مذكرات الفنان العظيم شارلي شابلن
يروي الفنان العظيم شارلي شابلن في مذكراته أنه بعد أن حقق بدايات نجاحه الأسطوري في هوليوود وأصبح مجرد ظهور اسمه على شاشة السينما في دور العرض يشيع موجة من السرور بين المشاهدين استعداداً للبهجة المرتقبة ,
قام برحلة القطار من شيكاغو إلى نيويورك وكانت الرحلة تستغرق وقتها خمسة أيام ففوجئ عند توقف القطار في أول محطة بزحام كـ " يوم الحشر " وبآلاف المواطنين يحملون لافتات الترحيب به وعشرات من الأشخاص يدخلون القطار باحثين عنه , ويُرغمون سائق القطار على الانتظار حتى ينول شابلن إلى الرصيف ويشهد حفلاً لتكريمه .. وعمدة المدينة وكبراؤها يحيطون به .. والموسيقى تعزف ..والأعلام مرفوعة وصور شابلن تغطي كل مكان ..فألقى شابلن وهو مذهول في الحاضرين كلمة شكر قصيرة , وتناول معهم نخب الانتصار والنجاح ..ورجع سعيداً إلى القطار وواصل رحلته فتكرر المشهد بحفاوة أشد في كل محطة توقف فيها , إلى أن فوجئ وهو لايزال في القطار ببرقية من قائد بوليس نيويورك يرجوه فيها أن ينزل من قطاره في محطة فرعية صغيرة قبل المحطة الرئيسية لأن الجمهور يسد مداخلها ومخارجها منذ الصباح وسيتعذر على الشرطة إخراجه منها , فيستجيب إلى طلب قائد البوليس ويذهب إلى فندقه في سيارة مُسدلة الستائر ,
فإذا بالجمهور قد أحاط به من كل مكان فيدخل إليه بصعوبة بالغة ويخرج إلى الشرفة لرد تحيتهم كالزعماء التاريخيين عدة مرات , إلى أن ينجح البوليس في تفريقهم بعد عناء شديد لكيلا يعوقوا حركة المرور , وينصرف الجمهور بالفعل ويخلو شابلن إلى نفسه في جناحه بالفندق فيتساءل كما كتب في مذكراته :
" _ ما هذا الذي يحدث لي الآن ؟ ..ها أنا في قمة نجاحي كأنما كافة البشر يعرفونني بينما أنا لا أعرف أحداً ..لقد بدأت أرثي لحالي وقد سيطرت عليّ نوبة غير مفهومة من الأسى ..وتذكرت ممثلاً ناجحاً قال لي منذ أيام وهو في شدة الضيق :
_ ها قد "وصلنا "الآن يا شالي إلى ما كنا نطمح إليه فما قيمة كل هذا ؟ .
ووجدت نفسي أفكر فجأة في الأصدقاء القدامى الذين أتمنى أن ألقاهم وأنا متوّج بكل هذا النجاح العظيم وأتساءل ترى هل بقي لي أصدقاء قدامى ...وأين هم الآن ؟ . "
وواصل شابلن رحلة نجاحه ..ودخل عالم الملايين وتزوج أولى زوجاته وكانت ممثلة جميلة ففشل زواجه بها بعد أن انشغل كل منهما بأفلامه ونجاحه وأصبحا لا يلتقيان إلا على مائدة العشاء أو الإفطار بالأسابيع ثم ترامت إليه أخبار علاقتها بممثل شاب جديد فطلقها وعاش وحيداً بضعة أعوام وهو لا يزال في قمة نجاحه وثراءه ورغم ذلك فقد استولى عليه الإحساس بالكآبة والوحدة فتساءل ذات مساء وهو يجلس وحيداً في جناحه الفاخر بأكبر فنادق لوس أنجلوس : تُرى من هو " الصديق " الذي أستطيع أن أتصل به الآن بلا حرج لأقول له إنني مكتئب ..وزهقان وبائس وأريد أن أتحدث معك على راحتي وأفضفض معك وأتخفف من ضيقي ووحدتي ؟ . وفكر في سؤاله بعض الوقت ثم انتهى إلى هذه الإجابة المعبرة : لا أحد ! .. نعم ..لا أحد ..رغم كل ما يحيط به من شهرة وأضواء ومعجبين ومتهافتين على التقرب منه والفوز بصداقته فالأصدقاء الحقيقيون القدامى تفرقوا في الحياة ..والباقون منهم نائمون في هذه اللحظة جوار زوجاتهم وأبنائهم وليس من اللائق إيقاظهم من نومهم أو انتزاعهم من جوار زوجاتهم لإزعاجهم بمثل هذه الخواطر .. أما الآخرون فليسوا أصدقاء للروح يستطيع أن يتحدث إليهم بلا حرج ويتعرَّى أمامهم ويكشف لهم تعاسته وضعفه وحيرته ..فهم معارف ..أو زملاء ..أو أصدقاء شهرة وعمل لا يرون فيه إلا النجم الشهير ..والإنسان الناجح القوي ..حتى لو أراد أن يتحدث إلى أحدهم بما يشعر به من تعاسة وخوف وقلق , فلن يستطيع أن يفعل ..فاللسان لا يُطيع صاحبه ولا يبوح بحقيقة المشاعر إلا للأصدقاء الحقيقيين الذين لا يخجل من أن يتحدث إليهم بهواجسه .
وبسبب هذه اللحظة التي سأل فيها شابلن نفسه هذا السؤال اتخذ قراراً شخصياً خاطئاً أثر تأثيراً مؤلماً على حياته ..فلقد قرر الاستجابة لإحدى زميلاته الفنانات والزواج بها ضيقاً بوحدته ..فكان زواجاً تعيساُ آخر استغرق عدة سنوات , وانتهى بالفشل والمشكلات , وعاد بعده إلى حياة الوحدة سنوات أخرى , ولم يعرف السعادة الحقيقية إلا وهو يقترب من الخمسين حين التقى بفتاة صغيرة جاءت للعمل معه كممثلة مبتدئة في أفلامه اسمها أونا أونيل ..وهي ابنة الكاتب المسرحي الأمريكي الشهير " يوجين أونيل " فأحبها وأحبته حباً طاغياً مسيطراً وتنازلت من أجله عن أحلامها في الفن والشهرة وتزوجته رغم معارضة أبيها وأسرتها ومقاطعتها لها .
وإلى جوار أونا الصغيرة بنت الواحدة والعشرين عاش شابلن أسعد أيام حياته منذ التقى بها ..وحتى رحل عن الحياة بعد حوالي سبعة وعشرين عاماً , وأنجبت له تسعة أبناء , ومات شابلن وهو يعيش معها في سويسرا بعد هجرته من أمريكا ..وكتب عنها في مذكراته التي أصدرها عام 1964 أنه وبعد حوالي عشرين عاماً من الزواج حين يذهب معها إلى حفل عام أو زيارة ينظر إليها وهي تتقدمه مرفوعة الرأس بكبرياء لطيفة ويفيض قلبه لها بالحب العرفان لما أسبغته على حياته من سعادة ..وحب وثراء .
وقد ماتت أونا بعد رحيل شابلن بأكثر من عشر سنوات غير نادمة على زواجها منه الذي أثار عليها عاصفة عائلية لم تخمد إلا بعد أن أنجبت ثاني أطفالها !
والمغزى الخطير حقاً هو أن شابلن قد عاش وحيداً وتعيساً في نجاحه ..وشهرته ..وثرائه ..وزيجتيه الأوليين ..حتى التقى بأونا أونيل ...أو أونا شابلن وأحبته حباً حقيقياً نهائياً ..وأحبها حباً طاغياً مسيطراً فسعد بها وسعدت به ولم يشعر بعد ارتباطه بها بالوحدة أو التعاسة لحظة واحدة في حياته مع أن عصره كفنان كوميدي عبقري كان قد انتهى وتغيرت الدنيا , فلم تعد الجماهير بيت أمام دار العرض ليلة افتتاح أحد أفلامه الجديدة , ولم يعد البوليس يفرق الجماهير بالهراوات الثقيلة من حوله , وقد اعتزل الفن والسينما والحياة العامة لكن لا شيء من ذلك يهم في نظر الإنسان العاقل الذي يبحث عن السعادة الحقيقية , فهذه هي سُنَّة الحياة ولا مغيَّر لها ..ولكل نجاح دورة صعود إلى القمة ..وفترة بقاء محدودة فوقها ثم دورة هبوط لابد منها إلى الناحية الأخرى , ولكل زمان رجاله ونجومه , فماذا يعنيه من كل ذلك وقد ارتوى من النجاح العملي في الحياة ...ولم تحرمه الأقدار من النجاح الحقيقي في الحياة الخاصة مع امرأة جميلة أحبته وباعت الدنيا من اجله ..وأحبها هو بكل مشاعره , وانطوى لها دائماً على مشاعر العرفان والاعتزاز وأحب , إلى جانب أبناء وأحفاد يملئون حياته بكل ما يدعو للبهجة والرضا والسعادة .
نعم ...لم يعد شهيراً ولا " مطلوباً" بنفس القدر في سوق السينما العالمية كما كان الحال في سنوات المجد الأولى ..لكنه لم يعد أيضاً وحيداً ولا تعيساً كما كان وهو في أوج مجده وشهرته وتألقه ! .