عقبة بن نافع الفهري , بين القيل والقال والحقيقة والخيال
إن عبادة الأشخاص وخاصة المجرمين منهم سفاكي دماء الأبرياء العزل وصناعتهم سِمة مرافقة لعصور التخلف الذي أخذ فيه العقل إجازتة المفتوحة ، ومن هنا جاء الفكر السلفي الوهابي الحالي المهيمن على أفئدة السُذج من المسلمين لاستعادة تقديس السلف بتراثه، باعتباره الصحيح في الإسلام ، وكل مناقشة له تُعد ضلالا وكفرا دون الإحتكام لآي القران الصريحة في الأمر . ومن هنا كانت العناية بالقائد الفهري عقبة بن نافع الذي هو في حقيقته بشر مثلنا ، فيه كل ما فينا من ضعف وقوة ، وظلم وعدل ، فيه الصواب والخطأ ، فيه الحلم والتعسف ، فيه الإنية والأنانية ، فيه الإيثار والإستئثار ، غير أن بعض المؤرخين جعلوه ملاكا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولم يتركوا منقبة إلا وذكروها وزادوا عليها من نسج خيالهم ما لا يقبله عقل ولا منطق ، والحقيقة التاريخية نسبية يجوز فيها الصدق والكذب ، وأخبار عقبة لا قدسية فيها لأنها ليست بالقرآن ، ولا من حقائقه، كل ما في الأمر أنها من أخبار الرواة والتاريخ ، فكل ما يقال عنه يخرج من إطار القدسية ، ويدخل في إطار البحث والاستقصاء التاريخيين .
من هو عقبة بن نافع ؟
هو عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهرى، ولد قبل الهجرة بسنة، وكان أبوه قد أسلم قديماً، نشأ في بيئة إسلامية خالصة، وهو صحابي بالمولد، لأنه ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمت بصلة قرابة للصحابي الجليل عمرو بن العاص من ناحية الأم، وقيل أنهما ابني خالة ، نبغ بطوليا في الحرب، وشارك في فتح مصر تحت أمرة ابن خالته عمرو بن العاص ،الذي أرسله إلى بلاد النوبة لفتحها، فلاقى هناك مقاومة شرسة من النوبيين، ثم تولى قيادة حامية برقة ردحا من الزمن في عهد الخليفتين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا ، وهو الذي كُلف بتأديب القبائل الأمازيغية التي خلعت الطاعة ، فقطع أٌذن ملك “ودان” وأصبع ملك قصور “كوار” حتى لا تُسوِل لهم أنفسهم “محاربة العرب” ، وهو الذي مارس حرب المباغتة ضد البزنطيين ، وأسس مدينة القيروان لتكون قاعدة لاستكمال فتح إفريقيا الشمالية برمتها ، ووصل زاحفا نحو الغرب في حملته مكتسحا مناطق عدة في المغرب الأقصى إلى أن وصل المحيط الأطلسي الذي دخله بجواده رافعا يده لله متضرعا وقائلا: [يارب . لولا أن البحر منعني لمضيت في البلاد إلى مسلك ذي القرنيين، مدافعا عن دينك ، مقاتلا من كفر بك .] [1] . والمتتبع لتاريخ الغزو العربي لشمال إفريقيا ، وتاريخ حملتي عقبة بن نافع الفهري بالذات يستشف منها بعض المناحي يجب الوقوف عندها لوزن مدلولاتها وأبعادها .
بين تاريخ السياسة وتاريخ الوطن والمجتمع
إنكشفت حقيقة اختزال تاريخ وطن في شخصيات عسكرية ، أُحيطت بهالة من التقديس رسمتها ريشة مؤرخ مبدع لعبت فيه الأهواء شأوا كبيرا ، وغدت مرجعية مستنسخة لم يقو أحد التنبيه لموضع الخلل والبهتان فيها ، فأصبح اجترار الكذب مؤديا إلى ترسيمه ووضعه في مصاف الحقائق التي لا مجال لنكرانها ، وكل محاولة للتشكيك تُعد ضربا من ضروب التجني والإفك ، الذي يجابه بآيات العصيان والضلال والكفر ، وهي أمور تكبح مسار البحث وتحول دون إنطلاقته وفق منهج قويم ، ينظر للمجتمع بشمولياته دون اختزال لجهده وعبقريته ونضالاته وابتكاراته تقزيما وحجبا ، وتلخيصها في مناقب شخصية محورية واحدة باعتبارها المركز، والعقدة ، وقطب الرحى ، التي تدور حولها الأحداث ، داخل نسق تاريخي يُهمل الفعل والإنفعال ، ويكيل الدناءة للمنفعلين بوازع ديني باعتبارهم كفارا يجوز فيهم الجهاد التهجمي بمسوغات واهية أثبت العقل والمنطق والدين السليم بطلانها ، وهو ما حدث لتاريخنا في عهد شخصية عقبة الفاتح خلال الخمسينيات من القرن الأول للهجرة ، وهو ما يجعل مصادر التاريخ الإسلامي تنحوا في عمومها إلى أن تكون سجلا لمناقب الخلفاء والوزراء وقادة الغزو ، أما الباقي من الأمم ، والشعوب ، والرعايا ، فهم تبع لا ذكر لهم إلا عرضا ، ومجبرون على الدوران حول هالة الحكام والساسة ومن يجاورهم ويخدمهم من الفقهاء ، كدوران الحجيج حول الكعبة المشرفة .
الخرافة في التاريخ الإسلامي
المتفحص للحقائق المصدرية يقرأ فيها على سبيل المثال
-اِنبجاس الماء تحت رجلي فرس عقبة بعد دعوته لله إثر تعرض جيشه للعطش أثناء محاولة الإلتفاف على مدينة خوار الأمازيغية الحصينة ، فارتوى الجند ، بعد أن أمرهم قائدهم بحفر أزيد من سبعين حفرة خرج الماء منها تباعا ، وهي قصة بلا سند ولا منطق ، يغلب عليها طابع الاستلهام لما حدث في قصة سيدنا اسماعيل وأمه هاجر بين الصفا والمروة ، وما رافق ذلك من انبجاس المياه تحت قدمي النبي سيدنا اسماعيل عليه السلام ، أو ما يعرف ببئر / زم
/ زم
-دعوته لخروج الوحوش والبهائم عن الموقع المزمع بناء مدينة القيروان فيه ( أن عقبة بن نافع غزا إفريقيا فأتى وادي القيروان فبات عليه هو وأصحابه حتى إذا أصبح وقف على رأس الوادي فقال : أطعنوا فإنا نازلون قال ذلك ثلاث مرات ، فجعلت الحيات تنساب والعقارب وغيرها مما لا يعرف من الدواب ، تخرج ذاهبة وهم فيها ينظرون إليها من حين أصبحوا حتى أوجعتهما الشمس وحتى لم يروا منها شيئا [1]. ابن عذارى المراكشي، البيان المغرب ، وابن عبد الحكم في فتوح افريقيا والأندلس .وتفسير الحادثة بالمنطق لا تزيد عن حرق أحراش الغابة المجاورة، وانتشار الدخان المؤدي بالضرورة إلى مغادرة الحيوانات البرية بأشكالها وأنواعها من الموقع خوفا من الهلاك
-وفي قصته في أمر تحديد قبلة مسجد القيروان إشارة إلى إجهاد النفس في تقويمها ، لما رأى أمر اختلاف الأصحاب في تحديدها ، فبات مغموما ، فدعا الله التفريج فأتاه آت في منامه قائلا له “إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك …. فإنك تسمع بين يديك تكبيرا لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك ، فأنظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك ! ….فاستيقظ في منامه وهو جزعٌ .. . وبعد صلاته ركعتي الصبح بالمسلمين ، إذ بالتكبير بين يديه فقال لمن حوله (تسمعون ما أسمع ؟)فقالوا (لا) فعلم أن الأمر من عند الله ، الخ ” [2] والمتتبع لما قيل يتضح مدى التخريج الدرامي للقضية ، ومدى قوة إيمان الناس ماضيا وحاضرا بالتصورات المنامية والتخيلات ، كما أن قائدنا يتنزل عليه الإلهام الرباني مثله مثل الأنبياء إرشادا له لتعيين مكان المحراب والقبلة ؟ وكيف لأعراب غزوا بلدانا مشرقا ومغربا لا يعرفون كيفية تحديد الجهات الأربع؟ ، ويعجزون بحضارتهم تحديد معالم الشرق والقبلة؟ ، وأقوام سبقوهم لم يكن أمر تحديد الجهات عصيبا ولا يتطلب التدخل الإله في تحديده ، وقد تكون القصة مستوحاة من أساطير الأولين من ذوي الألباب النيرة التي تصيغ الأساطير تقربا من أهل الحل والعقد ،وهذه كلها أمور وأن وردت في متون المصادر التاريخية التي تنجر في غالبها لإديولوجية الطبقة الحاكمة وصلت حد التزييف والتحريف للحقائق مثل ما صرح به المؤرخ الرسمي للدولة البويهية عندما سُئل عما يفعله فقال :” أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها ” [3] ،وأمثال هؤلاء المؤرخين هم الذين شحنوا صدورنا بترهات الماضي وأباطيله ، وجعلونا نعيش في دوامة الأسطورة التي يدحضها العلم ويستهجنها رغم صخب الصاخبين الذين همهم الأوحد الحفاظ على الهيمنة الفكرية ،و الدينية ، واللغوية، والهوياتية، ولو بتشجيع الخطاب العجائبي المستند على الخوارق والمعجزات المشابهة لمعجزات عقبة بن نافع الفهري أثناء غزواته لشمال إفريقيا ، التي تسعى إلى تمرير اديولوجية عروبية واضحة المعالم ، مدعمة بآليات دينية تخاطب العقل الباطن في الإنسان الأمازيغي المشهور بسذاجته وسهولة انقيادته للخروقات والأمور الغيبية التي تتجوازها الحواس والمدركات ، مثلهم مثل ما ورد في حديث العُتابي الساخر في زمن المأمون الذي يروي حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه “اذا بلغ لسان أحدكم أرنبة أنفه دخل الجنة “.. فإذا بكل واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول أن يصل به إلى أنفه ! ، وما قيل عن كرامات عقبة قيل سابقا في الملاحم الهيلينية وأوديسية هوميروس ، وملحمة “جلجامش” ، ولا حقا بمعجزات الفقيه ابن تومرت[4] وحيله في إرساء دعائم الدولة ولو اعتماد ا على التزييف ، وفكر الخوارق والمعجزات، ناهيك عما يذكره أبو الحسن الجزائي في كتابه “زهرة الآس في بناء مدينة فاس” ذاكرا عجائب نهرها الذي لا نظير له ، فماؤه يشفي العليل السقيم ، يسخُن سريعا، وينهضم سريعا ، يفتت حصى المثانة ، ويزيل الصيبان والقمل من الجسد ، يلين البشرة ….الخ ، وما من شك في أن هذا الفكر الأسطوري المزيف مُعطل للفكر، والعلم، والمعرفة الصحيحة التي تنبني على الحجة والدليل العملي والعلمي المبنيان على الوثيقة والأثرالأركيولوجي .
الجهاد والقتال بمنظوري الهجوم والدفاع
إن التغاضي عن ذكر عدم مشروعية الجهاد الهجومي والقتل العشوائي والترهيبي “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ” , ” فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم ، واتقوا الله : البقرة 190 ، 194 ” ، وطمس الحقائق حول ردود الفعل الحقيقية لعملية التوسع ونشر الإسلام ، وموقف الأمازيغ الفعلي من عملية التمشيط الواسعة التي قام بها جند الإسلام بقيادة عقبة التي لا نقرأ فيها سوى العبارات القتل التي تبرز هول ما أقترف باسم الإسلام الذي ديست تعاليمه برقاع نتنة من تعاليم الدنيا الواردة من دار الخلافة الأموية بفحواها الذي يهدف إلى تحقيق المزيد من ( الجزية والفيء وسبايا أفريقية ) . ولم يسأل الغازي العربي المسلم ومن كان معهم من قبائل زناتة أنفسهم عن مدى جواز الاٍعتداء على الآخر ولو كان كافرا ، فكل ما يريده هو البطش والقتل والترهيب لإخضاع رقاب الناس “….إِن تُرِيدُ إلا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ” [5] ،فلا تقرأ في كتب التراث سوى “… فهزمهم وقتلهم تقتيلا ، وأخذ المسلمون من سبيهم وخيلهم شيئا كثيرا ، ….فقاتلهم قتالا ذريعا …. فأفنوهم وقطعوا أثارهم ، …. وأوغل ( عقبة) في الغرب يقتل ويأسر أمة بعد أمة ، وطائفة بعد طائفة ، …. وغزوته ( عقبة) أيضا للبربر بالسوس الأدنى وهي في بلاد تامسنا ، وهي بلاد المصامدة ، فهزمهم وأفناهم ، وبث (عقبة) الخيل في بلادهم فافترقت في طلبهم إلى كل موضع هربوا إليه لا يدفعهم أحد . فقتلهم ( عقبة) قتالا ما سمع أهل المغرب بمثله ، حتى هزمهم (عقبة) وقتل منهم خلقا عظيما ، وأصاب منهم نساء لم ير الناس في الدنيا مثلهن ، قيل أن الجارية منهن كانت تبلغ بالمشرق ألف دينار ونحوها” .[6] ، وكان يغزو حتى القبائل التي سبق لها وأسلمت ، ويذكر ابن عبد الحكم في تاريخ فتوح شمال إفريقيا والأندلس بأن عقبة جذع أنف ملك ( ودَان) فقال : لما فعلت بي هذا وقد وعدتني ؟ فقال له عقبة : فعلت هذا بك أدباً لك , و إذا مسست أذنك ذكرته , فلم تحارب العرب..
إن الأمر فيه تغليب لثقافة الإكراه والإرغام التي تخالف جوهر الإسلام الذي يعني السلام ،وأين قوله تعالى ” لاإكراه في الدين” ؟
هذه الحقائق تبرز مدى التسامح الإسلامي في حق أهل الذمة ، والكفار ، وهل القتال في سبيل الله ؟ ، أم في سبيل الحظوة والسلطان ؟ وهل القتال والجهاد موقوف على المسلم دون الكافر ، أي أنه حلال على المسلمين وحرام على الكفار .
وما ذنب هؤلاء الذين قتلوا من الطرفين ، وهم لم يفعلوا إلا ما أمر الله بفعله إن قاموا بالدفاع أو تظاهروا به ، ( فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم ، واتقوا الله ) ، وما دام المسلم هو المعتدي ، فيستحق الرد بالمثل ، ووصفهم الله بأنهم لم يتقوا الله لأنهم قاموا بالعدوان ؟ أم أن الله سبحانه وتعالى يجيز ويأمر بقتال الكفار بدون سبب وجيه ، وهو القادر على جعل الدنيا كلها مؤمنة إن أراد ، دون حاجته لعنف الحجاج بن يوسف، ولا قتال وجهاد عقبة ، وهو القائل (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)
[7] ، وهو القائل كذلك (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) [8
ثم نسأل عن مدى جهد العرب في تبليغ الرسالة سلما قبل بدء الغزو ، ومن حق هؤلاء الأقوام الأمازيغية معرفة حقيقة الأمر والتبين منه ، ليكون ذلك حجة وتبريرا للمسلمين في الإعتداء على وطنهم، ثم هل يستقيم إيمان وتترسخ عقيدة والسيوف على الرؤوس والنحور ؟
هذا ما ذُكر عن الغزو ، أما ما قيل عن ممارسة الغازين وتجاوزاتهم فلم يعهدها الأمازيغ حتى أيام الحكم الروماني الظالم ، وقد يكون الحديث عن ذلك لا حقا . وفي ثنايا هذه الحقائق يتساءل الإنسان هل جاء الإسلام لتحرير الشعوب أم لقتلها وتدميرها وقهرها وتكبيلها، وتدريب من تبقى منهم على الخضوع وفق مذهب الجبرية المرسخ لدى الكثير من أهل الملة استجابة لنهي وحرمة الخروج عن السلطان ولو كان من الطغاة والبغاة والضالين
بين عقبة بن نافع وأكسل وأبو المهجر دينار عبرة
المتتبع للتشنجات القائمة بين الرجلين القائدين عقبة بن نافع وأبو المهاجر دينار، يكتشف موروثا مليئا بالعثرات ، قد يكون للفكر الشعوبي ضلع فيه ، عندما عُين أبا المهاجر دينار أقدم على تهديم قيروان عقبة ، واستبدله بقيروان جديد غير بعيد عنه ليكون له ذكر في التاريخ ، ،(فأساء عزل عقبة )[9] وأمر أن يُحرق قيروان عقبة ، ويعمر قيروانه ، فغادر عقبةٌ المغرب آسفا ، وكان أبو المهاجر سلسا رحيما رحمة الدين في تعامله مع الأمازيغ ، وتمكن بسياسته الحكيمة من جلب المزيد من المؤمنين من القبائل الرابضة فيما يسمى في المغرب الأوسط ، أسس مسجدا شهيرا في مدينة ميلة ، لا زالت آثاره قائمة إلى يومنا هذا ، وكان شديد الحرص على تقريب أمراء البلد الأصليين، ومنهم أكسل المعروف في المصادر العربية ب(كسيلة) ، فأسلم وحسن إسلامه ، واستمرت صداقة أبي المهاجر وأكسل إلا أن جاء أمر تغيير القادة بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان ، وانتقال الخلافة وراثيا لأول مرة في تاريخ الإسلام لولده يزيد بن معاوية ، فأعيد عقبة إلى منصبه ، وبوصوله أوثق غريمه أبا المهاجر دينار وصحبه أكسل بالأصفاد ، وخرب قيروان أبا المهاجر الذي بناه ، وأعاد الناس إلى قيروانه الأول ، واحتفظ بأسيريه في الحديد ، متنقلا بهما في غزواته ، فاستخف عقبة بأكسل بأمره السلخ مع السلاخين جبرا ، وهي أمور لم تكن معهودة في التعامل مع الأسرى خاصة إذا كانوا ملوكا ، ويتضح مما ذكر، وتذكره المصادر أن الخصومة تفاقمت وفرخت بين الرجلين ، خاصة بعد استهجان المسلمين العرب بمناداته ، ما تصنع يا بربري ؟ فبالرغم من نصح أبا المهاجر لعقبة بمسياسة أكسل بقوله : ” بئس ما صنعت ! إذ كان الرسول الأكرم يتألف جبابرة العرب ، وأنت تأتي إلى جبار في قومه وتهينه” ، فتهاون عقبة بالنصيحة ، مستمرا في جبروته وإساءاته ، فانتهز الأمازيغي فرصة فهرب من القيد ، وجمع التعداد ، وترصد جيش معاوية أثناء عودته باتجاه القيروان ومعه أبا المهاجر ، ” وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة الأوراس ،بإغرائها برابرة تهودا عليه [10]، بعد معركة حامية استشهد فيها أكثر المسلمين عام 63 للهجرة في منطقة تعرف بتهودة قرب بسكرة حيث وُري جثمانه في عين المكان وبُني عليه المسجد المعروف باسمة إلى يومنا هذا، رحمهم الله جميعا واسكنهم جنة الرضوان” .
الحادثة وإن كانت درامية في فصولها ، إلا أن البعض جعلها فيصلا بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر ، فعقبة بن نافع بطل ، فاتح عظيم ، وقاهر للبزنطيين والأمازيغ، رجل إفريقيا بلا منازع ، لولاه لما وصل إشعاع الإسلام والإيمان إلى ربوع شمال إفريقيا …الخ ، أما أكسل فهو المرتد والكافر والبربري، والعميل للبزنطيين ، مآله جهنم .. الخ ، ولو عدنا لسجل التاريخ لوجدنا جرائم يندى له الجبين ، أقترفت ضد الإمام الحسين بن علي في كربلاء تشنيعا وقطعا للرأس ، وقطع الحجاج رأس عبد الله بن الزبير على عتبات الكعبة ، ولم يُقال عنه بأنه كافر ومرتد ، وصلب هشام بن عبد الملك غيلان الدمشقي على أحد أبواب دمشق لرأي قاله في القدر ، ولم يُكفَّر .. أما أكسل فهو مجرم ومرتد وكافر .. الإنصاف هو أن الرجل دافع عن عرضه وشرف الأمة التي ينتمي إليها ، والأرض التي أوت أجداده في وجه غطرسة وجبروت أموي باسم الإسلام [ القادة على دين ملوكهم]، واستطاع أكسل أكتشاف النوايا الحقيقية لعمليات الغزو المتخفية وراء جلباب الإسلام ، والإسلام منها براء . فمن حقنا معشر الأمازيغ الإعتزاز بأكسل بالقدر ذاته الذي يَعتز به العرب بعُقبة ، فالأول حارب لوطنه وشرف أمته التي يمثلها ، والثاني قاتل وجاهد في سبيل التمكين للأعراب ومن ناصرهم، لأن الجهاد في سبيل الله لا يقتضي الإعتداء والقتل والنهب والسبي ، والتمكين للدنيا ، وكلا الجهادين جزاؤهما عند الله ،( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [11]
وصَفوة القول
إن القدسية التي يفرضها السلف على الغزاة المجاهدين ، هي انتكاسة طوعية للفكر الحر ، وتعطيل للبحث التاريخي الذي ينأى عن كل القيود والأغلال ، فهو ها هنا من أجل اكتشاف الحقيقة ولو نسبيا، ومحاربة الزيف الذي طالها، وتطاول على التاريخ تشويها وتزييفا وإعوجاجا ، والحقيقة وحدها هي الكفيلة بتبديد الحجب وكشف المستور والمتخفي من تاريخنا الذي جعلوه تاريخ أشخاص وأسر، تاريخ نكوصية وتراجع للوراء ، تاريخ كهنوت ورجال دين ، لا تاريخ أمم وشعوب ، تبحث لنفسها عن مكان ومقعد في مسرح أمم العالم ، وإن كان قول الحق والحقيقة من النسبيات ، فلا أحد يعرف كل الحق ، فالله هو الوحيد العارف لكل الحق.
الطيب آيت حمودة
هوامش :
[1]ابن عذارى المراكشي ، البيان المغرب …، ج 1 ص 27-
[2] المصدر السابق ج1 ص 31-
[3] ] محمد عابد الجابري ص32 ،
[4]مفتريات المهدي ابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية في التحايل على السذج من أبناء جلدته ،
[5]-سورة القصص الآية 19.
[6]- مقتبسات من كتاب ابن عذارى المراكشي ، البيان المغرب ج1 ص 34…37 ،
[7]- سورة الأنعام الآية 125
[8]- سورة هود الآية 118 ،
[9]- ابن عذارى المراكشي ، البيان المغرب …، ج 1 ص22 ،
[10]- عبد الرحمن ابن خلدون ، كتاب العبر ، ج2 ص 10 دوسلان
[11]- سورة [هود الآية 118
المصدر:مواقع ألكترونية