الذكاء الاصطناعي التوليدي موسيقار العصر الرقمي الجديد
بعد التقليد والتركيب، قفز الذكاء الاصطناعي إلى مرتبة الموسيقار (شاترستوك)
استكمال لإنجازات علماء الروبوت وصناعة الرقائق الإلكترونية
عزف الروبوت الموسيقى وركبت الرقاقات الإلكترونية مجموعات لحنية ثم شدا الذكاء الاصطناعي بأغنية من صنعه، ولم يتأخر عن القفز إلى منصة الموسيقار الذي يؤلف موسيقى صرفة تشابه كلاسيكيات البشر.
هل وصفت الكلمات السابقة بسرعة وتسرع، غير لائقين بالطبع، مسار تطور العلاقة بين الموسيقى والذكاء الاصطناعي؟ الأرجح أنها لم تنجح إلا بإلقاء ومضة خاطفة على متاهة واسعة ومتشابكة بدهاليز قد تبقى مجهولة لزمن غير معروف.
لنرجع خطوة صغيرة إلى الوراء.
قبل ست سنوات، تحديداً في يونيو (حزيران) 2017، تناقل الإعلام العام خبرين لم يفصل بين ظهورهما سوى أيام قلائل. حمل الأول بشرى بأن الذكاء الاصطناعي نجح في تأليف الموسيقى للمرة الأولى. وقد جاء ذلك بعد سلسلة إنجازات في سنوات سابقة، شهدت إعطاء الروبوتات القدرة على العزف على آلات موسيقية متنوعة كالبيانو، إضافة إلى توليه قيادة الأوركسترا الموسيقية الكاملة في عزف سمفونية كلاسيكية.
وجاء في تفاصيل ذلك الإنجاز أن "المعهد الدولي للبحوث" في بلجيكا، استطاع صنع رقاقات إلكترونية تقدر على تأليف مقطوعات موسيقية قصيرة. وقد تدرّبت تلك الرقاقات على صوت الناي البلجيكي القديم. وبعد طول أناة وتكرار، توصلت تلك الرقاقات إلى صنع مقطوعة موسيقية قصيرة بصوت ذلك الناي.
وفي الخبر الثاني، تبيّن أن باحثين من "معهد جيورجيا للتكنولوجيا" في أميركا، استطاعوا تدريب روبوتاً يملك أربع أذرع، على تأليف مقطوعات تولى عزفها بنفسه على آلة الـ"ماريمبا" الخشبية التي تشبه آلة "الزيلوفون" الشهيرة، لكنها ضخمة الحجم وتحتاج عصياً كبيرة نسبياً للضرب على ألواحها الخشبية كي تخرج الألحان الرنانة منها. وفي تفصيل بارز، لقّن أولئك الباحثون رقاقات ذلك الروبوت بحوالى خمسة آلاف معزوفة شملت سمفونيات من تأليف بيتهوفن وأغاني لفرقة البيتلز وأداء صوتي لليدي غاغا وغيرها. وبالنتيجة، توصل الذكاء الاصطناعي في الروبوت إلى صنع معزوفتين طول كل منهما ثلاثون ثانية، تولى عزفهما بنفسه على الـ"ماريمبا".
من غنّى في لوس أنجليس؟
في مطلع عام 2023، شدت المغنية يون وانغ بأغنية "دوق نيويورك" على مسرح في مدينة لوس أنجليس، لكن ما استمع إليه الجمهور كان صوتها بعد إعادة تركيبه بواسطة الذكاء الاصطناعي. وقد وصفت تلك المؤدية تجربتها بأنها خبرة في التعاون والتكامل مع أداء الآلات الذكية. وقد استُخدمت في تلك التجربة تقنية مؤتمتة ذكية تسمى "رايف" R.A.V.E ، اختصاراً لعبارة "الترميز المؤتمت للتحكم الحي بالتغييرات الصوتية" Realtime Audio Variational autoEncoder، وفق ما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أخيراً.
وتعطي تقنية "رايف" نموذجاً عن العمل على التعليم العميق للآلات الذكية، بواسطة الخوارزميات المتطورة، على نوع خاص من المُخرجات التي تمثّلت، في هذه الحال، بالأداء الغنائي الصوتي. وقد ابتُكِرَتْ تقنية "رايف" في عام 2021 على يد خبير المعلوماتية الفرنسي أنطوان كايون، في سياق بحوث أجراها في معهد "إركام" IRCAM الفرنسي المتخصص في بحوث الصوت والموسيقى، وفق ما أوردته "نيويورك تايمز".
وفي تعليق لها نقلته تلك الصحيفة نفسها، ذكّرت البروفيسورة الأميركية تينا تالون بأن المتخصصين في المعلوماتية استعملوا تقنيات مختلفة من الذكاء الاصطناعي للتوصل إلى تدخلات مختلفة ومتدرجة في الصوت البشري، وذلك بدءاً من ستينيات القرن العشرين. ولفتت البروفيسورة تالون إلى أن ذلك يعني أن كميات ضخمة من البيانات والتجارب توفرت لدى تقنية "رايف" ما مكنها من الأداء الصوتي المواكب لصوت المغنية وانغ.
وكذلك لفتت الصحيفة إلى أن خبراء الذكاء الاصطناعي، ومن بينهم الفرنسي كايون، دأبوا على تطوير مجموعة من النظم المتخصصة بالصوت والموسيقى، على غرار برنامج "سينغ سونغ" SingSong و"ميوزيك أل أم" MusicLM اللذين أشرفت عليهما شركة "غوغل". وقد مهدت تلك التطوّرات وغيرها إلى ظهور منصة "واف تول" WavTool التي تستند إلى نظام "جي بي تي 4" GPT-4 (من صنع شركة "أوبن أي آي OpenAI) لتركيب منظومة تقنية متخصصة في تأليف مقطوعات موسيقية.
وفي ذلك السياق، أوضحت البروفيسورة تالون أن برامج الذكاء الاصطناعي المتخصصة في الموسيقى، على غرار "ميوزيك أل أم"، تسند أيضاً إلى التدريب بأسلوب التعلّم العميق للآلات الذكية، باستخدام قاعدة بيانات تشمل الآلاف من ساعات العزف الموسيقي جرى استقاؤها من مواقع كـ"يوتيوب" ومنصات رقمية موسيقية مختلفة ومصادر أخرى.
ذكاءين وموسيقى واحدة
في السياق نفسه، وفق "نيويورك تايمز"، لم يفت المتخصصة تالون الإشارة إلى اندفاع موجة الذكاء الاصطناعي التقليدي واكبته فورة في صنع أغانٍ جديدة تؤدى بأصوات مغنين مشهورين، إضافة إلى تركيب مقطوعات موسيقية صرفة تقلد المعزوفات التي صنعها موسيقيون بشر، لكنها لا تتطابق معها، بما في ذلك الموسيقى الكلاسيكية.
وفي السياق نفسه، أوردت "نيويورك تايمز" تجارب متنوعة أخرى، تشمل عملاً سمفونياً حمل اسم "سيليكون" Silicon واستخدمت فيه تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي، في صنع توليفات موسيقية مبتكرة أضيفت إلى المقطوعات المصنوعة بشرياً، بالاستناد إلى قاعدة بيانات ضخمة في الموسيقى. بالتالي، لم يتردد الموسيقار البريطاني روبرت لايدلو الذي قاد تجربة "سيليكون" في الإشارة إلى أن ذلك العمل "يتعلق بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بقدر ما يتعلق باستخدام تلك التكنولوجيا نفسها".
وعند تلك النقطة، ينفتح المجال واسعاً ومبهماً أمام الأسئلة عن الآليات والكيفيات والحدود والضوابط في ذلك التداخل بين الذكاءين البشري والاصطناعي في الموسيقى. والأرجح أن تلك الأسئلة وأسباب طرحها وكيفية مقاربة التفكير فيها، تحتاج إلى نقاشات واسعة.
المصدر:مواقع ألكترونية