آليات الاستعراب


الأمازيغ عبر التاريخ : نظرة موجزة في الأصول والهوية 4  1128




إنّ العامل الثاني الذي أدّى إلى انقلاب جذري في البنية السوسيولوجية لأفريقيا الشمالية هو الغزو العربي، فقد يسّر ضعف البيزنطيين -الذين دمّروا مملكة الوندال- ذلك الفتح، غير أنّ أفريقيا البيزنطية لم تكن مثل أفريقيا الرومانية، فقد وجد البيزنطيون بلادا كانت مسرحا للفوضى على امتداد قرنين، واجتمعت عليها عوامل عديدة دمّرتها اقتصاديا واجتماعيا منذ نزول الوندال بها (429) ولم تكن مملكة الوندال تتجاوز تونس الحالية وجزءاً صغيرا من شرق الجزائر الحالية، يحدّه غربا وجنوبا إقليم قسنطينة، والأوراس الذي استقلّ تحت حكم قبلي محلّي. منذ نهاية حكم تراساموند (Thrasamond) [حوالي 520]، دخل رحّل زناتة (Les Zénètes Nomades) إلى المزاق (Byzacene) تحت قيادة ملكهم كاباوون (Cabaon) ومنذئذ سيفرض هؤلاء على الوندال ثمّ البيزنطيين من بعدهم حالة الدفاع ضدّ هجومات أولئك الزناتيين ويروي لنا آخر كاتب أفريقي باللاتينية وهو كوريبوس (Corippus) في ديوانه : JOHANNIDE المعارك التي كان على رأسها القائد البيزنطي حنّا تروغليتا( Jean Troglita ) ضدّ تلك القبائل الزناتية الشرسة، الحليفة للموريين في الداخل، فلقد كان بربر لواتة هؤلاء (Laguantan = Levathae = Louata ) على وثنيتهم يعبدون إلها في شكل ثور يسمّى قورزيل (Gurzil) وإله حربي هو ( Sinifère)، وكانت جمالهم تنفّر خيول الفرسان البيزنطيين، وكانوا يحاربون فوق جمالهم ومعهم نساؤهم وأطفالهم خلال تنقّلاتهم في السلم والحرب . كان باقي أفريقيا الذي يسمّيه كورتوا (C. Courtois) أفريقيا المنسية، يتمثّل في الموريتانيات الثلاث –التي كانت على ما يبدو- تعيش في ظلّ حكم قبلي،ولا نعرف عنها خلال القرنين الأخيرين إلاّ بعض أسماء القادة، وبعض الأوابد الجنائزية [الجدّاراتDjeddars قرب فرندة، ضريح الغور (Gour)قرب مكناس] ونقوش ماستياس (Masties) في أرّيس الذي أعلن نفسه ملكا، وماسونا (Masuna) في آلطاوة (Altava) الذي أعلن نفسه أيضا ملكا على الشعوب المورية والرومانية ومن خلال بحثنا في ثنايا النصوص التي تركها مؤرّخون مثل بروكوب(Procope) وفي بعض النقوش نستخلص بأنّ الاستقرار لم يكن متوفّرا حتّى في تلك المقاطعات ” المحرّرة ” . كانت النزاعات الدينية سببا آخر للفوضى، ولم تكن أقلّ شراسة من مثيلاتها في الشرق، فقد قاومت الكنيسة النحل المنشقّة عنها مثل الدوناتية، فأضعفها ذلك، وكان الاضطهاد الديني فظيعا خلال الحكم الوندالي ولا يعادله إلاّ اضطهاد ديوكليتيانوس للمسيحيين الأوّلين لأنّ الوندال جعلوا مذهبهم (الأريوسي) مذهبا رسميا،وإذا كانت الأرثوذكسية قد استرجعت بعض الطمأنينة منذ عهد هلديريك (Childéric) فإنّ الكنيسة الأفريقية كانت تعاني الضعف كما يبيّن مجمع 525، بعد وفاة القدّيس أوغسطين، فقد اختفت عدّة أبرشيات، وأدت الخصوصيات الإقليمية إلى تكريس الانقسام، في غياب الامبراطورية(23). كان “الاسترداد” البيزنطي قد جلب الخراب إلى المنطقة ، فقد أدخل إلى أفريقيا النزاع حول طبيعة المسيح، ومنذ يوستينيانوس تبدأ الفترة البيزنطية في أفريقيا،وهو الامبراطور الذي حاول تهدئة الأوضاع وإنهاء النزاع والجدل الديني، فحوكمت الطبيعة الواحدة واعتبرت هرطقة جديدة، وفي الوقت الذي بدأ فيه الفتح العربي يبدأ نزاع جديد في عهد الامبراطور كونسطان الثاني (Constant II) وهو النزاع الذي مزّق أفريقيا المسيحية (648) وفي نفس الوقت نمت التعقّدات السوسيولوجية وبالتالي العرقية ، فهناك الأفاريق أو الأمازيغ المترومنون في المدن والأرياف وحتّى في عمق البلاد أحيانا، كالمجتمع الريفي الذي تعرّفنا عليه بفضل ألواح ألبيرتيني (Tablettes d Albertini) وهو أرشيف توثيقي منقوش على ألواح من الأرز عثر عليه بجهة تبسّة،وهناك المور(Maures) غير المترومنين المنحدرين من قدامى البربر (Paléoberbères) يضاف إليهم بدو زناتة (Zénètes) ولواتة وأشتات الوندال والجهاز العسكري والإداري البيزنطي وهو من الشرقيين الأغارقة والسوريين ، هذا المجتمع أصبح تدريجيا منقسما إلى إمارات محدودة في بلد غير منظّم وممزّق ومفقّر ، وفي هذه الظروف ظهر الفاتحون العرب. نعرف أنّ الفتح العربي لم يكن محاولة استعمارية أي لم يكن استيطانا بل كان في شكل سلسلة عمليات عسكرية لا غير، وفيها اختلط الميل إلى الحصول على الغنائم مع روح تبشيرية، كما أنّها لم تكن نتيجة بطولة مسحت كلّ من يعترضها بحدّ السيف كما تصوّرها الكتب المدرسية. توفّي النبي (ص) في 632، وبعد عشر سنوات كانت جيوش الخليفة تخضع مصر وقورينائية (انطابلس تحريف لبنطابوليس) وفي 643 دخلت تلك الجيوش إقليم طرابلس يقودها عمرو بن العاص، وبعده قام ابن سعد (ابن إبي سرح) بالإغارة على جنوبي إفريقيّة(تحريف عربي لـ:أفريكا) في وقت كانت فيه علاقة البيزنطيين بالأمازيغ في اضطراب، وكانت تلك الغارة تستهدف ثروة البلاد وتستفيد من ضعفها، ويصف المؤرّخ النويري كيف أنّ عربيا بسيطا ومسلّحا بسلاح بسيط من قبائل بدوية ينطلق من المدينة في أكتوبر647 في فيلق لا يتجاوز5000 رجل، أضاف إليه ابن سعد حاكم مصر 15000 فأصبح معه 20000 وهو عدد الجيش الإسلامي الذي سيحارب البيزنطيين في معركة سبيطلة (Suffetula)حيث قتل القائد البيزنطي غريغوار ونهبت البلاد،وأخذ الفاتحون غرامة ثقيلة من المدن الأفريقية البيزنطية،وانسحبوا راضين عن النتيجة التي حقّقوها(648)إذ لم يكن للعملية هدف غير الذي حقّقته ودامت14 شهرا. إنّ الفتح الحقيقي حدث في عهد معاوية الذي عيّن على رأس جيش إفريقيّة معاوية بن حديّج في 666 وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ أسّس عقبة القيروان، أوّل مدينة إسلامية في الشمال الأفريقي وحسب النصوص العربية على اختلافها وتعدّدها فإنّ عقبة خلال ولايته الثانية ضاعف الهجومات غربا واحتلّ لمباز Labaesis (تازولت) التي كانت في وقت مضى قاعدة الفيلق الثالث وعاصمة نوميديا العسكرية الرومانية، ثمّ قصد بعد ذلك تاهرت قرب تيارت الحالية ، ثمّ واصل إلى طنجة حيث وصف له يوليان بربر السوس (الجنوب المغربي) “بأنّهم شعب بلا دين يأكلون الجثث ويشربون دماء حيواناتهم ويعيشون مثل الحيوانات لأنّهم لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه”، فقصدهم عقبة وسحقهم وسبى نساءهم وكنّ أجمل نساء الأرض، ثمّ دخل البحر بحصانه قائلا كلمته التي ذكرتها النصوص العربية: ياربّ ، لو أنّي أعرف أنّ وراء هذا البحر … إلخ. إنّ هذه النصوص لا تخلو من جانب أسطوري، وتضاف لها نصوص أخرى تجعل عقبة وصل إلى الفزّان قبل الذهاب إلى المغرب، وفي مسيرته إلى المغرب أخذ معه زعيم قبيلة أوربة البرنسية وهو كسيلة أسيرا، وأساء معاملته ممّا جعله وهو حديث عهد بالإسلام يثأر لكرامته ويسحق عقبة ومن معه خلال عودة هذا الأخير، جنوبي أوراس، ومن هناك يزحف كسيلة إلى القيروان ويحتلّها فينسحب من بقي فيها من جند الفاتحين إلى قورينائية (برقة)، وتتوالى الحملات العربية ويقتل كسيلة في إحداها،وفتح المسلمون قرطاج(693) وتأسّست تونس في 698 ولكن المقاومة لم تتوقّف،فقد قادتها امرأة من قبيلة جراوة (Iguerrouyen)( ) من المجموعة الزناتية المتمركزة في أوراس تسمّى ديهيا، اشتهرت بالاسم الذي روّجت له المصادر العربية وهو الكاهنة، وقتلت وهي تقاوم (700) وكان ذلك آخر مقاومة أمازيغية مسلّحة ضدّ الفاتحين، والواقع أنّه في 711 عندما عبر طارق المضيق الذي عرف باسمه لفتح اسبانيا، كان جيشه مكوّنا في الأساس من الأمازيغ (المور( ) Maures)، والخلاصة أنّ الفاتحين كانوا قلّة ولكن لم يجدوا أمامهم تعبئة دينية مناقضة تقاوم اكتساحهم بل وجدوا مجرّد “معارضين” تباعا : البطريق البيزنطي ثمّ القادة الأمازيغ ،إمارات وممالك ، قبائل ثمّ تحالفات قبائل أمّا العنصر الأمازيغي المترومن (الأفاريق) الذي كان داخل المدن الكثيرة، فلم تكن له على ما يبدو الفرصة ولا الإرادة في مقاومة الأسياد الجدد المبعوثين في مهمّة دينية ، ولم تكن الغرامة التي فرضها العرب عليهم (الخراج) أثقل ممّا كانوا يؤدونه للإدارة البيزنطية ، وقد بدت في شكل مساهمة في نفقات الحرب أكثر من كونها ضريبة قارّة ، أمّا عمليات السلب وجمع الغنائم التي قام بها فرسان الفتح فإنّها لم تكن لا أكثر ولا أقلّ احتمالا من تلك التي ظلّ المور(Maures) يقومون بدفعها على امتداد قرون للرومان والوندال والبيزنطيين ، وفتحت أفريقيا إذن ، ولكن كيف أسلمت وكيف استعربت؟. لقد ذكرنا بأنّه ينبغي التمييز بين نشر الإسلام وفرض العروبة، والواقع أنّ الأوّل كان على وتيرة أسرع من الثاني ، فقد أصبحت بلاد البربر مسلمة في أقلّ من قرنين (السابع والثامن) في حين أنّها لم تستعرب نهائيا إلى اليوم على امتداد 14 قرنا ، بعد القرن الأوّل الذي شهد حملات الفتح العربي. لقد كان نشر الإسلام هو التعريب الأوّل وكان ذلك في المدن ، فقد تمركز دين الفاتحين في المدن القديمة التي أخضعها المحاربون الموفَدون، ثمّ بعد ذلك الفقهاء الزائرون الذين تصدّوا لبثّ وشرح تعاليم الدين الجديد، وقد ساهم تأسيس المدن الجديدة لتكون مراكز دينية حقيقية مثل القيروان (670) وفاس (809) في ترسيم الإسلام في طرفي بلاد البربر . إنّ تحوّل أمازيغ الأرياف من زناتيين وصنهاجيين وكتاميين… إلى الإسلام، يكتنفه الغموض، ولعلّ من الأكيد أنّهم كانوا مستعدّين لتقبّل التوحيد المطلق في الإسلام بسبب الجوّ الذي تكون قد هيّاته الديانات السابقة وعلى الخصوص المذهب الدوناتي الذي لا تشير المصادر إليه (24)، ولذلك يكون الإسلام قد بدا للأفريقيين كما بدا للمسيحيين الشرقيين في البداية في شكل أحد المذاهب المسيحية المنشقّة(25) أكثر من كونه دينا جديدا، ويفسّر ذلك بتعدّد الارتداد عنه الذي تحدّثت عنه المصادر العربية، ودون ريب فإنّ ذلك كان بسبب التقلّبات السياسية أكثر من أيّ شيء آخر، ولعلّ اعتناق رؤساء الاتحادات القبلية للدين الجديد في البدايات لأسباب سياسية في كثير من الأحيان أكثر من الاقتناع، أدّى إلى انتشاره بين العامّة، وكان تجنيد هذه العامّة في أعمال الفتوح بقيادة زعمائها القبليين أحد أقوى الأسباب في ترسيخ العقيدة الجديدة ، ولعلّ ممارسة أخذ الرهائن من بين أبناء رؤساء القبائل أحد الأسباب الأخرى ، فهؤلاء الرهائن ينشأون -في بيئة جديدة- على الإسلام واللغة العربية، وعند عودتهم إلى ذويهم يصبحون نموذجا بما تمنحه لهم ثقافة “أعلى” من بريق . كان الدعاة الموفَدون من أبناء المذاهب المضطهدة في الشرق إلى الشمال الأفريقي، لأنّها كانت خطرا على المذاهب السنّية في القرون الأولى للإسلام، قد أسهموا في نشر الإسلام في صفوف القبائل خاصّة القبائل الزناتية، و”عزلوا” بعض الأمازيغ عن باقي المسلمين،وإذا كان المذهبان الصفري والإباضي قد تزعّما النزعة الاستقلالية للمسلمين الأمازيغ وخاصّة زناتة، فإنّ أتباعهما ظلّوا على الدوام قوّة دينية صغيرة ولكنّها نموذجية وصارمة في الإيمان وفي الأخلاق(26). وفد على الشمال الأفريقي أيضا دعاة كبار لنشر المذهب الشيعي(27)،فقد كان الفقهاء وطلبة الدراسات الدينية يسافرون إلى أقاصي الأرض يتعلّمون ويلتقون كبار الفقهاء ويتكفّل بهم إلى أن يصلوا بدورهم أعلى مراتب الفقه، وقد يؤسّسون مذاهب خاصّة بهم، مثل ابن تومرت – مؤسّس حركة الموحّدين (1120) التي كانت قاعدة فكرية لإمبراطورية – وغيره.




الأمازيغ عبر التاريخ : نظرة موجزة في الأصول والهوية 4  633


هوامش وتعليقات:
(23) وأكثر من ذلك قدّمت أفريقيا للثقافة اللاتينية في العصرين الوثني والمسيحي أكبر المبدعين وأرقى الأعمال الأدبية والفكرية الخالدة، وظلّت الملاذ الأخير للثقافة اللاتينية منذ أبوليوس إلى كوريبوس وفيكتور دي فيتا. 
(24) توجد قرية شمال شرقي مدينة باتنة باسم جرمة كما أنّ إغرم في الأمازيغية تعني قرية. 
(25) – Ch. Courtois, « De Rome à l’islam », Revue africaine, t. 86, 1942, pp. 24-55 (26)
اختفى هذا الاسم ولا ريب أنّ ثورة أبي يزيد التي تجنّد فيها عدد كبير من الجراويين قد شتّتتهم ليتوزّع عقبهم في كلّ أفريقيا الشمالية، مع أنّ بعض العائلات لا تزال تحتفظ بالانتماء إليها من خلال ألقابها مثل ألقاب قروي وجروي (Gueroui et djeroui)…الخ. 
(27) المور هو الاسم الذي ظلّ يُطلَق على الأندلسيين في الغرب الأوربي وفي اللغة الإسبانية هو اسم علم لكلّ المسلمين ، لأنّ العنصر العربي لم يكن إلا قلّة قليلة ولكن كان قويا بنفوذه وبالمكانة التي أنزله فيها المسلمون وهم الأمازيغ في معظمهم، ولمّا أقل نجم الإسلام في الأندلس ونزح منهم من نزح إلى موطن أسلافه عاد وهو مستعرب تماما وبذلك تلقّت حواضر الشمال الأفريقي هؤلاء النازحين الذين سيدعّمون استعرابها.