هي السهل الواقع في غربي مثلث إسبانيا الجنوبي ( الجزير : - ويمتد من قادش جنوبا حتى طرف الغار .
(*3) الذخيرة السنية ص ۱۶۹ و ۱۷۰
(*4) ابن خلدون ج ۷ ص ۱۹۱ ؛ واللمحة البدرية ص 44 ؛ و الإساءة ج 1 ص ٥٧٣ ؛ و الذخيرة السنية ص ۱۷۰ - ۱۷۲ -
(*5) الذخيرة السنية ص ۱۷۳
(*6) ابن خلدون ج ۷ ص ۱۹۸ و ٣٦٧
(*7) نقل إلينا ابن خلدون هذه القصيدة بأكملها ( ج ۷ ص ۱۹۸ – ۲۰۰ ) وفيها كثير من المعاني التي وردت في مرثية أبي البقاء الرندي ، كما أشار إلى ردود السلطان أبي يوسف إشارة عابرة ( ص ۲۰۰ ).
(*8) المنكب ، وبالإسبانية Almunecar ، وشلوبانية و بالإسبانية Salobrena، ثغران صغير ان من ثغور مملكة غرناطة القديمة ، يقع كلاهما جنوبي غرناطة على البحر الأبيض المتوسط وتفصلهما عن بعضهما مسافة صغيرة .
(*9) ابن خلدون ج ۷ ص ٢٠٥ ؛ والإحاطة ج 1 ص ٥٧٢ ؛ و اللمحة البدرية ص43 ؛ و أزهار الرياض ج 1 ص 61 .
(*10) كانت محلة مجريط الإسلامية الحصينة تشغل موقعاً يقع بجوار موقع العاصمة الإسبانية - الحديثة مدريد .
(*11) ابن خلدون ج ۷ ص ۲۰۹ و ۲۱۰ ؛ و نفح الطيب ج ٢ ص ٦٣٩ .
(*12) ابن خلدون في كتاب العبر ج 7 ص ٣٦٧ و ٣٦٨ .
(*13) کتاب العبر ج ۷ ص ۳۷۰ – ۰۳۷۲
(*14) نقلنا هذا الوصف من المخطوط المعنون : « الياقوتة الحلية »
المملكة الموريسكية في أوربا Scott V II.
محمد عبد الله عنان، نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين ص 94 - 108
--------------------------------------------------------------------
نهاية_الأندلس_