الحرية الفكرية… ما أهميتها في تحقيق النهضة الاجتماعية؟ وكيف نتعامل مع الأفكار الضالة؟ 4/4
التاريخ يثبت أن المعرفة ازدهرت حينما كان التفكير حرا مطلقا في اليونان، ونحن نعرف أيضا كيف أسهم التفكير الحر في تقدم المعرفة في العصور الحديثة.
بعدما تابعنا في الجزء الثالث من هذا الملف عن الحرية الفكرية، كيف حرم اضطهاد الفكر وقمعه المسلمين من المضي قدما على طريق الحضارة، نواصل الملف في جزئه الرابع والأخير، لنتعرف على أهمية الحرية الفكرية في تحقيق النهضة الاجتماعية.
لم تبال أوروبا في طريق تحقيقها للنهضة بالكهنة ولا بالكنيسة، وهم الذين اضطهدوا الفكر فيها لأزيد من ألف عام؛ بل عملت على مدى عشرات السنين على تقويض سلطتهم.
الفيلسوف الفرنسي فولتير، مثلا، قضى عمره وهو يصيح في أوروبا: اسحقوا أهل الخزي والعار؛ أي من يضطهدون الأحرار (الكهنة، الكنيسة…).
يقول في كتابه الشهير “التسامح”:
“لكي تدعي حكومة ما الحق في أن تعاقب الناس على أغلاطهم، يجب أن تتخذ هذه الأغلاط هيئة الجرائم، وهي لن تكون جرائم حتى تحدث القلاقل بين الهيئة الاجتماعية، وذلك بأن تؤدي إلى التعصب…”.
ننصح أطفالنا أحيانا بأن يعتمدوا على أنفسهم في التفكير. لكن الذي يقدم هذه النصيحة، أبا كان أو أما أو معلما أو غيرهم، واثقون أن الطفل سيصل بتفكيره إلى مثل النتائج التي يرغبونها.
مدخل إلى حرية الفكر
تقوم أغلب مناهج التعليم في بلداننا على النقل والرواية. ننصح أطفالنا أحيانا بأن يعتمدوا على أنفسهم في التفكير. لكن الذي يقدم هذه النصيحة، أبا كان أو أما أو معلما أو غيرهم، واثقون أن الطفل سيصل بتفكيره إلى مثل النتائج التي يرغبونها.
حتى إنه إذا اتخذ تفكير الطفل هيئة الشك في المبادئ التي يودون حقنها في ذهنه، فإنهم يرغون ويزبدون ويثبطونه عن ذلك.
لعل أول وصية مأمولة ينبغي أن تقال هنا، يقول المؤرخ البريطاني جون بيوري في كتابه “حرية الفكر”، هي هذه: “لا تثق ثقة عمياء بما يقوله أبواك”.
يجدر إذن، دائما وفق بيوري، أن يكون أول ما يتعلمه الطفل، أول ما يؤهله عمره للفهم، أن يعرف متى هو سديد ومتى هو غير سديد أن يصدق ما ينفذ إلى أذنيه.
ماذا لو كانت الفكرة التي ندافع عنها، ضالة؟
قد يكون من الظلم معاقبة إنسان على أفكار يؤمن بها إيمانا صادقا. أفكار قد لا يملك إلا أن يؤمن بها لظروف شتى.
نعم؛ الخطأ ليس جريمة، والعقاب عليه ظلم.
هذه الحجة في الواقع لا تصلح للدفاع عن حرية المناقشة، يقول المؤرخ البريطاني جون بيوري في كتابه “حرية الفكر”، لكن إذا كان من الظلم معاقبة إنسان على معتقدات شخصية ضالة، فإنه ليس من الظلم في شيء منعه من نشرها إذا اقتنعنا أن أفكاره مؤذية.
هكذا، من العدل أن لا يعاقب على أفكاره، وأن يعاقب على نشرها وإذاعتها.
الواقع أن كلمة “عدل” مضللة، فباعتبارها فضيلة، فإنها تقوم على التجربة الاجتماعية وفق بيوري… العدالة ببساطة هي مجموعة من القواعد أو المبادئ التي ثبت بالتجربة أن المنفعة الاجتماعية تبلغ بها حدها الأقصى.
في هذا السياق، يمكن فهم قول فولتير الذي أوردناه أعلاه: لا ينبغي العقاب على الفكر، لكن إذا كانت الفكرة ضالة، بمعنى أنها قد تلحق الأذى بالآخرين (كالدعوة للعنصرية أو البيدوفيليا مثلا)، بينما لا يتوانى صاحبها عن نشرها، وجب ردعه.
لا ينبغي العقاب على الفكر، لكن إذا كانت الفكرة ضالة، بمعنى أنها قد تلحق الأذى بالآخرين (كالدعوة للعنصرية أو البيدوفيليا مثلا)، بينما لا يتوانى صاحبها عن نشرها، وجب ردعه.
الحديث هنا عن أفكار ودعوات مثل تلك التي أتى بها الكاردينال نيومان، الذي يقول: “تقدم هذا الجنس البشري وبلوغه الكمال إنما هو أضغاث أحلام، لأنه يتنافى مع الوحي المنزل”. ويقول أيضا: “من الخير لهذه الأمة لو كانت أكثر اعتقادا بالخرافات وأشد ميلا إلى التعصب مما هي عليه الآن”، أو تلك التي أتى بها كثير من فقهاء المسلمين، وقد تابعنا بعضا منها في كل من الجزء الأول والثاني والثالث من هذا الملف.
ثم إن هناك فرقا شاسعا، يقول الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، بين ادعاء صحة فكرة استنادا إلى أنها امتحنت في جميع الظروف فثبتت صحتها، وبين ادعاء صحتها بقصد منع الناس من إثبات بطلانها.
قد نمتلك فكرة ونريد حمايتها من التهجم، لأننا نعتقد أنها صحيحة. لكن منع مناقشتها يظل ضارا بالمنفعة العامة في جميع الأحوال
الحرية الفكرية… شرط أساس!
أمضى سقراط حياته يوضح قيمة حرية المناقشة. ثم أجمع الكثير من الفلاسفة بعده أن تلك الحرية لا بد منها لتقدم المعرفة.
صحيح أنه ثمة من يقول إن تقدم الحضارة يتأثر بظروف خارجة عن قدرة الإنسان، بيد أنها في الواقع تتأثر بأمور هي في حدود قدرته، ومن أهمها تقدم العلم والمعرفة.
تقدم العلم والمعرفة وتصحيح الأخطاء يستند أساسا إلى حرية المناقشة المطلقة.
التاريخ يثبت أن المعرفة ازدهرت حينما كان التفكير حرا مطلقا في اليونان، ونحن نعرف أيضا كيف أسهم التفكير الحر في تقدم المعرفة في العصور الحديثة.
لكي نوفق بين عرفنا الاجتماعي وأنظمتنا ووسائلنا وبين ظروفنا وحاجاتنا الجديدة، ينبغي، وفق بيوري، أن تكون لنا حرية مطلقة في عرضها على بساط البحث ونقدها، وأيضا الإفصاح عن جميع الآراء، حتى تلك التي لا يقبلها الجمهور، مهما بلغت من شدة الوقع على عواطف الرأي العام.
من أهم الدروس المستفادة من الحضارة أن أسمى مرتبة للتقدم العقلي والخلقي هي حرية الفكر التامة وحرية المناقشة… توطيد هذه الحرية شرط جوهري للنهضة الاجتماعية.
ببساطة إذن، من أهم الدروس المستفادة من الحضارة أن أسمى مرتبة للتقدم العقلي والخلقي هي حرية الفكر التامة وحرية المناقشة… توطيد هذه الحرية شرط جوهري للنهضة الاجتماعية
التاريخ يثبت أن المعرفة ازدهرت حينما كان التفكير حرا مطلقا في اليونان، ونحن نعرف أيضا كيف أسهم التفكير الحر في تقدم المعرفة في العصور الحديثة.
بعدما تابعنا في الجزء الثالث من هذا الملف عن الحرية الفكرية، كيف حرم اضطهاد الفكر وقمعه المسلمين من المضي قدما على طريق الحضارة، نواصل الملف في جزئه الرابع والأخير، لنتعرف على أهمية الحرية الفكرية في تحقيق النهضة الاجتماعية.
لم تبال أوروبا في طريق تحقيقها للنهضة بالكهنة ولا بالكنيسة، وهم الذين اضطهدوا الفكر فيها لأزيد من ألف عام؛ بل عملت على مدى عشرات السنين على تقويض سلطتهم.
الفيلسوف الفرنسي فولتير، مثلا، قضى عمره وهو يصيح في أوروبا: اسحقوا أهل الخزي والعار؛ أي من يضطهدون الأحرار (الكهنة، الكنيسة…).
يقول في كتابه الشهير “التسامح”:
“لكي تدعي حكومة ما الحق في أن تعاقب الناس على أغلاطهم، يجب أن تتخذ هذه الأغلاط هيئة الجرائم، وهي لن تكون جرائم حتى تحدث القلاقل بين الهيئة الاجتماعية، وذلك بأن تؤدي إلى التعصب…”.
ننصح أطفالنا أحيانا بأن يعتمدوا على أنفسهم في التفكير. لكن الذي يقدم هذه النصيحة، أبا كان أو أما أو معلما أو غيرهم، واثقون أن الطفل سيصل بتفكيره إلى مثل النتائج التي يرغبونها.
مدخل إلى حرية الفكر
تقوم أغلب مناهج التعليم في بلداننا على النقل والرواية. ننصح أطفالنا أحيانا بأن يعتمدوا على أنفسهم في التفكير. لكن الذي يقدم هذه النصيحة، أبا كان أو أما أو معلما أو غيرهم، واثقون أن الطفل سيصل بتفكيره إلى مثل النتائج التي يرغبونها.
حتى إنه إذا اتخذ تفكير الطفل هيئة الشك في المبادئ التي يودون حقنها في ذهنه، فإنهم يرغون ويزبدون ويثبطونه عن ذلك.
لعل أول وصية مأمولة ينبغي أن تقال هنا، يقول المؤرخ البريطاني جون بيوري في كتابه “حرية الفكر”، هي هذه: “لا تثق ثقة عمياء بما يقوله أبواك”.
يجدر إذن، دائما وفق بيوري، أن يكون أول ما يتعلمه الطفل، أول ما يؤهله عمره للفهم، أن يعرف متى هو سديد ومتى هو غير سديد أن يصدق ما ينفذ إلى أذنيه.
ماذا لو كانت الفكرة التي ندافع عنها، ضالة؟
قد يكون من الظلم معاقبة إنسان على أفكار يؤمن بها إيمانا صادقا. أفكار قد لا يملك إلا أن يؤمن بها لظروف شتى.
نعم؛ الخطأ ليس جريمة، والعقاب عليه ظلم.
هذه الحجة في الواقع لا تصلح للدفاع عن حرية المناقشة، يقول المؤرخ البريطاني جون بيوري في كتابه “حرية الفكر”، لكن إذا كان من الظلم معاقبة إنسان على معتقدات شخصية ضالة، فإنه ليس من الظلم في شيء منعه من نشرها إذا اقتنعنا أن أفكاره مؤذية.
هكذا، من العدل أن لا يعاقب على أفكاره، وأن يعاقب على نشرها وإذاعتها.
الواقع أن كلمة “عدل” مضللة، فباعتبارها فضيلة، فإنها تقوم على التجربة الاجتماعية وفق بيوري… العدالة ببساطة هي مجموعة من القواعد أو المبادئ التي ثبت بالتجربة أن المنفعة الاجتماعية تبلغ بها حدها الأقصى.
في هذا السياق، يمكن فهم قول فولتير الذي أوردناه أعلاه: لا ينبغي العقاب على الفكر، لكن إذا كانت الفكرة ضالة، بمعنى أنها قد تلحق الأذى بالآخرين (كالدعوة للعنصرية أو البيدوفيليا مثلا)، بينما لا يتوانى صاحبها عن نشرها، وجب ردعه.
لا ينبغي العقاب على الفكر، لكن إذا كانت الفكرة ضالة، بمعنى أنها قد تلحق الأذى بالآخرين (كالدعوة للعنصرية أو البيدوفيليا مثلا)، بينما لا يتوانى صاحبها عن نشرها، وجب ردعه.
الحديث هنا عن أفكار ودعوات مثل تلك التي أتى بها الكاردينال نيومان، الذي يقول: “تقدم هذا الجنس البشري وبلوغه الكمال إنما هو أضغاث أحلام، لأنه يتنافى مع الوحي المنزل”. ويقول أيضا: “من الخير لهذه الأمة لو كانت أكثر اعتقادا بالخرافات وأشد ميلا إلى التعصب مما هي عليه الآن”، أو تلك التي أتى بها كثير من فقهاء المسلمين، وقد تابعنا بعضا منها في كل من الجزء الأول والثاني والثالث من هذا الملف.
ثم إن هناك فرقا شاسعا، يقول الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، بين ادعاء صحة فكرة استنادا إلى أنها امتحنت في جميع الظروف فثبتت صحتها، وبين ادعاء صحتها بقصد منع الناس من إثبات بطلانها.
قد نمتلك فكرة ونريد حمايتها من التهجم، لأننا نعتقد أنها صحيحة. لكن منع مناقشتها يظل ضارا بالمنفعة العامة في جميع الأحوال
الحرية الفكرية… شرط أساس!
أمضى سقراط حياته يوضح قيمة حرية المناقشة. ثم أجمع الكثير من الفلاسفة بعده أن تلك الحرية لا بد منها لتقدم المعرفة.
صحيح أنه ثمة من يقول إن تقدم الحضارة يتأثر بظروف خارجة عن قدرة الإنسان، بيد أنها في الواقع تتأثر بأمور هي في حدود قدرته، ومن أهمها تقدم العلم والمعرفة.
تقدم العلم والمعرفة وتصحيح الأخطاء يستند أساسا إلى حرية المناقشة المطلقة.
التاريخ يثبت أن المعرفة ازدهرت حينما كان التفكير حرا مطلقا في اليونان، ونحن نعرف أيضا كيف أسهم التفكير الحر في تقدم المعرفة في العصور الحديثة.
لكي نوفق بين عرفنا الاجتماعي وأنظمتنا ووسائلنا وبين ظروفنا وحاجاتنا الجديدة، ينبغي، وفق بيوري، أن تكون لنا حرية مطلقة في عرضها على بساط البحث ونقدها، وأيضا الإفصاح عن جميع الآراء، حتى تلك التي لا يقبلها الجمهور، مهما بلغت من شدة الوقع على عواطف الرأي العام.
من أهم الدروس المستفادة من الحضارة أن أسمى مرتبة للتقدم العقلي والخلقي هي حرية الفكر التامة وحرية المناقشة… توطيد هذه الحرية شرط جوهري للنهضة الاجتماعية.
ببساطة إذن، من أهم الدروس المستفادة من الحضارة أن أسمى مرتبة للتقدم العقلي والخلقي هي حرية الفكر التامة وحرية المناقشة… توطيد هذه الحرية شرط جوهري للنهضة الاجتماعية