الأمازيغ عبر التاريخ : نظرة موجزة في الأصول والهوية 1
تثير مسألة الهوية في أفريقيا الشمالية (Berbérie) إشكالا عميقا، فقد تمّ التعامل مع التاريخ في هذه المنطقة بطريقة انتقائية [التركيز على فترات وحذف أخرى] وكان يفترض أن تتوجّه البحوث التاريخية والعلوم المتّصلة بالتاريخ إلى هذا المجال، عوض تكريس حالة الاستلاب(Aliénation) التي جعلت بعض الشمال أفريقيين يتنكّرون لذاتهم، وينافحون من أجل انتماءات مصطنعة. لعلّ البعض معذور في هذا السياق، بسبب غياب شبه تامّ للبحوث والدراسات في هذا الموضوع، والأخطر هو تحرّك الآلة الإيديولوجية بالمسخ والترهيب وجميع التهويمات (Fantaisies)، فهل يمكن أن تكون هوية شعب مصدر رعب له بهذه الصيغة المفتعلة وإذا كانت الهوية في كلّ بلاد الدنيا عامل استقرار وتضامن واتّحاد فكيف تكون في شمال أفريقيا عامل قلق واضطراب؟.
يمتلئ التاريخ المدرسي والجامعي بالكثير من المغالطات، بعضها مقصود وبعضها ساذج وسطحي، مثل تقديم الشعب الأمازيغي المستعرب على أنّه شعب عربي[بالمعنى العرقي] مستوطن في هذه البلاد، وبذلك تحذف أهمّ حلقات التاريخ الأمازيغي وهي حلقة الاستعراب أي تحوّل الأمازيغ إلى التعبير بعربية متميّزة، هي التي أسمّيها : العربية كما تكلّمها الأمازيغ، وهذه هي العربية الشعبية التي نتكلّمها يوميا في مدننا وأريافنا، بلكنة أمازيغية لا تخفى على المتخصّصين في الألسنية، وقد انجرّ عن هذه المغالطة توهّم وجود شعبين في أفريقيا الشمالية، ليسهل فيما بعد إذكاء روح العداوة والفتنة بينهما. إذن، لقد وقعت مغالطة كبيرة عندما توهّم بعض المستعربين أنفسهم عربا (بالمعنى العرقي)، وسلك البعض منهم مسلك التناقض إزاء إخوانهم من المحافظين بإيحاء من بعض نشطاء السياسة البائسين، الذين يقفون خلف مثل هذه الأعمال المشبوهة، والواقع أنّ الشعب واحد في أصوله وتقاليده وعاداته وإيجابياته وحتّى في سلبياته، أمّا العربية فهي لغة رسّخها الإسلام، وتعلّق بها الأمازيغ مستعربون ومحافظون على السواء، ولعلّ هذه الدراسة الموجزة تفيد في إلقاء الضوء على هذا الموضوع الذي لا نبالغ إن اعتبرناه موضوع الساعة في عموم الشمال الأفريقي.
مدخل: تعود الإشارات الأولى إلى السكّان الذين يُسمَّوْن منذ الغزوالعربي بربر(1)، إلى العهود الفرعونية، منذ الإمبراطورية القديمة، فقد كان المصريون على علاقات مباشرة، أحيانا حربية وأحيانا أخرى سلمية، بجيرانهم من جهة الغرب؛ أولئك الليبو (LEBOU) أو الليبيون، التحنو أو التمحو، أو المشوَش (Tehenu, Temehu, Mashwash) . كان أولئك الليبيون(2) متفرّعين إلى عدد هامّ من القبائل،وتذكر النصوص الفرعونية عنهم أحداثا تاريخية هامّة وعلى الخصوص محاولة غزوهم الدلتا بقيادة مرياي (Meryey) في السنة الخامسة من حكم مينيبتاح (Mineptah) في 1227 ق.م.وقد حملت إلينا النقوش التصويرية الهيروغليفية أسماء شخصيات ليبية ، ومعلومات دقيقة ذات أهمّية تاريخية وإثنوغرافية فضلا عن ملامح وأدوات وملابس وأسلحة أولئك الليبو ، نقلت كلّ ذلك إلينا بدقّة الصور الشمسية اليوم بما في ذلك الوشم . لقد مرّت آلاف السنين، واجه فيها الشعب الأمازيغي تقلّبات التاريخ المتميّز لاف، وهم مساوون تقريبا لسكّان المزاب الذين يتمركزون في الصحراء الشمالية في إقليم أقلّ ألف مرّة من الإقليم التارقي، أمّا الكتلة القبايلية فهي آهلة 10 مرّات أكثر من المنطقة الأوراسية الأوسع منها، حيث يتكلّم السكّان هناك لهجات أمازيغية متعدّدة، وهذه استنتاجات عميقة خرج بها باحثون في الألسنية امتدّت على عقود وأخذت منهم جهدا ووقتا كبيرين(4).
هوامش وتعاليق
(1) لم نجد في كلّ المصادر القديمة اسم بربر كاسم إثني لأهل شمال أفريقيا،وقد اعتبر ابن خلدون هذه الكلمة عربية مصدرها بربرة أي الكلام غير المفهوم،وهي بذلك لا علاقة لها بالكلمة الإغريقية Barbaroi،والحال أنّ التصنيف اللغوي له وجود عند العرب فهم الذين سمّوا الفُرس عجما أي الذين لا يُفهَم كلامهم كالعجماوات (2) الليبيون في هذه الدراسة هم الأمازيغ وهي التسمية التي نجدها في المصادر الكلاسيكية الإغريقية. (3) وهم الذين تشير إليهم بعض الدراسات باسم البرابر (Braber) بسكون الباء الأولى ، ينتشرون ما بين واحات تافيلالت وسفوح الأطلس الكبير (4) كان المستشرقون الأولون الذين رافقوا الحملة الفرنسية على الجزائر أو واكبوا بدايات الاحتلال مستعربين في الغالب وقد وجد هؤلاء أنفسهم أمام وضع أنثروبولوجي ولغوي على غير ما كانوا يتوهّمون وهذا الوضع هو الهوية الحقيقية للشمال الأفريقي الذي اعتقدوا في البداية أنّه لا يختلف عن بلدان الشرق الأدنى ولا ننسى هنا أنّ أول وثيقة فرنسية باللغة العربية وهي المنشور الدعائي الذي وزّع عشية الاحتلال كتب بلهجة مشرقية، هذا ما دفع روّاد الاستشراق إلى العناية بلهجات اللغة الأمازيغية فظهرت في هذا المجال دراسات هنري باسي (1892-1926) Henri Basset ثمّ أندري باسي (1895-1956) وهما ولدا روني باسي (1855-1924) يضاف إليهما الأخوان مارسي : وليام (1872-1956) و جورج (1876-1962) ، وتبعهم آخرون، ولكن كلّ هؤلاء لم يخرجوا التراث الأمازيغي بل وحتّى العربي عموما من الإطار الفولكلوري بسبب نزعتهم الاستعمارية.