الحرية الفكرية… بين سلطة الطابو وحتمية التطور! 4/1
جبل الناس على الكسل، يحبون أن يظلوا على ما ألفوه من عادات فكرية وعملية، فالإنسان لا يخترع كل يوم، بل يستمر على ما كان عليه أمس، لأن ذلك يسهل حياتهمنذ البدء كان الفكر… وكان الحجر على الفكر!
في سبيل أفكارهم وآرائهم الجديدة، ذاق الأنبياء والفلاسفة والعلماء وغيرهم الويلات، ما لم يذوقوا الموت…
ها هو ذا مثلا سقراط يشرب السم راضيا، والمسيحيون يقدمون أنفسهم طعاما للأسود في ملاهي الرومانيين، يفضلون هذا القتل المرعب على الاستمرار في دين آبائهم.
الواقع أنه لولا البوح، لانقبضت الصدور من همومنا اليومية، وحتى الخواطر العلمية والفلسفية، التي تعذب أصحابها إذا لم يشاركوها غيرهم.
ما نود قوله هنا، إن حرية الفكر؛ هي حرية البوح بالقول أساسا! لذلك تقترن اليوم حرية الرأي بالتعبير لا رأي دون التعبير عنه.
لكن معظم من باحوا بما في صدورهم مما اعتقدوه حقيقة علمية أو فلسفية أو دينية، كان مصيرهم الاضطهاد، تعذيبا، حبسا، أو قتلا، والتاريخ يفيض بشواهد عن ذلك
ثمة أسباب كثيرة لاضطهاد الفكر على مدى التاريخ، يقول المصلح المصري سلامة موسى في كتابه “حرية الفكر وأبطالها في التاريخ”:
جبل الناس على الكسل، يحبون أن يظلوا على ما ألفوه من عادات فكرية وعملية؛ فالإنسان لا يخترع كل يوم، بل يستمر على ما كان عليه أمس، لأن ذلك يسهل حياته. هكذا، إذا حدث أن “ابتدع” أحدهم شيئا ما، يصدمهم لوهلة ويكلفهم تفكيرا وجهدا كانوا في غنى عنه.
أيضا، كثيرا ما ترتبط المصلحة المالية بهذه العادات المألوفة. تبديلها يضيع على بعض الطبقات هذه المصلحة. واضح لما يكره الغني الاشتراكية مثلا.
اضطهاد الأفكار الجديدة ينم أيضا عن الجهل. من يجهل نظرية التطور، ويؤمن بأن أبانا الأول آدم وأمنا حواء، يكره كل من يقول بهذه النظرية. كذلك مثلا اللغة العربية هي أشرف اللغات وأفصحها، في نظر من يجهل اللغات الأخرى.
ثمة سبب آخر أيضا، يتعلق بالخوف. تؤمن العجوز مثلا بـالأولياء وتتشفع بهم، ويستحيل والحال هذه أن تناقشها فيما يعزى إلى هؤلاء من كرامات؛ ذلك أن خوفها يصد العنان عن ذهنها.
الطابو… أول القيود
كان للإنسان الأول عدد من المحرمات تعرف باسم “الطابو”.
زوجة الرجل طابو لغيره مثلا، حرام على الغير أن يمسها. ما زال البعض، بالمناسبة، يسمي النساء حريما لذات السبب.
الطابو أنواع عديدة وهو في الأصل آداب أخلاقية، ومن ثم يعد أولَ قيود الحرية الفكرية.
يعبر الطابو، وفق سلامة موسى، عن نظر علمي فج لم ينضج، وتحول مع قلة وسائل التحقيق والعلم وظهور الكهنة، إلى عقيدة دينية. الماء في الأصل مثلا غسول يغسل به، فلما تقادم الزمن، صار يستعمل للطهور والوضوء.
أول أنواع الطابو هو الطوطم، كان عبارة عن طائر أو حيوان أو شجرة يحرم على أفراد القبيلة أن يمسوها، أو أن يأكلوا شيئا منها. وتعتقد القبيلة أن الطوطم هو أصلها الذي تنتمي إليه، ولذلك له حرمة.
ثم ارتقى الطابو فصار نواهٍ أدبية، تنهي الناس عن بعض الأفعال.
الذي حدث أنه عند ظهور الآلهة وانتظام العبادة، ازداد الكهنة قوة، وجمدت ما ينهي عنه الطابو، فتقيد بذلك فكر الإنسان.
سلطة الطابو لم تخف إلا مع تقدم الإنسان واندماج ما تبقى من نواهي الطابو في الديانات الإبراهيمية، لتتسع بذلك الحرية الفكرية بعض الشيء.
رجال الحكم أشغف بالدين!
كان النظر الديني في البدء نظرا علميا يقبل الجدل والتمحيص، يقول سلامة موسى، غير أنه صار بعد ذلك نظرا دينيا قائما على الجزم.
كان ذلك نتيجة طبيعية لقلة وسائل التحقيق عند الإنسان الأول من جهة، ومن جهة أخرى لأن بعضهم رأوا في الترويج للعقائد الدينية مصلحة يمكن الاعتياش منها.
لكن الدين نفسه ليس بالضرورة هو ما يضطهد الفكر، إنما يرجع الاضطهاد الديني، في أغلب الحالات، إلى رجال الدين. لا يمكن لهؤلاء أن يضطهدوا أحدا ما لم تكن السلطة في أيديهم! ما يقيد حرية الفكر، والذي اضطهد الناس على الدوام، هي السلطة السياسية.
فقط حين تصير الدولة والدين جسما واحدا، يمكن لرجال الدين أن يضطهدوا من شاؤوا، وأن يقيدوا الفكر كما شاؤوا. الاضطهاد الذي كابده الناس من رجال الدين في الماضي، إنما كابدوه لأن هؤلاء كانوا قابضين على السلطة في الدولة.
والحال هذه، رجال الحكم أشغف بالدين، يؤكد سلامة موسى، وأكثر من استعملوه سلاحا. فلربما ينزع رجل الدين إلى الزهد، لكن رجل الدولة يحتاج إلى الدين ليخيف به العامة من الناس، ومن ثم فالدين يزيد سلطانه.
أو ببساطة، كما يقول المفكر الإيطالي نيكولو ميكيافيلي في كتابه “الأمير”، يجب على الأمير حماية الدين، ولو كان هو نفسه لا يؤمن به؛ لأن الدين يعاونه على تثبيت سلطانه!
يعد الطابو أول القيود على الحرية الفكرية، وهو يعبر عن نظر علمي فج لم ينضج، تحول مع قلة وسائل التحقيق والعلم وظهور الكهنة، إلى عقيدة دينية.
فقط حين تصير الدولة والدين جسما واحدا، يمكن لرجال الدين أن يضطهدوا من شاؤوا، وأن يقيدوا الفكر كما شاؤوا. الاضطهاد الذي كابده الناس من رجال الدين في الماضي، إنما كابدوه لأن هؤلاء كانوا قابضين على السلطة في الدولة
معظم من باحوا بما في صدورهم مما اعتقدوه حقيقة علمية أو فلسفية أو دينية، كان مصيرهم الاضطهاد، تعذيبا، حبسا، أو قتلا