من الولايات المتحدة الأمريكية، مونية مناور تكتب: أنا لستُ بربريّة، ولستُ شْليحة… أنا أمازيغيّة!
أثناء سنوات الاعدادية والثّانويّة في المغرب، لم أقرأ أي قصص لمؤلفين تمّ تمثيلهم كأمازيغ. قرأنا العديد من القصص لمؤلفّين عرب، فرنسيين، إنجليز، وأمريكيين. لكن المؤلفين الأمازيغ أُبعدوا عن المقرّر.
في دروس التاريخ، لم نناقش بالتفصيل من هم الأمازيغ وإنجازاتهم وقصصهم وهويّاتهم. بدلاً من ذلك، كنت أسمع فقط عن الأمازيغ عندما يكون هناك إعلان عن مهرجان الفولكلور الأمازيغي.
هذه الفلكرة لا تصلح في تصوير الأمازيغ. قيل لنا في دروس التاريخ إن “البربر” هم أول سكان المغرب، وهذه هي العلاقة البعيدة التي ربطتني آنذاك بشعبي الأمازيغي.
“أنا لست بربريّة، أنا أمازيغيّة”.
هذا ما يجب أن أقوله لعدّة أشخاص في الغرب عندما أشير إلى قبائل سكان شمال إفريقيا الأصليين. أجد دافعا للقيام بذلك باعتبار أنّ معظم الناس ليسوا على دراية بمصطلح “الأمازيغ”؛ خاصة في الولايات المتحدة حيث أقيم. كلمة “البربر” هي الأكثر شهرة، وهي تعني “الأشخاص ذوي اللسان الغريب”. عندما أقول إنني أمازيغيّة في سياقات غَربيَّة مختلفة، غالبًا ما يتمّ تصحيحي إلى: “أنتِ تقصدين البَربر”.
هذا التّصحيح الخاطئ هو ما تفعله المعرفة الغربية لنا نحن الشعوب الأصلية في القارّة الأفريقية: تُسكِت حقائقنا، وهويّاتنا، وقصصنا. هذه المعرفة الاستعماريّة تختزل هوياتنا إلى “هذا ما يدعونا الغرب به”. عندما نقرأ بعض النصوص الأنثروبولوجية في الغرب عن الأمازيغ أو غير الأمازيغ على حد سواء، يصبح هذا النّوع من المعرفة “صالحا”، “بلا جدال”، “صحيحا”.
هذه المعرفة الغربية تقلّص الأمازيغ إلى أشخاص “ذوي لهجة غريبة”. إنها تخفي الوكالة العرقية والثقافية لهذه الشّعوب؛ وبالتّالي، يختصر مصطلح “البربر” الشعوب الأمازيغيّة الى كائنات أجنبيّة، ممّا يُصمِّت الهوية الأمازيغية. هذا التطبيع مع المفردات القَدحيّة ليس جديداً، بصفتي امرأة أمازيغية من شمال إفريقيا، عملت منذ فترة طويلة على جعل هويتي الأمازيغية محترمة في المجتمع، بدءًا من الوقت الذي عشت فيه في المغرب.
“أنا لست شليحة، أنا أمازيغيّة”.
أنا لست شليحة، أنا أمازيغيّة. هذا ما لم أستطع قوله لشابة قبل حوالي ثلاثة عشر عامًا في المغرب. كنت أزور زوجين شابين تم تعيينهما كأستاذين للتّربية البدنيّة في مدرسة ثانوية بِمدينة تِنغير. في تلك المدينة الصغيرة، اللّغة الأمازيغية مرئية بشكل أكبر. مرئيّة لأن اللغة الأمازيغية لا تُسمع عادةً في المدن الكبرى في المغرب. يسمع المرء الدّارجة، اللغة المتنوعة التي بنيتها الأصليّة أمازيغية وبعض مفرداتها عربية.
كان الزوجان يعتبران نفسيهما ‘كازاوا’، ينتميان إلى مدينة الدار البيضاء “العالمية” حيث يسعى الكثير من الشباب أن يكونوا غربيّين أو مرتبطين بِالغرب. الدّار البيضاء هي مدينة يزيد عدد سكانها عن ثلاثة ملايين نسمة وحيث تتربع مكاتب الشركات الأجنبية. هذا يعني أن العديد من الشّباب المغربي يتحدث باللغة الفرنسية، مما يجعل هذه اللغة شرطًا إلزاميًا للعمل في هذه الشركات.
فيلم كازابلانكا الأمريكيّ ليس فيلمًا رومانسيًا عن زوجين وقعا في الحب في أحد المقاهي أثناء الاستعمار الفرنسي للمغرب حيث تُصوَّر المدينة بشكل رومانتيكيّ يوتوبيّ. بل الدّار البيضاء مدينة يسعى فيها الكثير من الناس لكسب عيشهم باعتبارها من أَكبر وأَغلى المدن في المغرب. ومع ذلك، على الرغم من أنّ الدار البيضاء غالبًا ما تمثل صراعًا ماديّا ومساحة استعمارية لغوية جديدة، إلا أنها غالبًا ما تفترض جوًا من السُّموّ، بمعنى أن أولئك الذين يعيشون في الدار البيضاء أفضل بطريقة ما من غيرهم في المغرب.
أتذكر بوضوح الوقت الذي زرت فيه هذين الزوجين منذ حوالي ثلاثة عشر عامًا في مدينة تنغير. الزوجان رحّبا بي في بيتهما وكانا متشوقين لِيُرياني المناظر الطبيعية الجميلة في المدينة. مع ذلك، لم يسعني إلا أن ألاحظ الطريقة التي أشار بها هذان الزوجان إلى الأمازيغ في المدينة. كانوا يلفظون تعليقات مثل: “التعامل مع الشلوح صعب للغاية. إنهم أناس عنيدون جدا”. (شلوح هي جمع شلح). الكلمة العربية في المذكّر “شلح”، “شلحة” في المؤنث، “شلوح” في الجمع، تأتي من فعل شَلَح. أحد معاني الكلمة يشير إلى فعل التّعرّي من الملابس تماماً. في صيغة المبني للمجهول، “شُلِّح ” أيْ أنّ الشّخص قد حُرم من كل ما يمتلك بسبب مواجهة مع لصوص أو قطّاع الطّرق.
غالبًا ما كان الزوجان يضحكان عندما كانا ينطقان بعبارة: “من الصعب جدًا العمل مع الشلوح”. “شلوح”: أي من خلعوا ثيابهم بأنفسهم. في هذه الحالة، يتم تصوير الأمازيغ على أنهم “أقل من”، و “لا يتمتعون بما يكفي من اللياقة والأدب”. الضحك المصاحب بلفظ العبارة جعل الزوجين ينظران بصفة دونيّة لسكان المدينة الأصليين. لقد خلقا هذه المسافة بينهم وبين المدينة التي كانت حاضرة بدون اعتذار.
في إحدى الأمسيات في منزل الزوجين، بينما كنا نستعد للخروج لتناول العشاء، ارتديت مجوهراتي الأمازيغيّة التي أهدتني إيّاها أمّي. نظرت الزوجة إليّ وقالت: “مونية، الشليحة” (مونية، الطفلة البربريّة الصغيرة؟). لم أعرف كيف أجيب على تعليق مماثل. أتذكّر أن مشاعري حينذاك لم تكن إيجابية. أدّى تصغير كلمة شلحة إلى شليحة إلى تفاقم الأمر، الشليحة: شيء أصغر من ناحية الكمية. وهكذا، فإن شليحة، بالنسبة لي ، عبارة تحمل في طَيّاتها دلالة مُهينة و قَدحيّة، و ليست دلالة للمجاملة أو التّحبيب.
كنت أنا: الأخرى، الشّليحة. وترجمت العبارة إليّ على أنها “فتاة الريف الأمازيغية الصغيرة غير المتحضرة” أو “الفتاة التي مهما فعلت، تبقى دائمًا صغيرة الشأن”. تلك الكلمة التي نطقت بها مضيفتي أزعجتني لسنوات. لم أستطع شرح السبب حتّى قررّت الكتابة عن التجربة. أزعجتني العبارة لأن نبرتها لم تحمل مجاملة صادقة بل كانت عبارة متعالية. كنت أقول في ذهني: هذا الشخص يعيش وسط الأمازيغ، ومع ذلك فهو مُشوَّش بتعال وهميّ يُجسّده من خلال لغته.
وجد مصطلح “شلوح” طريقه إلى شمال إفريقيا عندما جاء العرب للاستقرار في المنطقة في القرنين السابع والثامن. كان الأمازيغ قد سُلبوا من أراضيهم ولغاتهم. بعبارة أخرى، لا يمكنني تصور أن كلمة “شلوح” تُعطى لأولئك الذين تم غزو أرضهم بينما غزاهم الآخرون، وخلعوا ملابسهم عَن هُوّياتهم. عندما استخدمت المرأة تلك الكلمة، “شليحة”، لم يسعني إلا الشعور أنّني عُريتُّ من هويّتي، الفتاة تلك التّي تتحدث بلسان غريب.
لكنني لم أستطع التعبير عن هذه المشاعر حينها. كنت أعلم أن تلك العبارة القدحية كان من شأنها أن تُكْسر افتخاري بِأمازيغيّتي، لكنني وقفت هناك، بلا كلام، بثبات شديد، مليئة بالمشاعر المتضاربة، ومع ذلك، بطريقة ما، بقي جسمي مبنّجا، عاجزا عن الحركة. كضيفة في منزل الزّوجين، لجأت إلى الصمت، وشعرت بوحدة شديدة عندما خرجنا لتناول العشاء. كنت في عالم مختلف عن عالمهم. كنت أصرخ وأبكي في باطني. كيف لشعبي الأمازيغي أن يعتبر ككمشة غرباء وشلوح في موطنهم؟ كيف تمكنت عبارة صغيرة مماثلة أن تخلق هذه العاصفة بداخلي؟
اللغة سلاح قويّ. غالبا ما يتم نطق كلمة واحدة ويتزايد استخدامها دون التشكيك في التأثير الذي يمكن أن تحدثه عند الأشخاص الآخرين، لتصبح بالتّالي طبيعية تدريجياً. لم أتحدث مع الزّوجين بعد زيارتي ولم يسألا أبدًا عن السبب. ومع ذلك، كنت أتمنى لو أخبرتهما بأسباب فشل صداقتنا. منعني شيء ما بداخلي من الخوض في ذلك الحوار. كنت بحاجة لحماية نفسي. اخترتُ أن أبتعد ولست نادمة على ذلك.
إن كلمة “شليحة” إهانة عنصرية قوية تشبه كلمة “البربر”، حيث تمت صياغتها أيضًا للإشارة إلى شعب ذو لسان غريب، شعب يخرج عن “المعتاد” .
لم يصغ الأمازيغ هذه العبارة بأنفسهم. تم استخدام المصطلح تاريخيا من قبل المستوطنين الأوروبيين الأجانب الذّين قدموا إلى شمال إفريقيا من دون أيّ دعوة من السكان الأصليين. للأسف، إلى يومنا هذا، لا يزال مصطلح “البربر” مستعملا كتابة ولفظا. الأكثر إحباطًا هو أن هذا المصطلح يستخدم في الأوساط الأكاديمية ليس فقط من قبل علماء غربيين بل من طرف علماء أمازيغ على حدّ سواء. لا تستخدم كلمة الأمازيغ بشكل كافٍ في الكتابة الأكاديمية. غالبًا ما لا تتعرف محركات البحث الإلكترونية الإنجليزية على الكلمة التي تعني الأشخاص الأحرار في لغتي الأصلية. تهيمن كلمة “البربر” على الخطاب اللغوي للأسف.
أنا، الأمازيغية، أرفض أن أسمّى بما هو ليس هويّتي. في الماضي، لم أتحدَّ كلمة “البربر” كثيرا لأنني كنت لا أزال أحاول فهم آليات استعمار اللغة. أما الآن، فأنا أرفض أن يقال لي: “أنت بربريّة” و “أنت حساسة للغاية”. أرفض أن يقال لي: “إنه فقط ما يعرفه الناس “تاريخيًا” عن المغرب”.
لا يزال العديد من السكان الأصليين في الولايات المتحدة حيث أعيش يكافحون من أجل العدالة الاجتماعية بسبب الطريقة التي يُنظر إليهم بها، ويجسّدون بها في الأعمال الأدبيّة ووسائل الإعلام. هناك لغة استعمار وهيمنة عالقة يجب أن تغادر الآن… وبصفتي امرأة أمازيغية من السكان الأصليين، سأستمر في المقاومة اللغويّة ضدّ هذا النّوع من النّمطيّة.
سأستمر في مقاومة استعمار اللغة هذا: هذا التطبيع مع الافتراءات اللغوية عند الإشارة إلى شعبي أو أي من الشعوب الأصلية في العالم. بصفتي فاعلة في مجتمع البحث والتّعليم والمعرفة، فإن أداتي هي قلمي. تمامًا مثل كلمة “شليحة” التي استُخدمت لتنميط أمازيغيّتي، فإن كلمة “البربر” تجعل الأمازيغ كائنات بعيدة يحدّدها ماض بعيد، ماض يرويه الآخرون، ماض لا يكون فيه تاريخهم في مقدمة المناهج الدراسية.
أثناء سنوات الزراسة الإعدادية والثّانويّة في المغرب، لم أقرأ أي قصص لمؤلفين تمّ تمثيلهم كأمازيغ. قرأنا العديد من القصص لمؤلفّين عرب، فرنسيين، إنجليز، وأمريكيين. لكن المؤلفين الأمازيغ أُبعدوا عن المقرّر. في دروس التاريخ، لم نناقش بالتفصيل من هم الأمازيغ وإنجازاتهم وقصصهم وهويّاتهم. بدلاً من ذلك، كنت أسمع فقط عن الأمازيغ عندما يكون هناك إعلان عن مهرجان الفولكلور الأمازيغي. هذه الفلكرة لا تصلح في تصوير الأمازيغ. قيل لنا في دروس التاريخ إن “البربر” هم أول سكان المغرب، وهذه هي العلاقة البعيدة التي ربطتني آنذاك بشعبي الأمازيغ.
تعمل العديد من الجمعيات الأمازيغية في المغرب وفي الخارج الآن على إعادة بناء سرديات الأمازيغ. ومع ذلك، نحن بحاجة إلى مزيد من التواجد اللغوي، والثقافي، والفكريّ.
بصفتنا أمازيغ في شمال إفريقيا وفي الخارج، ألا نتحمل مسؤولية أخلاقية لإعادة بناء روايات أسلافنا؟ ألا نتحمل هذه المسؤولية في تعليم أنفسنا وأجيالنا الحالية والمستقبلية تاريخ الأمازيغ؟ تبدأ هذه المسؤولية بإزالة الاستعمار من المصطلحات اللغوية، وإعادة تعريفها لتمزيغ سردياتنا. كما تجعلنا أبطال قصصنا التي لا تحولنا لـ “آخر”، أجنبي. بربري. شلح. بدلاً من ذلك، يحتاج هذا التأصيل لرواياتنا إلى تحديد أمازيغيتنا في سرديات عرقية وثقافية ولغويّة وفكرية ومجتمعاتيّة.
ملحوظة: تم نشر هذا المقال باللغة الانجليزية في مجلّة The Metric.
https://marayana.com/laune/2021/04/02/27910/?fbclid=IwAR1FiJCO39U25xDz-RcTHMwNNDb5C_KKZQr_un4GE8zTn0qjgPB0sG0l4to