لغز شفرات الموت
يعد الموت أعظم لغز لم يستطع الإنسان لحد الآن أن يفك شفراته رغم التقدم العلمي والفلسفي الهائل الذي حققه منذ وجوده على هذه الأرض، فقد باءت كل محاولاته( الدينية والفلسفية والعلمية) الإيجاد حل له بالفشل.لقد أولى الإنسان لهذا اللغز اهتماما كبيرا منذ ظهوره على الأرض وذلك بسبب القلق الوجودي الذي يجتاحه ويقض مضجعه، هذا القلق نابع من خوفه من مآله بعد موته، ومصدر الخوف الذي يشعر به حيال الموت هو جهله لمصيره ما بعد الموت، (فالإنسان لا يعرف أي شيء عن عالم ما بعد الموت)، ومن طبيعة الإنسان أنه يخشى الأشياء التي يجهلها، كما أن خوفه من الموت لا يرجع فقط إلى أنه لا يتوفر على أي معلومات يقينيه عنه، بل يعود أيضا إلى رغبته القوية في البقاء على قيد الحياة، فالكائن البشري بطبيعته يتشبث بالحياة ويكره الموت.
لقد حاولت الأديان والأساطير والفلسفات فك شيفرات لغز الموت، أي الإجابة عن سؤال، ماذا سيحصل للإنسان بعد وفاته؟ واتفقت كل الأديان على فكرة محورية مفادها أن الحياة الحالية مجرد جسر للعبور للحياة الأخروية التي هي حياة أبدية، وأن العدالة ستتحقق على يد الإله في الحياة الأخرى، وما الحياة الدنيا إلا اختبار للإنسان، وكل ما يشتهيه الإنسان ويرغب بالحصول عليه سيتمكن من الحصول عليه في حياة ما بعد الموت، شريطة أن يطيع أوامر إلهه، لكن الأديان متعددة ولا يوجد دين واحد، وكل دين يدعي انه الدين الحق( حوالي أربعة آلاف دين)، وكذلك لكل دين إلهه، فأي إله ينبغي أن يؤمن به الإنسان ليرضيه لينعم بجنته وينجو من عقابه؟ إن هذا الموقف الذي سردناه هو الذي جعل العديد من الباحثين يعتبرون أن أساس الأديان هو فكرة الموت، ولو كان الإنسان خالدا في هذه الحياة لما كلف نفسه عناء اختراع هذا العدد الهائل من الأديان فقط من أجل أن يجد جوابا شافيا لهذا اللغز.
إن فكرة الموت تقدم العزاء للإنسان الذي لا حول له ولا قوة في حياة ليست عادلة وتحتوي على قدر هائل من الشرور المجانية التي لا طائل من ورائها، وفي حياة قاسية كهذه وجد الإنسان نفسه مضطرا أن يوهم نفسه بوجود حياة أخرى من بعد الموت، وذلك من أجل أن يضفي على معاناته معنى وغاية، لأنه لا يمكنه أن يتحمل أي ألم وأي معاناة إلا إذا كان يعتقد أن لها معنى، وتسعى التفسيرات الدينية الإضفاء معنى على معاناة الإنسان بما يسمى بالقدر الإلهي، فكل ابتلاء يصيبه، الغرض منه هو اختبار قوة إيمانه، والأجوبة التي تقدمها الأديان للغز الموت، لا تضفي فقط معنى على معاناة الإنسان بل تضفي معنى على حياة الإنسان برمتها.
إن إضفاء الأديان معنى على حياة الإنسان مكنها من النجاح نسبيا في انقاذه من أزمة القلق الوجودي أو الأسئلة الوجودية التي تجتاحه في كل محطة من محطات حياته، غير أن القلق الوجودي لا يجتاح فقط الإنسان الملحد بل يصيب حتى المؤمن أحيانا، وذلك راجع إلى أن الإنسان بطبيعته يتوقع دائما أنه من الممكن أن يفترسه شبح الموت في أية لحظة، الشيء الذي يجعله يترقب هذه اللحظة، وبعض الناس قرروا اخماد هذا القلق بالإيمان الديني الذي يبعث الطمأنينة والراحة النفسية في قلوبهم، أما البعض الآخر ففضلوا وضع حد لحياتهم بدل أن يتحملوا هذا القلق الوجودي الذي لا يفارقهم في هذه الحياة الخالية من المعنى والمليئة بالألم المجاني.
يعتبر المؤمنون أن الموت هو بداية حياة أخرى أبدية، والبعض الآخر يعتبره شيئا طبيعيا يمكن أن نتعايش معه بدون خوف لأنه لا توجد حياة بعد الموت، ومن بين أبرز الفلاسفة الذين دافعوا عن هذا الطرح الأخير الفيلسوف اليوناني رائد الفلسفة المادية أبيقور، الذي حاول أن يبين أنه لا يوجد سبب يدفعنا إلى أن نخشى من الموت، وخوفنا من الموت قائم على تخيل خاطئ مفاده أننا سنكون موجودين بعد وفاتنا، لكننا في الواقع ما دمنا أحياء فالموت غائب، أي غير موجود، أما حينما نموت فإننا نكون غير موجودين، فلماذا نخشى من شيء حين نكون موجودين لا يكون موجود وبالتالي لا يمكن أن يؤذينا؟ كما يقول أبيقور في هذا الصدد أننا لا نقلق بسبب أننا لم نكن موجودين قبل ميلادنا، فلماذا نقلق بسبب أننا لن نكون موجودين بعد وفاتنا. إن حجة أبيقور قائم على مسلمة مفادها أنه لا وجود لحياة بعد الموت، لكن في الواقع لا يوجد دليل يقيني يثبت أنه ليس هناك حياة بعد الموت، لذلك فحجته باطلة، لأنها قائمة على فكرة خاطئة.
والموت حسب العلم يحدث عندما تتوقف الوظائف الحيوية وأعضاء الجسد عن العمل مثل القلب والدماغ، ولا يؤمن العلم بوجود شيء غير مادي في الإنسان مثل الروح أو النفس، لأن المنهج الذي يعتمد عليه تجريبي، لذلك فهو غير معني بفك شفرات لغز الموت، مادام هذا الأخير ليس شيئا ماديا، رغم أنه يحدث (الموت) لأسباب مادية، مثل السكتة الدماغية نتيجة حادثة سير.
ويرى بعض رواد مذهب الفلسفة العدمية وعلى رأسهم اميل سيوران أن الموت هو الخلاص، لأنه الشيء الوحيد الذي يمكن أن يخلص الإنسان من المعاناة والشقاء، وما حياة الإنسان إلا عذاب ومعاناة مستمرة لا يمكن أن تتوقف إلا بموته، أما لغز الموت فلا يهتمون بفك شفراته، بل ما يهم بالنسبة إليهم هو الحياة.
إذا كانت كل التأملات الفلسفية والتأويلات الدينية والعلمية لم تستطع أن تجيب إجابة يقينية عن سؤال، هل هنالك حياة بعد الموت؟ فما الجدوى من التفكير في قضية لغز الموت؟ يرجع السبب بالأساس إلى الأهمية البالغة التي يكتسيها هذا السؤال، فالأمور التي تقوم عليها حياتنا كلها وسائر أفعالنا وتمثلاتنا تعود بالأساس إلى قضية لغز الموت، وكما قال الفيلسوف باسكال، إن أسلوب عيشنا ومنهج تفكيرنا يتوقفان على اعتقادنا بوجود حياة بعد الموت، أو عدم وجودها، فحياة الإنسان الذي يؤمن بوجود عالم آخر تختلف كثيرا عن حياة إنسان يعتبر أن الموت هو النهاية، صحيح أن الأديان والفلسفات تقدم إجابات مختلفة عن الحياة بعد الموت، لكنها تتفق على فكرة وجود حياة بعد الموت، وهذا ما يضفي على أفعال معتنقي هذه الأديان والفلسفات معنى، بل ويضفي معنى على حياتهم وينقذهم من السقوط في فخ العدمية والعبثية.
ولا يمكن للإنسان أن يهدأ باله، ويطمئن قلبه، ويشعر بالسعادة دون أن يتصالح مع فكرة الموت، أي أن يتصالح مع فكرة أن الموت شيء طبيعي، وأنه مصيرنا الحتمي الذي لا مفر منه، وأقصى ما نستطيع أن نفعله لنتقبل فكرة الموت هو أن نعيش كل لحظة من من لحظات حياتنا وكأنها آخر لحظة دون أن نفكر في المستقبل، وأن نسعى دائما لأن نكون أناسا صالحين، أما التفكير في ماذا سيحدث بعد الموت فهو مجرد مضيعة للوقت والجهد، لأن ذلك لا يهمنا كما أنه لا يمكننا معرفة ما سيحدث معرفة يقينية، بل أقصى ما نستطيع القيام به هو بعض التأملات الفلسفية التي هي أقرب للخطأ منه إلى الصواب، وخير دليل على ذلك هو تعدد وجهات نظر الأديان والفلاسفة لما سيحدث بعد الموت، وحتى إذا سلمنا جدلا أنه باستطاعتنا أن نعرف ما سيحدث، فلن نستطيع تغيير أي شيء.