جرائم الإنكشارية ميراث الأتراك الأوائل في الجزائر
تدفق جنود الإنكشارية إلى الجزائر منذ عام 1520، بعد إعلان خير الدين بربروس ولاءه للعثمانيين، فأرسل السلطان سليم الأول 2000 منهم و4000 من المتطوعين الأتراك، جرى دمجهم فيما بعد، ومنذ ذلك التاريخ أصبحوا يعرفون باسم "أوجاق الجزائر".
منح السلطان سليمان القانوني لخير الدين بربروس، قرصان البحر المتوسط والذي أعلن تبعيته للعثمانيين، حق تجنيد المتطوعين من مناطق الأناضول، فيما كان الواقع أن معظم جنود الإنكشارية بالجزائر من المشردين والمجرمين الأتراك الفارين من الأحكام القضائية، وقدمت السلطات مغريات مادية وأدبية لهم، وعلى رأسها جمع الثروات الطائلة والوصول إلى المناصب العليا.
تميز أفراد الإنكشارية بعنجهية واضحة، فبمجرد وصولهم إلى الجزائر يمارسون حياة العظمة وروح الاستعلاء، فكان "أحط الأتراك قدرا وأوضعهم شأنا يرفض باحتقار أية فكرة للمساواة مع الأهالي، كما أن أبسطهم كان يجبر الناس على مناداته بلقب أفندي وعظمتكم".
العثمانيون اتبعوا سياسة التهميش وانتهاك الحرمات، بمنح الحقوق والامتيازات للجنود على حساب السكان الاصليين، فإذا وقع شجار وضرب المواطن الجزائري أحد الإنكشارية، فإن عقابه قطع يده، وإذا تسبب في وفاته يكون جزاؤه حرقه أو تقطيعه حيا أو قتله بالخازوق، ما شجع قوات الاحتلال على التمادي في الفجور والعبث.
جيش السكارى
انتقل الإنكشارية للجزائر حاملين معهم موبقات ورذائل الأتراك، خاصة بعد أن أصدر سليم الثاني فرمانا بإباحة شرب الخمر والبغاء للجنود عام 1570، فانتشرت الحانات في مركز الدولة وولاياتها.
الرحالة الأمريكي جيمس كاثكارت ذكر في كتابه الرحلة الجزائرية أن "عدد الحانات بمدينة الجزائر وحدها بلغ 30 في القرن الـ18، واحتوت ثكنات الإنكشارية على راقصات"، وهي الظاهرة التي اجتاحت المدن، وكثيرا ما تسببت في مشاجرات واضطرابات.
إدمان الإنكشارية الخمر أدى إلى نشر الفوضى بالمدن وارتكاب جرائم القتل، منها ما وقع عام 1789 من تنفيذ الجنود السكارى أعمال قتل وشغب وفوضى بحي بك أوغلي، راح ضحيتها 5 جزائريين وحرق 18 منزلا.
لم تكتف السلطنة بإباحة شرب الخمر للإنكشارية بل سمحت لهم بإدمان الحشيش، وانتشرت أماكن التعاطي "المحشاشة" في كل ثكنة عسكرية وفي المقاهي، وأصبحوا يقضون نهارهم في النوم أو تحصيل الإتاوات، وليلهم في السهر إلى ساعة متأخرة يتسكعون في الشوارع.
كرخانات الإنكشارية
زيادة على فساد أخلاق معظم المجندين وتشجيع السلطة على حياة العزوبية في الأوساط العسكرية، كان الإنكشاري يصل إلى الجزائر مراهقا وحيدا لا يجد أمامه سوى حياة بعيدا عن الأهل والأحباب، ما أدى به إلى الانغماس في المجون، وشجعته الدولة بتوفير البغايا لإمتاعه جنسيا.
الدولة العثمانية كانت تغري المجندين الجدد من الأتراك بالحضور إلى الجزائر إذ يباح لهم التمتع بحياة داعرة بلا رادع، فانتشر البغاء الذي أخذ شكلا رسميا، وكلف موظف خاص عرف بـ"المزوار" بتنظيم عمل البغايا، له سلطة مطلقة في إجبار النساء على الانخراط في شبكات الدعارة الحكومية.
المزوار أصبح راعي البغاء الرسمي، وبات يدير شبكة من النساء لإشباع نزوات الجنود، إذ كانت الفتاة تنفصل عن أسرتها وتصبح ملكا للإنكشارية، الذين كانوا يؤجرون غرفا بالفنادق لاستقبال المجبرات على البغاء تحت إرهاب بنادق العثمانلية، ثم جرى تخصيص بيوت للدعارة "كرخانات" في حي خاص مغلق داخل المدن، لا يسمح بدخوله إلا للجنود.
لم تشبع بيوت الدعارة نهم الجنود إلى البغاء، لذلك اتجهوا إلى الاعتداء على النساء في بيوتهن، وهي عادة عرف بها إنكشارية الجزائر في مختلف مناطق تجنيدهم، ما جعل الأهالي يتخوفون من وجودهم ويطالبون بترحيلهم إلى خارج البلاد.
تفاخر الإنكشارية بانتهاك أعراض النساء، حتى أنهم ألفوا عدة أغانٍ يتباهون فيها بارتكاب الرذيلة، وفي إحداها روى جندي مغامرته لرفاقه في بيت أحد السكان، لكن صاحب المنزل فاجأه وأوسعه ضربا، ومما جاء في الأغنية:
"كنا كثيرون / دخلنا بيتا / صعدنا لنستريح / انتظرنا على الطريق الأصدقاء القادمين / ألم تر غيري أيها الوغد؟ / حمل في يده خنجرا ضخما / توسلت له استعطفته ولم أتمكن من إبعاده عني / وراء السرير يوجد خمسة عشر آخرون / ألم تر غيري أيها الوغد؟".
لم يقتصر المجون على أفراد الإنكشارية بل تعداه إلى الدايات والبايات وكبار الموظفين الأتراك، وشهد عام 1710 أعمال خطف للنساء من الشوارع بأمر من الداي إبراهيم المولع بالجميلات، حتى أنه كان يترصد غياب أزواجهن للتوجه إلى بيوتهن خلسة في ساعات متأخرة من الليل، كما أن الحاج أحمد -آخر بايات قسنطينة- كان يجبر الأب على تزويجه ابنته وإذا رفض يأمر بخطفها تحت إكراه البنادق.
تسبب هذا السلوك في ثورة الأهالي في قسنطينة عام 1568، إذ تمردت المدينة ضد الحامية التركية بسبب اعتداء أحد الإنكشارية على فتاة، وسرعان ما تدخل السكان ليقتلوا 5 جنود، وخوفا من تفاقم الوضع اعتصم بقية الجند بالقصبة إلى أن وصلت الإمدادات من الجزائر بأمر من محمد آغا ابن صالح رايس، وبمساعدة فرسان الذواودة تمكنت القوات من الخروج مرة أخرى إلى المدينة ليعيثوا فيها فسادا انتقاما لمقتل زملائهم.
تكررت الحادثة في 12 أكتوبر 1642 في قسنطينة وتسببت في صراع دامٍ بين أسرة عبد المؤمن وأفراد الإنكشارية، لأن المعتدى عليها كانت من هذه العائلة، ولم يهدأ الصراع إلا بتدخل الأعيان وعلى رأسهم شيخا الإسلام والبلد.
جيش اغتصاب الأطفال
من السلوكات المشينة للإنكشارية ممارسة الشذوذ الجنسي، فرغم تقنين السلطنة للبغاء، كانوا يفضل معاشرة الصبية الصغار الذين يشترونهم من أسواق النخاسة أو يخطفونهم من الشوارع، وكانوا يتغنون ويتغزلون فيهم كالنساء.
سجل الأسير الإنجليزي جوزيف بيتس رحلته إلى الحجاز برفقة سيده الخزناجي عام 1680، وأكد أن الإنكشاري كان يحمل الطفل باللين أو بالقوة إلى ثكنته، حيث يصبح ضحية له ولرفاقه دون أن يستطيع أحد التدخل، لأن مقرات الجند تتمتع بالحصانة، وشدد على أن العثمانيين شجعوا ذلك لإبعاد قواتهم عن الزواج والاستقرار الاجتماعي.
إباحة اللواط من طرف الدولة شجع على عدم خجل الإنكشاري من ممارسته، إذ بينما لم يذكر الزاني اسمه في نهاية أغنيته السابقة يفصح عنه الآخر "عمر"، دون خجل في نهاية أغنية يروي فيها صراعه مع البراغيث في غرفة بالفندق!، ومما جاء بها "جئت بشاب إلى غرفتي، فأفرغته البراغيث من دمه".
لم تكن معاشرة الغلمان مقتصرة على الإنكشارية، بل انتشرت بين العثمانيين بالجزائر، ما أشار إليه الرحالة الفرنسي لوجي دو تاسي بقوله :"إن البايات والدايات يملكون عبيدا أوروبيين، وكانوا يختارون الأصغر والأجمل، وبما أن الأتراك لم يكونوا متزوجين في معظمهم، فإنهم يمارسون الجنس مع الشبان وهي عادة منتشرة"، ويضيف أن "برتغاليا في الثامنة عشر طعن سيده بسبب محاولته الاعتداء عليه جنسيا".
مارس أبناء البايات وكبار الموظفين اللواط، منهم حسونة ابن باي قسنطينة حسين بن حسن بوحنك، الذي اشتهر بالفساد والمجون، وعاد ثملا في إحدى ليالي عام 1799 من حي سيدي مبروك -بالجنوب الشرقي للمدينة- حيث تقام سهرات اللهو، وفي طريقه وقع مع حصانه من أعلى الجسر إلى الوادي فقتل على الفور.
علي ابن أنجليز باي كان فاسد الأخلاق حتى أنه أصبح غير محتمل وسط الرعية، واشتكى منه العديد من الأعيان لارتكابه الفواحش دون أن ينال أي عقاب.
محمود بن شاكر باي من أشهر الماجنين الأتراك في عهده، فكان يكثر من الخمر، ويقوم بأعمال منافية للأخلاق والقانون من نهب وقتل واعتداء على الحرمات، ورغم ذلك عينه والده قائدا على قبيلة الحراكتة "قائد العواسي"، وهو الأكثر قربا من منصب الباي، كما تولى عدة وظائف سامية ببايلك قسنطينة منها الخليفة في عهد إبراهيم باي الذي لم يكن أحسن حال منه، وقد استغل نفوذه في قسنطينة فظلم الرعية واستباح أعراض السكان.
المصادر :
1 - جميلة معاشي: الإنكشارية و المجتمع ببايلك قسنطينة في نهاية العهد العثماني