التزييف البصري بالذكاء الاصطناعي التوليدي يخادع برامج كشفه
صورة مزيفة لقبلة بين إيلون ماسك وروبوت على هيئة أنثى لم تكشفها الأدوات التكنولوجية المتخصصة (تويتر)
لا حماية للجمهور منه مع فشل شركات التكنولوجيا في ابتكار أدوات للوقاية
منذ الانطلاقة المتفجرة في الـ 30 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 لروبوت المحادثة "تشات جي بي تي"، لم تتوقف التحذيرات الضخمة والعميقة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي التوليدي عن التتالي وكأنها موجات محيط لا تهدأ ولا تسكن.
من المستطاع الحديث عن أشياء لا حصر لها، لكن الأخطار الفعلية والواسعة التي يحملها ذلك الذكاء تستوجب لا أقل من استنفار عالمي متعدد الأبعاد في شأنها. ولم تصدر التحذيرات الكوارثية عن مجتمعات متخلّفة أو منظومات تفكير تعادي التغيير والتقدم والتقنيات، بل جاءت من صنّاع ذلك الذكاء الاصطناعي ومن يرافقون الصورة الكبيرة للتكنولوجيا وأبعادها وتأثيراتها. ولعله مفيد القول إن تلك الأصوات المسؤولة والمنذرة دعت أيضاً بصيغ متباينة إلى التعامل الإيجابي النقدي مع الذكاء التوليدي بهدف السيطرة الإيجابية عليه. والأرجح أن ذلك الخيط يربط تحذيرات ورؤى متباينة النبرات صدرت من المستثمر التقني إيلون ماسك ومؤسس "غوغل" إريك شميت، وكبير مستشاري الذكاء التوليدي في "غوغل" الدكتور جيوفري هينتون ومؤسس مايكروسوفت بيل غيتس (أصبح كبير المستثمرين في الشركة التي صنعت "جي بي تي") والاتحاد الأوروبي وحتى البيت الأبيض.
وبعد أسابيع من لقائه كبار مسؤولي شركات المعلوماتية والاتصالات المتطورة في البيت الأبيض في أبريل (نيسان) 2023، حضر بايدن مؤتمراً في سان فرانسيسكو لكبار الخبراء والأكاديميين المتخصصين في الذكاء الاصطناعي. وخرج ذلك الاجتماع بتوافق على جدية وعمق وعالمية الأخطار التي يحملها الذكاء الاصطناعي التوليدي على المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وبالتالي ضرورة العمل المتعدد الأبعاد والعالمي التآزر لإيجاد حلول تكفل السيطرة على ذلك الذكاء وإبقائه أداة متألقة في خدمة العقول البشرية وتطور المجتمعات الإنسانية.
في ظل تلك الصورة المضمخة بالرهبة والحذر، التقى أكثر من صوت في السياقات الآنفة الذكر على ضرورة أن تتحمل الشركات الصانعة للذكاء الاصطناعي التوليدي مسؤوليتها، خصوصاً في صنع أدوات تمكن الجمهور من درء أخطار ذلك الذكاء. لكن يبدو أن البداية ليست سوى قصة فشل معلن.
وضمن الأخطار البارزة للذكاء التوليدي تبرز مسألة استخدامه في تقنيات التزييف العميق، خصوصاً للصور وأشرطة الفيديو وغيرها.
ووفق خلاصة لمقالة مطولة ظهرت أخيراً في "نيويورك تايمز"، فإن الأدوات التقنية التي وضعتها الشركات التكنولوجية قيد الاستخدام تجر أذيال الخيبة والهزيمة أمام التزييف العميق بالذكاء التوليدي، ويزيد مرارة تلك الخيبة أن الصور المؤثرة تعلق في العيون والذاكرة البصرية، فتترك تفاعلات متشابكة فيها حتى لو عرفت العقول أن ما شاهدته الأبصار لم يكن سوى صنعة التلاعب والتزييف.
وقدمت "نيويورك تايمز" مجموعة أمثلة ذائعة الشهرة عن ذلك، إذ لم يُقبّل إيلون ماسك روبوتاً على شكل أنثى، وما ارتدى البابا فرانسيس وشاح الـ "بالينسياغا" Balenciaga المعروف بألوان قوس قزح في إشارة إلى أصحاب الميول الجنسية غير التقليدية، ولم تعتقل الشرطة الأميركية دونالد ترمب كمجرم أمسك به ضابط له هيئة جو بايدن، وما إلى ذلك.
في المقابل سرت تلك الصور والأشرطة كالنار في الهشيم، وطافت العالم وتهاطلت على مئات ملايين الشاشات في أرجاء المعمورة كلها.
ما تراه ليس صورة فتاة جذابة بل صنعة مزيفة بالذكاء التوليدي قد تراوغ الأدوات التكنولوجية في كشفها (ميدجورني)
ليس للبشر سوى العقل النقدي
وقد ركزت "نيويورك تايمز" على ذلك النوع من المشهديات وغيرها. واختبرت الصحيفة خمس أدوات تكنولوجية أساس في كشف التزييف العميق من صنع شركات تقنية متخصصة في ذلك الحقل من التعامل مع ذكاء الآلات. وعرضت الصحيفة على تلك الأدوات التكنولوجية ما يزيد على 100 صورة مركبة بواسطة تطبيقات معروفة تعمل بالذكاء الاصطناعي التوليدي، وتصنع صوراً ولوحات وأشرطة فيديو، على غرار "ميدجورني" Midjourney و"ستايبل ديفيوجين" Stable Diffusion و"دال-إي" .DALL.E
وكذلك قدمت الصحيفة إلى تلك الأدوات التكنولوجية نفسها مجموعة من الصور الحقيقية التي التقط بعضها مصورون يعملون في تلك الصحيفة. وبينت النتائج أن تلك الأدوات التكنولوجية التي تصنعها شركات التقنية وتقدمها بوصفها وسائل لكشف التزييف العميق قد تتحسن، لكنها دوماً عرضة للفشل.
ومن الأمثلة المخيبة عن الفشل المحبط تلك الصورة الزائفة عن قبلة متبادلة بين إيلون ماسك وروبوت على هيئة أنثى صنعها تطبيق "ميدجورني" المعروف والمتخصص في تركيب الصور بالذكاء الاصطناعي، وعلى رغم أن معظم الناس أدركوا زيفها إلا أنها خاتلت أدوات مثل "هايف" Hive و "إليومينتاري" Illuminarty و"سينسيتي" Sensity و"أي آي أور نوت" A.I. or Not و"أم م م- ماي بي أي آي آرت ديتكتور" Umm-maybe’s A.I. Art Detector وغيرها.
وخُدعت معظم تلك الأدوات التكنولوجية بصورة راهبة مسنة يعلو وجهها ابتسامة خفيفة، وقد صنعها أحد هواة الفن والمعلوماتية بواسطة الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وانطبق وصف الفشل نفسه على قدرة أدوات الشركات التكنولوجية في كشف تزييف شريط الفيديو الشهير عن الانفجار قرب البنتاغون، وقد طاف الأرض في ثوان وتسبب في ضرب البورصة لدقائق ضاعت خلالها أموال طائلة.
واختصاراً، فالأرجح أننا لا نزال في المقاطع الأولى من سفر العلاقة بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي التوليدي. وبالنسبة إلى الوقاية من سوء استعمال ذكاء الآلات في التزييف العميق، فالأرجح أن الجمهور لا يزال شبه مكشوف وأعزل حيال ذلك، وعليه الاعتماد على رفع درجة الشك المنهجي والتفكير النقدي. هل يتغير الوضع في مستقبل قريب للأسوأ أو الأفضل؟ لننتظر ونرى.
المصدر:مواقع ألكترونية