الخديعة الكبرى !
وسعوا خواطركم، تابعوني جيدا وركزوا على كل كلمة وكل فقرة...
عالمة الآثار البريطانية Josephine Crawley Quinn أستاذة بجامعة Oxford، مختصة في التاريخ الروماني، اليوناني والفينيقي...
عالمة الآثار هذه نشرت سنة 2018 كتابا اختارت له عنوان مثير جدا:
"In Search of the Phoenicians"
بحثا عن الفينيقيين"...
الباحثة تساءلت كما يتساءل العديد من التونسيين اليوم. عن ماهية الفينيقيين؟ وهل أن قرطاج فينيقية ؟
قبل نشر كتابها قامت هذه الباحثة بعدة بحوث وزارت أهم المناطق الأثرية وكانت رئيسة بعثة البحث في موقع "أوتيك" بجهة بنزرت التونسية.
بعد أبحاث ميدانية عميقة، تحقيقات موسّعة ومقارنات أخذت من وقتها الكثير، صدحت عالمة الآثار بما تعتبره من جهة حقيقة وما تعتبره من جهة أخرى وهم وأساطير...
عالمة الآثار قالت:
أن الفينيقيين ليسوا سوى شتات... نعم مجرد شتات أي أعراق مختلفة...
أن الفينيقيين ليسوا أمّة ولم يحدث في التاريخ ما يثبت أن هناك تجمّعا أو رابطة ثقافية أو اثنية اسمها الفينيقيين...
بأن الإغريق والرومان عندما تحدثوا عن الفينيقيين لم يذكروا بأنهم عرق أو جماعة اثنية بل مجرد تمايز ثقافي لا غير...
بأنه قبل قرطاج لم يوجد هناك أي دليل على وجود حضارة فينيقية وأن هناك مجموعة بشرية صغيرة هاجرت نحو عدة أماكن في المتوسط... لم يثبت أن لها قوة عسكرية... أو طموحات عسكرية... مجرّد تجار للوح الأرز الثمين...
بأن قرطاج هي المركز واللاعب الرئيس في ظهورها كإمبراطورية وكقوة إقليمية. بمعنى أن الفينيقيين ليسوا هم من أثّروا في قرطاج بل قرطاج هي من أثرت فيهم وفي المتوسط...
أن إظهار الفينيقية كعنصر جديد بدأ تحديدا بعد دمار قرطاج وأن الرومان هم من نفخ في الفينيقية مقابل الحط من قرطاج كنوع من إعدام لحضارة ولقوة الإمبراطورية القرطاجية.
باحثتنا العظيمة ذهبت بنا إلى أبعد من ذلك وقالت:
أن الآلاف من "اللقيات" التي وقع العثور عليها أثناء الحفريات تحوي نصوصا فينيقية لكن أيّ منها لا يحوي أثرا لوجود فينيقيين.
أن قرطاج كانت مستقلة تماما على من يمكن تسميتهم بتحفظ بالفينيقيين وأن ازدهار قرطاج، توسعها وقوتها كانت كلها تعود لعوامل محلية وأنه لا علاقة للفينيقيين بذلك.
عالمة الآثار تقول كذلك :
أنه يجب وقف استخدام الفنيقيين كنموذج ساهم في تأسيس أمم وقوميات... هذه مغالطة كبيرة للتاريخ وحط من أمم أخرى... وتقول بأن الفينيقية وكل ما كتب عنها كان مجرد خرافة لا غير... وأن الفينيقية صناعة حديثة لا أسس تاريخية لها.
بأنه مثل ما يبحث اليوم التونسيين عن أصولهم القرطاجية يبحث اللبنانيين عن ايجاد مفهوم جديد وهمي في الأصول الفينيقية وذكرت أن الزعيم اللبناني كمال جنبلاط حاول بناء لبنان جديد على فكرة القومية الفينيقية وقالت بأن ابنه وليد جنبلاط يرى أن فكرة الفينيقية أو الأمة الفينيقية فكرة تافهة وانعزالية...
أن قرطاج كانت أغنى مدن العالم. هذا الكلام ذكره المؤرخ الاغريقي Polybe أحد المؤرخين والشهود على تدمير قرطاج من طرف روما.
تتوسع باحثتنا البريطانية وتؤكد :
أن بشاعة تدمير قرطاج من طرف الرومان كان بسبب قوة قرطاج العظيمة ولهذا قام الرومان بتزوير التاريخ وحاولوا محو أي آثار أو أثر لقرطاج مقابل الحديث عن الفينيقيين وإظهارهم كقوة مشرقية والغاية من ذلك طمس قرطاج لمنع قيامها من جديد... لقد مثلت لهم كابوسا ورعبا منذ حاصرهم حنبعل لمدة 15 سنة وقولتهم الشهيرة "حنبعل على أبوابنا"...
عالمة الآثار تقول كذلك:
بأن الفينيقيين لم يحدث أن كانوا وحدة بشرية بل وحدات سكانية منقسمة، منفصلة ومتناثرة لهم ثقافات مختلفة وكثيرا ما كانت هذه الوحدات تتنازع في ما بينها ولم يثبت إطلاقا أن الفينيقيين كانوا يمثلون على الأقل وحدة سياسية.
كما تؤكد عالمة الآثار :
أن الآثار المكتوبة التي تركها ما يطلق عليهم احترازا بالفينيقيين ليس فيها أي إشارة إلى اسم أو صفة "فينيقي". بل كانوا يصفون أنفسهم وفق الانتماء إلى مدينة أو عائلة وبالتالي فالانتماء كان مرتبطا بالعائلة أو بالمدينة لا بالفينيقية، لهذا لم تظهر عبر التاريخ مثلا الامبراطورية الفينيقية أو الدولة الفينيقية الأم كما ظهرت في أمم أخرى... وتستدل الكاتبة على النزعة الانفصالية اللي تعيشها لبنان اليوم وهذا يزيد من دعم عدم وجود إثنية أو قومية جامعة وموحدة اسمها "الفينيقية"...
والآن نأتي إلى أخطر ما دوّنته عالمة الآثار وهو توصّلها إلى معرفة أن اسم "الفينيقيون" هو اختراع اغريقي بحت... ثم وقع اجترار ذلك الوصف في كتابات Hérodote وقام بتدويله ونشره الرومان... نوع من البروباغاندا الرومانية لطمس قوة قرطاج... كما شبهت الباحثة روما بالهمجية وقرطاج بالحضارة...
وتقول أن التونسيين اليوم جادّين في البحث عن هويتهم الأصلية في قرطاج والهدف من ذلك ليس فقط الاعتزاز بتاريخهم بل كذلك البحث عن التميّز عن الشعوب الأخرى...
ونبّهت الكاتبة في الأخير إلى أن العصبية القومية التي رأيناها لدى الإغريق أو الرومان هي من قام بتحريف التاريخ وخلقت قومية اسمها الفينيقية وأنه بصفة عامة الدولة القومية هي أكبر مشوّه للتاريخ.
كما ترى الباحثة أن الوضع السائد اليوم في لبنان أو ما يعرف باللبننة مرده نزعة استعمارية فرنسية ساهمت في خلق فكرة الأصل الفينيقي لفصل لبنان عن منطقته وتصويره على أساس أنه ذو أصول استثنائية غير مرتبطة بشعوب المشرق وأنهم الأرقى مقابل بقية شعوب المنطقة "المشرقيّين" المتخلفين وأعداء الحضارة...
اليوم، عالمة الآثار الانجليزية تدحض تماما القومية الفينيقية وتدحض ارتباط قرطاج بالفينيقيين في تطورها وقوتها وتقر بأن قرطاج ساهمت في تطورها وقوتها وتوسعها عناصر محلية...
تقول عالمة الآثار أن ما قامت بتدوينه في كتابها البحثي ليس اكتشافا جديدا بل سبقها في ذلك العديد من علماء الآثار وكبار الباحثين وعلى رأسهم Giuseppe Garbati و Helena Pastor...
اليوم، علينا بفسخ كل ما كتب في كتب التاريخ والمناهج المدرسية التي زرعنا فيها تاريخا غير تاريخنا وغرسنا فيها حضارة غير حضارتنا.
اليوم، علينا أن نعيد الاعتبار لتاريخ أجدادنا... الحياة لتاريخ قرطاج... ونؤسس لحقبة جديدة مفصلية وعهد جديد يبنى على الهوية القرطاجية كهوية تاريخية جامعة للتونسيين.. ساهمت في ثراءها ثقافات أخرى...
كتاب Josephine Crawley Quinn يجب قراءته من طرف كل تونسي وما على المؤرخين والباحثين وعلماء الآثار التونسيين المساعدة لتصحيح التاريخ ومناهجه والقيام بحفريات في قرطاج وسلقطة ولمطة وفي بعض المناطق الداخلية... فالظاهر أن ما بناه الرومان كان على أنقاض ما بناه القرطاجيّون...
مثلما لاحظتم، عليسة أسطورة وحكاية جلد الثور مسخرة في حق قرطاج وعظمتها... والفينيقية بذاتها وهم وخديعة كبرى...
هذه المقالة الخاطفة ليست سوى إشارة إلى أشياء في غير موضعها وما على المختصين إلا البحث والتمحيص.