الامبراطورية الآشورية الثانية ( 745 – 612 ق. م )
( 745 – 727 ق م ) تجلا تبلاسر الثالث:
يبدأ عهد الامبراطورية الاشورية الثانية بتسليم الحكم هذا الملك العظيم الذي دام حكمه ثماني عشرة سنة تمكن خلالها استعادة مجد المملكة الآشورية وقوتها . وقد انتهج في سياسته اللين والتسامح مع الدول الخاضعة له. وبعد أن ثبت دعائم الحكم في بلاد آشور اتجه جنوبا وحارب القبائل الارامية والكلدانية والعيلاميين وقضى على فتنهم في بلاد بابل ثم أنقلب شمالا لايقاف زحف ( ساردور الثاني ) ملك اورارتو وتمكن من دحره وارجاعه الى بلاد أرمينية . ثم التفت الى الدويلات الارامية في سوريا وحارب في حلب وفتح دمشق سنة ( 732 ق م ) وفتح المدن الساحلية من خليج الأسكندرونه حتى غزة ووصل الى الحدود المصرية . ثم حمل ثانية على بلاد بابل وانحدار الى أقصى الجنوب وأخضع مملكة بيت ياكيني ثم حارب المشايخ العربية في الصحراء . واتخذ سياسة التهجير ونقل الشعوب من مكان الى آخر ودمجهم مع بعضهم ليجعل منهم امة موحدة ذات لغة واحدة وعادات متشابهة فنقل جماعات كبيرة من سكان سوريا وفلسطين واسكنهم بلاد بابل وآشور ورحل جموعا من البابليين وأسكنهم في الشمال والغرب .
وبعد وفاته تسلم الحكم ابنه شلمنصر الخامس الذي سمى نفسه ملك بابل وآشور وقد ثار في زمنه ( هوشع ) ملك اسرائيل فحاصر شلمنصر عاصمته السامرة مدى ثلاث سنوات وتوفى أثناء ذلك فتولى بعده :
( 722 – 705 ق م ) سرجون الثاني:
دام حكمه سبعة عشر عاما قضاها في الحروب والفتوحات و أول عمل قام به أنه أكمل فتح مدينة السامرة وقضى على مملكة اسرائيل عام ( 721 ق م ) وفتح بقية المدن السورية والفلسطينية والسواحل الفينيقية . وحدث في بداية حكمه ان ثار الملك الكلداني المدعو ( مردوك بلادان ) من مملكة بيت ياكيني في أقصى الجنوب واستولى بالتعاون مع العيلاميين على بابل وعلى اكثر المدن الجنوبية فحاول سرجون تأديبه الا انه اخفق في المرة الاولى وترك بابل تحت حكم مردوك بلادان أكثر من عشر سنوات واشتغل سرجون خلالها بتقوية المملكة الآشورية في الشمال وفتح المدن الآرامية في سوريا وفلسطين وقضى على احلافهم التي كانت تعقد بتحريض من فرعون مصر . وكانت تحركات الاقوام الآرية شديدة في ذلك الحين ملأت الشمال من الشرق في هضبة ايران الشمالية الى الغرب في سواحل آسيا الصغرى .
ثم توجه سرجون ثانية نحو بلاد بابل يسانده جيش قوي لم يتمكن ( مردوك بلادان ) من الصمود امامه ولم تأته المساعدة من العيلاميين فهرب الى الجنوب وترك بابل للأشوريين وكان ذلك عام ( 709 ق م ) ولحق به سرجون الى مملكة بيت ياكيني وفتحها وعلى ما يظهر انه عفا عنه وعينه ملكا على مملكة الجنوب .
كان سرجون من طبقة القواد الارستقراطيين المحافظين على عادات الاشوريين القديمة وعباداتهم لهذا نراه ينهض بعبادة الاله آشور ويعمر معابده في آشور وغيرها من المدن غير ان أشهر مآثره العمرانية بناؤه عاصمة جديدة سماها بأسمه ( دور شاروكين ) ويطلق على اطلالها اليوم خرسباد والاسم محرف من ( خسرو آباد ) وهي على نحو 12 كيلومترا الى الشمال من نينوى وقد زين سرجون مداخل المدينة وقصره بتماثيل كالثيران المجنحة والواح كبيرة من الرخام نقشت نقشا بارزا بمناظر مختلفة ويشاهد زائر المتحف العراقي كثيرا من هذه الالواح في القاعة العاشرة . ولم يتمتع سرجون بعاصمته الجديدة فقد توفى في أحدى غزواته في الشمال بعد سنة واحدة من انتقاله الى المدينة الجديدة وتولى الحكم بعده ابنه :
سنحاريب ( 705 – 681 ق م ):
تولى الحكم بعد موت والده سرجون ولم يشأ استعمال الابنية التي شيدها والده ولم يسكن في العاصمة الجديدة بل تركها وانتقل الى نينوى وجدد أبنيتها فردوس الارض بحدائقها الغناء ومجارى المياه التي تمر بها .
كان سنحاريب حاكما حازما وسياسيا بارعا استعمل القوة والشدة في حروبه ضد اعدائه وأدخل كثيرا من الاختراعات في أساليب الحروب واسلحتها . ثارت بابل عليه في بداية حكمه بقيادة مردو كبلاد ان العدو السابق فجهز سنحاريب حملات حربية موفقة في آسيا الصغرة وسواحل بحر ايجة فكانت تلك الحملات سببا مباشرا في تبادل الثقافة بين الشرق والغرب . وبعد ذلك انحدر نحو ساحل فينيقية وقضى على احلاف الدويلات في صور وصيدا وعسقلون وعاد فاخضع جميع المدن التي كانت تحت الحكم الاشوري في الماضي وحاصر القدس في زمن ملكها حزقيا ولتفشي الطاعون في جيشه اضطر الى التراجع الى نينوى . وكانت بابل في اثناء ذلك قد ثارت مجددا لان أهلها ورجال الدين فيها كانوا ناقمين عليه لانه لم يحترم عبادة الاله مردوك بل جعل بابل جزءا ملحقا بالمملكة الاشورية . فجهز سنحاريب حملة تأديبية قوية ضد الثوار وافتتح بابل وعين عليها احد اولاده ثم أراد القضاء على دويلات أهل البحر في أقصى الجنوب لانهم كانوا دوما سبب الفتن في بلاد بابل فأمر سنحاريب بصنع السفن الحربية وجلب لذلك صناعا ماهرين من الفنيقين واليونان صنعوا له السفن على دجلة والفرات وانحدر بها نحو الجنوب عابرا الاهوار حتى وصل الى البحر , وفي المتحف العراقي لوح كبير من الرخام نقش بمنظر يمثل هذه الحملة ( القاعة الثانية عشرة – الرقم 10 ) , وفتح جميع دويلات الخليج وانتهز العيلاميون فرصة انشغال سنحاريب في الجنوب فهاجموا أوسط العراق ومنطقة بابل فرجع عليهم سنحارب غير أن قواه كانت على ما يظهر قد ضعفت وكان مركز تموينه بعيدا مما اضطره الى التراجع نحو نينوى لكنه لم يمهلهم طويلا اذ عاودهم بجيش قوي حاصر به بابل وفتحها عنوة وكان غضبه شديدا عليها فدمرها وأحرق قصورها ودك اسورها وفتح مياه الفرات عليها حتى غمرتها . ثم انحدر جنوبا لمحاربة القبائل العربية التي ساعدت الثوار في بابل وتقدم نحو دومة الجندل واخضع مشايخها ثم عبر الصحراء من هناك نحو ساحل البحر المتوسط ووصل قرب غزة وأراد محاربة المصريين الذين كانوا في الغالب سببا في تحريض الدويلات في سوريا وفلسطين ضد آشور الا ان التعب كان قد أخذ مأخذه من سنحاريب فتراجع بعد ان التقى بجيش طاهرقا فرعون مصر على الحدود .
وقد اشتهر سنحاريب الى حروبه العديدة بإعماله العمرانية ايضا ولاسيما بحفر الترع والاقنية وقد جلب المياه الى نينوى من منابع نهر الكومل في جبل بافيان وسيرها في أقنية وعلى قناطر مبنية بالحجر وفي أواخر حكمه عين ابنه اسر حدون من زوجته الارامية ( نقية ) وليا للعهد دون أخوته الذين يكبرونه فثار عليه أحد أولاده بمساندة رجال الحكم وقتلوه سنة (681 ق م ) .
(681 – 669 ق. م) اسرحدون :
كان اسر حدون عند مقتل والده في الشمال في جبال ارمينية فتقدم نحو نينوى وفتحها وقضى على حركة التمرد فيها . سار اسرحدون على سياسة المصالحة مع بابل وجدد بناء ما تخرب منها زمن والده وعين على عرشها ابنه الاكبر ( شمش شم أوكن ) وحارب جنوبا للقضاء على حركة قام بها مردوك بلادان وانتصر عليه وهرب هذا الى عيلام وقتل هناك وعين اسر حدون اميرا جديدا في هذه المنطقة هو ابن مردوك بلادان الثاني وهكذا استتب الامن له في الجنوب .
وفي عام ( 676 ق م ) توجه اسرحدون نحو سوريا وسواحل فينيقية وفتح جمع المدن الداخلية والساحلية وانهالت عليه الهدايا من امرائها و أمراء قبرص واليونان . وقد فاق اسر حدون غيره من ملوك آشور شهرة بسبب غزوه مصر فقد وجه حملة قوية لدحر الجيوش المصرية التي كانت تناوئه العداء في سوريا وفلسطين وتقدم بجيشه نحو الحدود المصرية وحارب الفرعون طاهرقا عام ( 673 ق م ) ثم تراجع الى نينوى وبعد سنتين أعاد الكرة فهجم بجيش عرموم على دلتا مصر وفتحها ودخل العاصمة ممفيس وهرب طاهرقا نحو مصر العليا واستولى اسرحدون على غنائم كثيرة نقلها الى نينوى وترك خلفه في ممفيس حامية آشور . وقد عثرت مديرية الاثار العراقية في تل النبي يونس على بعض الاثار المصرية وبينها كسر ثلاثة تماثيل كبيرة من حجر الدويوريت الاسود للملك طاهرقا . وعند رجوع اسرحدون من حملة مصر نقش صورته في الصخور الجبلية عند مصب نهر الكلب قرب بيروت تذكارا لهذا الانتصار الباهر . وفي اثناء حكم اسر حدون كانت موجات الاقوام تزحف نحو آسيا الصغرى مرة من الشرق الى الغرب واخرى من الغرب الى الشرق وقد تشكلت حينذاك دويلة الميذيين في شمال ايران .
وحدث في أواخر حكم اسر حدون خلاف على وراثة العرش فعين ابنه الصغير آشور بانيبال وليا للعهد وذلك ارضاء لامه البابلية نقبة . ثم عين ابنه الكبير ( شمش شم او كن ) ملكا على بابل على أن يدين بالولاء لأخيه ثم تمرض اسر حدون وحدثت فتنة في مصر جهز لها حملة لقمعها الا انه توفى في الطريق وخلفه ابنه :
آشور بانيبال ( 669 – 629 ق م ):
كان آشور بانيبال مولعا بالآداب والفنون الجميلة وجمع كتبا كثيرة وأمر بترجمة الواح الطين المكتوبة بالسومرية أو الاكدية أو البابلية وخفضها في مكتبته العامرة التي عثر عليها في نينوى . أمر آشور بانيبال قائد الجيش الاشوري ( شانيوشو ) بالاستمرار في السير بالجيش الذي كان والده قد جهزه لقمع الفتنة في مصر فتقدم هذا الى الدلتا وحارب طاهرقا والامراء المصريين الاخرين وفتح ممفيس . ثم لحق بطاهرقا حتى مصر العليا وفتح طيبة ايضا وهكذا خضعت مصر جميعها للحكم الاشوري . وعين آشور بانيبال عليها ولاة مصريين ومنهم بسماتك وتعاقد معهم على ان يدفعوا الجزية للدولة الاشورية ويقدموا الولاء لها . وبعد انسحاب الجيوش الاشورية ضم بسمانك المقاطعات المصرية تحت لوائه وأسس السلالة السادسة والعشرين وكانت موالية للدولة الاشورية . أما في بلاد بابل فقد ذكرنا سابقا ان اسر حدون كان قد عين أحد أولاده المدعو ( شماش شم اوكن ) حاكما على بابل , فلما تسلم الحكم آشور بانيبال في نينوى , تقدم أخوه ( شماش شم او كن ) بالطاعة والاعتراف بالسلطة العليا لملك نينوى , وفي الوقت ذاته اعترف آشور بانيبال بملوكية اخيه على بابل , وهكذا تعاون الاخوان على حكم بلاد الرافدين مدة عشرين سنة , ولكن حدث بعد ذلك ان انجرف الاخ شمش شم او كن في تيار التمرد الذي طغى على بلاد بابل ضد آشور بانيبال فشق عصا الطاعة على أخيه فجرد آشور بانيبال حملة تأديبية ضد بابل وحاصر أخاه فيها وفتحها عنوة عام ( 648 ق م ) ودمرها واحترق شمش شم اوكن وسط لهيب قصره . ثم زحف ملك نينوى جنوبا للانتقال من القبائل الارامية والعربية التي ساعدت الثورة واخضعهم جميعا وهاجم العيلاميين في عقر دارهم وفتح عاصمتهم السوس وخربها ونبش قبور ملوكها وهكذا دان الشرق الاوسط للحكم الاشوري .
حسب نص آشوري متأخر ان آشور بانيبال حكم ( 42 سنة ) , فيكون زمن حكمه (من 669 الى 627 ق م ) , الا ان الحوادث التاريخية في أواخر حكمه كانت غير واضحة ومرتبكة ولم يرد اسمه في الاخبار المدونة خلال السنتين الاخيرتين من حكمه مما حمل المؤرخين على أن يضعوا نهاية حكمه في سنة ( 629 ق م ) .
آشور تيل ايلاني ( 629 – 627 ق م ):
بعد وفاة آشور بانيبال حدثت منازعات على العرش الآشوري استطاع بعدها ابنه ( أشور تيل ايلاني ) أن يفوز بالحكم ولم يكن حازما كأسلافه ملوك الامبراطورية الاشورية وكان يعتمد في قمع الفتن الداخلية وفي الحرب الخارجية على قائده " سن شر لشر " ولضعف المملكة الاشورية انسلخ عنها كثير من المقاطعات البعيدة كمصر التي استقلت وبقيت على ولائها للدولة الاشورية وكذلك انفصل كثير من المدن الساحلية في فلسطين وسوريا ومدن بلاد ارمينية حتى ان احد ملوك الماذيين تجرأ وهاجم بلاد أشور فصده الجيش الاشوري وقتل الملك الماذي ودحر جيشه .
سقوط نينوى ونهاية الآشوريين:
وظهر في بلاد بابل الامير الكلداني ( نبو بو لصر ) فأسس فيها سلالة جديدة مستقلة في عام ( 626 ق م ) عرفت بالسلالة البابلية الاخيرة أو المملكة الكلدانية . وبعد ان استقل هذا الامير في بابل حاول الاستيلاء على المدن الاشورية وممتلكاتها وفي نينوى تمرد القائد الاشوري ( سن شر لشر ) على سيده الملك ( اشور تيل ايلاني ) واستقل ثم عزل الملك الذي كان يقيم حينذاك في نمرود . الا ان اخا الملك ( سن شر اشكن ) حارب القائد الثائر وتمكن من القضاء عليه واستأثر بالسلطة وسكن في نينوى . وقد اثرت الحروب الداخلية هذه في سمعة مملكة آشور وكانت سببا لانفصال اكثر الاطراف عنها ومع ذلك بقيت مصر موالية للدولة الاشورية وكذلك كانت القبائل الشمالية من الحيثيين والليديين لانها كانت خائفة من توسع ملك الماذيين الجديد وهو ( كي اخسار ) الذي استطاع تأليف جيش ميذى قوي استولى به على شمال ايران والرافدين ثم نزل الى سهول آشور واشتبك مع الجيش الاشوري في حروب طاحنة .
واستطاع ( كي اخسار ) بعد اتفاقه مع ملك بابل نبو بو لصر من تقويض المملكة الاشورية ان هجم كل منها على العاصمة نينوى وحاصراها وبعد حملات شديدة ومقاومة عنيفة سقطت حصون المدينة بيد الغزاة ( 612 ق م ) فحرق الملك ( سن شر اشكن ) آخر ملوك آشور نفسه في قصره وهرب من المجزرة احد الامراء الاشوريين المدعو ( آشور اوبلط الثاني ) الى حران . فاستولى ( كي اخسار ) على شمال شرقي بلاد آشور كما استولى نبو بو لصر على جنوبيها وارسل ابنه ( نبوخذ نصر ) للحاق بفلول الجيش الاشوري الهارب الى حران وقضى عليه عام ( 609 ق م ) وهكذا اسقطت الدولة الاشورية التي دوخت الشرق الاوسط زمنا طويلا بحروبها المستمرة وغزواتها المتعاقبة .
ثم استمر ( نبوخذ نصر ) في التوغل غربا سالكا طريق الفرات الاعلى واحتل المقاطعات التي كانت فيما مضى تحت الحكم الاشوري وكان فرعون مصر المعو نخو ابن بسماتيك يتقدم لمساعدة الاشوريين الا ان تقدمه كان بطيئا لانشغاله بفتح مدن فلسطين وسواحل سوريا وقد نقش صورته في الصخور الجبلية عند مصب نهر الكلب قرب بيروت ولما تقدم شرقا اصطدم بجيوش نبوخذ نصر قرب مدينة كركميش عام (605 ق م ) وكانت واقعة حاسمة بين الطرفين انكسر فيها الجيش المصري وتراجع الى حدود بلاده .
المصدر : مواقع ألكترونية