“الغزوات” العربية في روايات المغلوبين: سقوط القسطنطينية وبداية سيادة العرب المسلمين خارج شبه الجزيرة…
لما انطلقت “الغزوات العربية” شرق الأردن، الخاضع حينها للحكم البيزنطي، اعتقد البيزنطيون للوهلة الأولى أن تلك الهجمات لا تعدو أن تكون غزوات بدوية من تلك التي خبرتها!
رغم تعاملها مع العرب لمئات الأعوام، بدت الإمبراطورية البيزنطية كمن تفاجأ بـ” الغزوات العربية”، التي جاءتها من حيث لم تتوقع.
لم تكن تدرك في وطيس معركتها مع الفرس، أن هناك تغيرا قد طرأ على التنظيم السياسي في شبه الجزيرة… وأن دولة في طور جنيني، قيد تثبيت وجودها وحكمها هناك.
لما انطلقت “الغزوات العربية” شرق الأردن، الخاضع حينها للحكم البيزنطي، اعتقد البيزنطيون للوهلة الأولى أن تلك الهجمات لا تعدو أن تكون غزوات بدوية من تلك التي خبرتها!
تُرجع إشارات مختلفة من مصادر الجانبين بداية الاحتكاك بين العرب المسلمين والبيزنطيين إلى ما قبل بدء “الغزوات”. يُروى أن هيراكليوس (هرقل) التقى النبي محمد أو أحد مبعوثيه في حمص، وأن الإمبراطور أَذن للنبي بالإقامة في المدينة (يثرب)، حيث كان النفوذ البيزنطي يومها يبلغ أطرافها الشمالية… وربما أجرى له مكافأة كبيرة.
بيد أن هذه “الصداقة” لم تعمر طويلا، لأن الروم أو حلفاءهم قتلوا موفدا للنبي كان يحمل رسالة إلى هيراكليوس بعدما رفض الأخير استلامها، ما دفع النبي إلى إرسال قواته إلى سورية البيزنطية.
من اللقاءات المبكرة بين الجانبين، تشير المراجع البيزنطية إلى معركة “مؤتة”.
في حين لم ير الروم في “مؤتة” أكثر من غزوة بدوية عادية، عدّها المسلمون خط عداء واضح لا صلح بعده معهم؛ ففي هذه المعركة، قُتل قائد السرية الإسلامية زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وهما ذا أهمية رفيعة في ترتيب صحابة النبي وآله.
المفارقة، يقول المؤرخ البيزنطي ثيوفانس، أن هذا الانتصار المبكر، عَمّق الشرخ بين البيزنطيين والعرب المتنصّرة التي كانت تساندهم.
غداة هذا الانتصار، مُنحت الرواتب للجنود البيزنطيين، بينما لم ينل هؤلاء العرب أي حظ منها، فكان أن انصرفوا مستائين إلى أقرانهم من القبائل الأخرى (المسلمة)… هؤلاء الجنود من العرب المتنصّرة، هم من قاد المسلمين إلى غزة “الغنية”، التي تشكل بوابة الصحراء في اتجاه جبل سيناء.
الواقع أن ما شجع هؤلاء على نقل ولائهم إلى بني جلدتهم، كان الأزمة المالية التي عانت منها بيزنطة بعدما وضعت حربها مع الفرس أوزارها، ثم تعاليها على العرب، ناهيك عن وجود روابط نسب وقرابة بين العرب الموالين للروم وأولئك المشاركون في قوات “الغزو”.
التعالي على العرب لم يكن وليد اللحظة، إنما كانت هناك خلفية رسخها مفكرو بيزنطة ومؤرخوها؛ إضافة إلى الأسلوب الفظ الذي وضعوه للتعامل مع العرب اجتماعيا وسياسيا. وضعوا تصورات لقدرات هؤلاء العسكرية… تبين فيما بعد أنها خاطئة تماما.
المؤرخ بروكوبيوس مثلا، يزعم أن العرب لا يستطيعون تهديم أسوار المدن، والمؤرخ سكولاستيكوس يرى أن خير وسيلة لقتال العرب، هي الاستعانة بعرب آخرين ضدهم.
حين أرسل هرقل جواسيسه ليرى ما يجري في شبه الجزيرة بعد تعاظم نفوذ محمد فيها، تعززت المخاوف، بحسب التاريخ الإسلامي، من محاولة تقدم بيزنطية صوب شمال شبه الجزيرة بعد انسحاب الفرس من سوريا.
في غمرة هذه الريبة، وقع الصدام المسلح الأول بين العرب المسلمين والبيزنطيين.
يقول توما القسيس: “في يوم الجمعة الرابع من شباط/فبراير عام 634، عند التاسعة، وقعت معركة بين الرومان وبين عرب محمد (طائيي محمد). فر الرومان تاركين وراءهم البطريق بريردن الذي قتله العرب. وقتل أيضا حوالي أربعة آلاف قروي فقير من المسيحيين واليهود والسامريين. لقد دمر العرب الناحية برمتها”.
توما القسيس هذا، رجل دين سرياني كان قريبا مما حدث ودونه على ما يبدو في زمن الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك. لكن أهمية هذا النص تعود أكثر إلى أنه أولى الإشارات إلى محمد في مصدر غير عربي.
ما يثير التساؤل حقيقة هنا، كان مدى الجدية التي نظر بها الساسانيون والبيزنطيون لمواجهة التقدم العربي… لكن، يمكن التذرع بخروجهم من حرب مدمرة، لم تجعلهم يطورون مستوى من التبادل الدبلوماسي يُمكّنهم من مشاركة معلومات تخص طرفا ثالثا… ثم من كان ليطلب مساعدة عدو قديم!
… وفي لحظة انشغال البيزنطيين بصراعات داخلية، وقعت معركة اليرموك الحاسمة، التي قررت مصير سوريا ومهدت الطريق أمام غزو مصر… كان ذلك عام 636م.
خلافا لحربهم ضد الساسانيين، يرى المؤرخ الأمريكي والتر كايغي أنه لم يكن للدين دور حاسم في تعبئة مشاعر الجنود البيزنطيين وسكان المناطق الخاضعة لهم أثناء التقدم العربي.
في المقابل، يصعب إنكار حقيقة أن البيزنطيين فشلوا في استخدام تقنيات كانوا استخدموها سابقا مع غزاة “برابرة”، من نوع الرشى والخداع التكتيكي في أرض المعركة لتحقيق النصر.
هذا بالتأكيد يشير إلى أداء الدين دور اللاصق الإيديولوجي، الذي وحد العرب تحت قيادة مركزية ومنع تشتتهم أو استجاباتهم للمغريات التي عرضها الروم.
رواية المؤرخ البيزنطي ثيوفانس لمعركة اليرموك تختلف عن الروايات العربية. دون الخوض في تفاصيلها، ما يهمنا هنا هو التذكير بأن اليرموك وغيرها من مواجهات تلك الفترة، لم تكتس أهميتها الكبرى كمحطات تحول في تاريخ المنطقة سوى في وقت متأخر نسبيا.
كان ذلك تحديدا حين ظهرت آثارها بعيدة المدى في تثبيت الحكم العربي في سوريا وإنهاء صفحة السيطرة البيزنطية.
الهزيمة في سوريا لم تمثل نهاية لحكم القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية البيزنطية) وحسب، بل أيضا، نهاية لهيمنة الثقافة الهيلينية، وانحسار الدور السياسي لمسيحيي الشرق، وبالمقابل تأسيس مرحلة حضارية، ثقافية وسياسية، مختلفة عن سابقتها وإن متت إليها بعديد الصلات والأسباب.
المصدر:مواقع ألكترونية