محاولة لإنارة الوعي في معترك غفلة السلفيين،
محاولة لإنارة الوعي في معترك غفلة السلفيين،  2---21
وتفنيد تعليقاتهم الساذجة على مقال'التنوير' لإيمانويل كانط
يخلط السلفيون بين النقاش الفلسفي العميق والتساؤلات العقائدية التي تتناول توحيد الألوهية، وأسماء الله وصفاته، والتي تم تصنيفها خطأً تحت مظلة "الفلسفة" من قِبل بعض الفقهاء المسلمين عبر التاريخ.
لقد كان هناك، للأسف، سوء فهم واسع النطاق لماهيّة الفلسفة وأهدافها؛ نتيجة لتفسيرات محدودة ومغلوطة قدمها بعض الفقهاء الذين لم يتمكنوا من الانخراط الحقيقي مع النصوص الفلسفية. هذا السوء فهم قد أدى إلى إلصاق تهم بالفلسفة والفلاسفة، دون تمييز حقيقي بين الاستكشاف الفلسفي الشرعي والتأملات العقائدية التي تخرج عن نطاق الفلسفة نفسها.
من الضروري التأكيد على أن الفلسفة، في جوهرها، هي سعي مستمر نحو الحقيقة من خلال التساؤل والتحليل النقدي، معتمدة على العقل والمنطق كأدوات أساسية. إنها لا تهدف إلى تقويض الدين أو الإيمان، بل تسعى إلى تعميق فهمنا للوجود والأخلاق والمعرفة.
إن التنوير الذي تحدث عنه كانط يمثل رحلة التحرر من الجهل والتبعية، ليس فقط في مواجهة السلطات الخارجية، بل أيضًا في مواجهة الأفكار المسبقة والموروثة التي لم تخضع للتفكير النقدي. إن دعوته لاستخدام العقل تشجع على الاستقلال الفكري، وهو ما يُعتبر جوهريًا في تقاليد كثيرة، بما فيها الإسلام، الذي يحث على التفكير والتدبر.
يجب أن نتجاوز الاختزاليات والتبسيطات التي طالت الفلسفة ونعيد النظر في كيفية تفاعلنا مع هذا التراث الفكري الغني، بما يخدم سعينا الجماعي نحو الحقيقة والتنوير. إن الفهم الأعمق للفلسفة وتقديرها يمكن أن يعزز من رؤيتنا الرُّوحية والأخلاقية، مما يؤكد على أن العقل والإيمان يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب في رحلة الإنسان نحو الفهم والإدراك.
في ظلال البحث عن الحقيقة والتنوير، يبرز التحدي الكبير الذي يواجهه المسلمون في فهم دينهم بعمق ويقظة، بعيدًا عن الخرافات والأوهام التي قد تكون مستساغة للبعض بحكم العادة أو التقليد الأعمى. من هنا، يتوجب علينا، وبكل احترام وتقدير لكل مسلم يسعى إلى الخير والصلاح، أن نلفت الانتباه إلى بعض الممارسات التي انتشرت وأُلبست ثوب الدين، بينما هي بعيدة كل البعد عن جوهره الصافي والخالص.
لقد ادعى بعض السلفيين بأنهم حماة الدين الإسلامي الحنيف، متمسكين بالظاهر دون الغوص في عمق الفهم والتدبر لمقاصد الشريعة. ومن هنا، نجد أن هذا الادعاء قد يؤدي إلى نشر مفاهيم خرافية وأوهام تغلف نفسها بالتدين، ولكنها في حقيقتها تُبعد المسلم عن فهم دينه بشكل صحيح .
من الأمثلة على ذلك، الاعتقادات المغلوطة حول مس الجن وتفسير الأحلام بطرق لا تستند إلى دليل شرعي قاطع، بل تعتمد على التقاليد والقصص التي توارثتها الأجيال دون تمحيص أو نقد. هذه المفاهيم، التي تمتزج بين الدين والخرافة، تُظهر كيف يمكن للتقليد الأعمى أن يؤدي إلى ضلال الفهم والممارسة.
محاولة لإنارة الوعي في معترك غفلة السلفيين،  2---38
إن الدعوة إلى التنوير والوعي التي طرحها إيمانويل كانط تحمل في طياتها الحث على استخدام العقل والتفكير النقدي في فهم الدين والعالم من حولنا. لا يمكن للمرء أن يدعي حمل لواء الدين الصافي والخالص بينما يغفل عن استخدام نعمة العقل التي وهبها الله لنا .
لذا، أدعو إخواني وأخواتي، وبكل حب واحترام، إلى تجاوز النظرة السطحية للدين والعمل على فهمه بعمق ويقظة، مع الحذر من الوقوع في فخ الخرافات والأوهام التي تنسب إلى الدين زورًا وبهتانًا. فلنتحلى بالوعي ونشجع على البحث العلمي والفكري الذي يقوم على الدليل والبرهان، ونبتعد عن كل ما يشوه صورة الإسلام الحقيقية كدين يسر ورحمة للعالمين.
أوهام علاج ما يزعمونه من مس الجن:
لقد ذُكر في الحديث الشريف، الذي رواه البخاري ومسلم، قصة المرأة الصابرة التي فضلت الصبر على الشفاء مقابل الجنة. في هذه القصة العظيمة، نجد دروسًا في الصبر والتوكل على الله، وكذلك بساطة الدين الإسلامي الحنيف الذي لا يُعقد بالبدع والإضافات غير المستندة إلى دليل صريح.
من هنا، يؤسفني أن أرى بعض الممارسات التي لا نجد لها أصلًا في السنة النبوية الشريفة، كقراءة آيات معينة بنية الشفاء في أذن المريض أو إضافة أوراق السِدر إلى الماء. إن مثل هذه الأفعال، مع أنها قد تكون صادرة عن نية طيبة، إلا أنها تحمل في طياتها خطر الابتعاد عن السنة النبوية الصافية والوقوع في البدعة التي لا تخدم الدين بل قد تؤدي إلى الشرك بالله من حيث لا يُدرك الفاعل.
كما أن الادعاء بالقدرة على التحدث مع الجن واستخدام ذلك في التشخيص والعلاج يعد من الأمور التي لا تستند إلى أساس شرعي، وتعكس نوعًا من الجهل بالدين وتجاوزًا للحدود التي وضعها الله تعالى. يقول الله تعالى: ((وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)). فالاستعانة بالجن، بأي شكل من الأشكال، تعد تجاوزًا لما أذن به الشرع.
فلنعد إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الصافية كمصدرين أساسيين لعقيدتنا وممارساتنا الدينية. ولنتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، بكل ما أوتي من قدرة ونور، كان يدعو ويعلم أصحابه الدعاء والتوكل على الله. فلنكن ممن يتبعون خطاه بفهم وحكمة، ولنحذر من البدع التي قد تؤدي بنا إلى ما لا تحمد عقباه.
إن الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة والحذر من البدع لا تعني الجمود على رأي، بل تعني السعي نحو فهم أعمق للدين، مع الاحترام الكامل لاختلافات الفهم ضمن إطار الإسلام الواسع. فلنكن جميعًا على قلب رجل واحد في سبيل إعلاء كلمة الحق والدفاع عن جوهر ديننا الحنيف بعلم وأدب.
الشكل والمضمون:
في زمن تتداخل فيه المفاهيم وتتشابك العادات مع العقائد، نجد أن بعض التيارات المتدينة قد زاغت ببصرها نحو المظاهر الخارجية، معتبرة إياها ميدانًا للتنافس الديني. هذا التركيز على الشكليات، كملابس العصر الجاهلي أو العادات الغذائية واللغوية القديمة، يمكن أن يمثل خلطاً بين الثقافة والدين، بين العادات الاجتماعية والتعاليم الإسلامية الصافية كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية.
محاولة لإنارة الوعي في معترك غفلة السلفيين،  2----48
إن الاهتمام بالأمور المستحبة في الدين والتمسك بها على أساس الدليل الشرعي أمر محمود، غير أن الحكمة تقتضي أن نفهم أن الجوانب الشكلية ليست ساحة الجهاد الأسمى في الدين. بل إن هذه الجوانب، رغم أهميتها في تنظيم الحياة اليومية، تظل الأسهل في التطبيق مقارنة بالتحديات الحقيقية التي تتطلب قوة إيمانية ومعنوية عظيمة، كالعدالة والأمانة والصبر والإحسان.
من الضروري أيضاً الإدراك بأن الملابس والعادات يجب أن تعكس طبيعة العصر والبيئة التي نعيش فيها. فالحكمة تكمن في التكيف مع المتغيرات مع الحفاظ على القيم الأساسية للدين. فالإسلام دين يسر وليس عسر، وقد جاء ليتناسب مع جميع الأزمنة والأمكنة، مادام ذلك لا يتعارض مع أصوله وقواعده.
لذا، يجب على المسلم الحريص أن يبحث عن جوهر الدين ومقاصده العظيمة، وأن يعي أن التقيد بالمظاهر الخارجية دون فهم عميق للدين يمكن أن يؤدي إلى فهم محدود للإسلام. إن الإسلام يدعونا إلى التفكير والتدبر والعمل بما يرضي الله، مع التركيز على الأخلاق والسلوكيات التي تعبر عن قوة الإيمان الحقيقية، وهي التي تتجلى في تعاملنا مع الآخرين وسعينا لتحقيق الخير في المجتمع.
لنكن إذن ممن يجمعون بين الشكل والمضمون في تدينهم، مع الأولوية للمضمون الذي يجسد روح الإسلام وجوهره الخالد، ولنجعل من تديننا جسراً للتواصل والفهم والسلام، لا سبباً للتفرقة والنزاع.
السذاجة الفكرية للذين يستخدمون كلمة "قَدَرًا" بدلا من "صُدفة" :
إن التداخل بين اللغة والتصورات الدينية يعكس عمق التفاعل بين الفكر الإنساني والإيمان. اللغة، بكلماتها ومصطلحاتها، تحمل في طياتها طبقات من المعاني التي تؤثر في تصوراتنا وفهمنا للعالم من حولنا. النظر في استخدام كلمات مثل "صدفة" و"قدر" يبرز الحاجة إلى فهم دقيق ومتوازن لمفاهيمنا الدينية، مع تقدير الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل هذا الفهم.
مثال الاستخدام المتباين لكلمة "قدر" يلقي الضوء على محدودية الفهم البشري لمفهوم القضاء والقدر في الإسلام، حيث يُعتبر كل حدث، بلا استثناء، جزءًا من الإرادة والمعرفة الإلهية الشاملة. ومع ذلك، يميل بعض الأفراد إلى تقييد هذا المفهوم بالأحداث العفوية، مما يعكس نظرة محدودة للقدرة الإلهية .
في المقابل، يُظهر استخدام النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الثابتة في كتب السنة لكلمة "صدفة" تقدير الإسلام للواقع الإنساني واعترافه بأن بعض الأحداث قد تبدو غير متوقعة من منظورنا المحدود. هذا الاستخدام لا ينفي الإيمان بالقضاء والقدر، بل يؤكد على تقدير الدين للإدراك البشري وحدوده.
إن التأمل في كيفية استخدام اللغة داخل النصوص الدينية والأحاديث يدعونا إلى إعادة النظر في الطريقة التي نفسر بها مفاهيمنا الدينية. يجب أن نسعى لاستخدام اللغة بطريقة تعكس فهمنا الشامل والعميق للدين، متجنبين السطحية والتبسيط الذي قد يضلل فهمنا .
محاولة لإنارة الوعي في معترك غفلة السلفيين،  2----49
هذا النوع من التأمل يؤكد على أهمية الدقة في اختيار الكلمات التي نستخدمها للتعبير عن فهمنا للدين والعالم. ينبغي التفكر والتدبر في مفردات اللغة كجسر بين الإنسان والمعرفة الإلهية، والتركيز على ضرورة التوازن بين الاحترام للغة وفهم الدين بطريقة تراعي التعقيد والعمق اللذين يميزان تعاليمه.
أوهام تفسير الأحلام:
في عمق الفلسفة ومتاهات العقل البشري، تقبع مسألة تفسير الأحلام كأحد أكثر الموضوعات إثارة للجدل والتأمل. الأحلام، تلك الظواهر الغيبية التي تجمع بين الواقع والخيال، كانت ولا زالت محط اهتمام العلماء والمفكرين والفلاسفة على مر العصور. ومع ذلك، يبقى النقاش حول تفسيرها محاطًا بسحابة من الغموض والأوهام.
تفسير الأحلام، كما تطور في العصور اللاحقة، لا سيّما في عصر التابعين، يعكس تحولًا في التفكير الديني والفلسفي نحو مزيد من التأويل والتخمين، بعيدًا عن الأسس الدينية القويمة التي لم تركز على تفسير كل حلم يراه الإنسان. النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام، لم يولوا تفسير الأحلام الأهمية التي يوليها البعض اليوم، ولم تكن الرؤى التي تم تفسيرها إلا في سياقات خاصة ولأغراض محددة، تختلف جذريًا عن الاستخدام العشوائي لتفسير الأحلام في العصور اللاحقة.
الكتب التي تناولت تفسير الأحلام، والتي نُسبت إلى شخصيات محترمة مثل ابن سيرين، لا تمثل إجماعًا علميا أو دينيا صريحًا، بل تعبر عن محاولات فردية لفهم عالم الأحلام، وهي بالتالي لا ترقى إلى مستوى الدليل الديني القاطع. هذا التوجه نحو تأويل الأحلام بطرق غير مؤسسة على براهين دينية صلبة، يعد بمثابة انحراف عن جوهر الدين الإسلامي الذي يؤكد على اليقين والعلم.
من ناحية أخرى، تظهر محاولات سيجموند فرويد في تفسير الأحلام، والتي أسس لها في كتابه الشهير، كمثال على محاولات العقل البشري لاستكشاف عالم اللاوعي. ومع ذلك، فإن هذه المحاولات تعكس أيضًا القصور في فهم الإنسان لنفسه وللعالم من حوله، حيث حاول فرويد ربط كل جوانب الحياة الإنسانية بدوافع غريزية، متجاهلًا بذلك التعقيد والعمق الذي يميز الوجود الإنساني.
الأحلام، كجزء من الغيبيات، تظل خارج نطاق الفهم البشري الكامل. ومحاولات تفسيرها، سواء على أسس دينية غير مؤكدة أو نفسية تم تخمينها، تعبر عن رغبة الإنسان في السيطرة على المجهول وفهم ما هو خارج إدراكه. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن الحكمة تكمن في الاعتراف بحدود معرفتنا والتواضع أمام الغيبيات، مع التركيز على الجوانب العملية والأخلاقية للدين التي تعيننا على تحسين حياتنا وعلاقتنا بالخالق والخلق.
في ختام كلامنا، مرورًا بمتاهات الأحلام وأوهام تفسيرها، و وصولًا إلى النقد الفلسفي العميق لممارسات تبتعد بنا عن جوهر الدين الحقيقي، نستعير كلمات المتنبي الخالدة لنضع النقاط على الحروف.
قال المتنبي:
"أَغايَةُ الدينِ أَن تُحفُوا شَوارِبَكُم يا أُمَّةً ضَحِكَت مِن جَهلِها الأُمَمُ".
بهذه الكلمات، يعبر الشاعر عن نقد لاذع لأولئك الذين يختزلون الدين في المظاهر الشكلية، متناسين الغاية الأسمى للتدين التي تكمن في الأخلاق والقيم والتعاليم الروحانية.
إن هذا البيت يعكس بعمق الأزمة التي تواجهها الأمة، وهي التفريط في فهم دينها بشكل يتجاوز السطحية والرموز إلى عمق المعاني والتطبيقات الحقيقية في الحياة. يدعو المتنبي، من خلال سخريته الذكية، إلى تجاوز النظرة الضيقة للدين والانفتاح على الأبعاد الأخلاقية والروحية التي يحملها.
محاولة لإنارة الوعي في معترك غفلة السلفيين،  2-----62
في هذا السياق، يصبح من الواجب على كل مسلم أن يسعى لفهم دينه بعمق، مستلهمًا الحكمة من تعاليمه السامية، ومستنيرًا بالنقد البنّاء الذي يعيد توجيه الأنظار نحو الجوهر بعيدًا عن القشور. إن الدين، بحقيقته وعظمته، يتجاوز الشكليات ليمس كيان الإنسان ووجدانه، داعيًا إلى الرقي الروحي والأخلاقي.
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نأمل في أن يكون هذا المقال قد أضاء شمعة في ظلمات الجهل، معيدًا إلى الأذهان حقيقة أن الدين بحر عميق من المعرفة والروحانية يحتاج منا إلى تأمل وفهم عميقين، بعيدًا عن السطحية والتبسيط. فلنتذكر دائمًا أن الدين يسعى لبناء الإنسان من الداخل، معززًا روابطه بخالقه وبالإنسانية جمعاء، في رحلة تتجاوز الأشكال إلى جوهر معاني الحياة والوجود.


المصدر : مواقع ألكترونية