الشُّعوبية: حين سعى مَواليّ العهد العباسي إلى قلب الطاولة على المسلمين العرب!
أطلق مفهوم الشعوبية على النزعتين؛ تلك التي طالبت بالمساواة، وتلك التي حطت من قدر العرب. لكن، وفق ما نلاحظه في القواميس العربية، ارتبط تعريف الشعوبية أكثر بالنزعة الثانية، التي نتابعها في هذا الجزء الثاني.
بعدما تابعنا في الجزء الأول بعضا من إرهاصات ظهور “الشُّعوبية”، التي برزت في أولى مراحلها آخر العهد الأموي، في صيغة حركة تطالب بالتسوية بين المسلمين العرب والمسلمين من باقي الشعوب، نتابع في هذا الجزء الثاني والأخير، تطور الحركة في العهد العباسي حيث أمست تحط من قدر العرب.
من يتتبع خيط الشعوبية في روايات الإخباريين، يلاحظ عدم اهتمام باللحظة التي تفصل الشعوبية في أولى مراحلها عن ثانيها. ليست ثمة صورة واضحة لهذا الانتقال، ولتدرجه الذي برزت شدته مع تقدم العصر العباسي.
ذاك ما يؤكده المفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه “التشيع العلوي والتشيع الصفوي”، حيث يقول إن “الشعوبية تحولت تدريجيا من حركة تسوية إلى حركة تفضل العجم على العرب، وعملت عبر ترويج المشاعر القومية وإشاعة اليأس من الإسلام إلى ضرب سلطة الخلافة”.
وفق الباحث السوداني أحمد فرج الله في كتابه “في الزندقة والشعوبية”، يبدو أن اهتمام الإخباريين حينذاك، كان منصبا على الذود عن العرب، وتفنيد الطعون الموجهة إليهم، وإبراز مآثرهم أساسا وتأكيد تفوقهم على الشعوب الأخرى.
لكن، نستطيع بسهولة من خلال كتاباتهم، تقدير المرحلة الثانية للشعوبية في العصر العباسي، التي اعتمدت الدولة فيها آنذاك على بعض العناصر الفارسية.
ولأن الشعوبية تحتل حيزا مهما في كتابات الجاحظ تحديدا، نستطيع أيضا تقدير أنها كانت أحد أسوأ الأمراض الاجتماعية التي نخرت الدولة الإسلامية خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة.
مفهوم الشعوبية ظهر أول مرة لدى الجاحظ كما تابعنا في الجزء الأول، وأطلق على النزعتين، تلك التي طالبت بالمساواة، وتلك التي حطت من قدر العرب. لكن، وفق ما نلاحظه في القواميس العربية، ارتبط تعريف الشعوبية أكثر بالنزعة الثانية.
بصرف النظر عن كون الجاحظ عاش في العصر العباسي، فالمفكر المصري أحمد أمين ذهب في كتابه “ضحى الإسلام”، إلى أن الشعوبية كمفهوم، ظهرت في صدر العصر العباسي، وكان له تأصيله لذلك.
يقول… إن أكثر أسماء المذاهب قبل العصر العباسي لم تكن فيها ياء النسبة؛ كالخوارج مثلا والشيعة والمرجئة والمعتزلة… وإن هذه النسبة لم تظهر إلا مع العباسيين؛ كالجهمية مثلا والراوندية… والشعوبية.
بالمناسبة، يشير أمين إلى أن هذه النزعة لم تتضمن الفرس وحسب، فمنهم أيضا نبط وقبط وأندلسيين، وكان لكل منهم صبغة خاصة.
شعوبية الفرس، يوضح أمين، كانت بصبغة وطنية تدعو إلى الاستقلال، متخذة في بعض الأحيان شكل زندقة وإلحاد، وتلك الخاصة بالنبط، ظهرت في شكل عصبية للأرض وزراعتها، وتفضيل معيشة الحرث والزرع على الصحراء ومعيشتها، بينما تجلت شعوبية القبط في ثورات مختلفة على العرب، إذ أرادوا طردهم من بلادهم، وكانت آخر ثورة كبيرة في عهد المأمون، ثم في الأندلس ظهر رجل يدعى ابن غرسية وضع رسالته في الشعوبية أيضا.
الذي حدث أن هذه الشعوب، الفرس أساسا، شعروا بعد “الفتوحات”، وبعدما أصبحوا “موالي”، أنهم أكثر تحضرا ومدنية من العرب، وبعد ما ذاقوه من هؤلاء، كما رأينا في الجزء الأول، وبعد ما حل بإمبراطوريتهم، ربما نمت لديهم نزعة التعصب وراودهم الحنين إلى الماضي.
بحسب ما يورده ابن عبد ربه الأندلسي في “العقد الفريد”، ثمة عوامل عدة جعلت عصبية الموالي تستعر تجاه العرب، منها… أن ملوك الأرض جميعا كانوا عجما (الأكاسرة، القياصرة، النجاشي…)، وأن الأنبياء كلهم عجم إلا أربعة كانوا عربا (هود، صالح، شعيب، محمد).
منها أيضا… ما تعلق بعادات العرب، كسبي النساء، وأن النكاح كان يقع عندهم أحيانا دون عقد ولا استبراء…
لإبراز هذا التفوق العرقي، كان للشعوبيين وسيلتان أساسيتان هما تصنيف الكتب ونظم الشعر.
أبرزهم في ذلك، الشاعر بشار بن برد، والشاعر ديك الجن الذي كان يقول، حسبما يورده الأصفهاني في الأغاني: “ما للعرب علينا فضل. جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم عليه السلام، وأسلمنا كما أسلموا، ومن قتل منهم رجلا منا قتل به، ولم نجد الله عز وجل فضلهم علينا إذ جمعنا الدين”.
وكما قال أحد شعرائهم، في ما يرويه بديع الزمان الهمذاني:
“فلست بتارك إيوان كسرى… لتوضح أو لحومل فالدخول
وضب بالفلا ساع وذئب… بها يعوي وليث وسط غيل”.
الواقع أن من يقرأ الهجاء المتبادل بين الفرس والعرب حينذاك، يعتقد أن المشاعر القومية تكاد تقفز من الصدور كتلا من نار وغضب، يقول الباحث اللبناني حسام عيتاني في كتابه “الفتوحات العربية في روايات المغلوبين”.
بالمناسبة، نبه الجاحظ إلى إمكانية تحول الشعوبية من حركة ثقافية اجتماعية إلى حركة سياسية قومية، لكن عيتاني يؤكد أنها افتقرت في واقع الأمر إلى برنامج سياسي.
آية ذلك، وفق عيتاني دائما، أنه لم يقم أي دليل على اتصالها بحركات التمرد الإيراني كالحركة البابكية مثلا، بل إن معظم الشعوبيين كانوا من كبار الموظفين في دواوين الدولة، فلم يكن من مصلحتهم انهيارها.
ما قام به الشعوبيون، وفق هذا الأساس، لم يكن في الواقع صراعا على الدولة، بل صراعا داخلها، وعلى مواقعها السياسية. بتعبير آخر، حاولت الشعوبية تغيير الدولة من الداخل، ولم يكن لها طموح في نقض أركانها.
في الأخير، يرد عيتاني انهيار الشعوبية إلى ثلاثة عوامل هي: تقدم الأدب العربي الذي نجح في دمج التقليد العربي الأدبي الجاهلي بالدين الإسلامي؛ وظهور المعتزلة أصحاب الرؤية التوحيدية الصارمة؛ وإنشاء بيت الحكمة، حيث أسهمت ترجمة أعمال الفلاسفة والمناطقة اليونانيين، في التصدي لنزعات الثنوية المشتقة من الزرادشتية والمانوية، التي كان يحملها عدد من الشعوبيين.
ثم إن المشهد برمته راح يتغير بعد ذلك، بظهور إمارات فارسية مستقلة شرق إيران ووسط آسيا، وبحلول الجند الأتراك عنصرا رئيسا في رسم سياسات الخليفة، التي دخلت مرحلة طويلة من التنافس بين الأتراك والفرس… على حساب دور العرب.
بقلم: كريم الهاني
المصدر:مواقع ألكترونية