دراسات وأبحاث في الثقافة الأمازيغية -2-
يختزل هذا القول الاختلاف الزمني بين العرس الأمازيغي واللقاء الجنسي في المجتمعات الزراعية، بين موسم الحصاد وموسم إقاء البذور بالتوالي، وهو اختلاف يحتاج إلى توضيح تلاغنجا / من البوار إلى الإخصاب
ترتبط تلاغنجا بالأسطورة من خلال جوانب عدة في الثقافة الأمازيغية وقد فصل في ذلك كتاب "محمد أوسوس" بعنوان دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي" ونتفق مع ما جاء في هذا الكتاب مع وجود بعض الإضافات التي يمكن أن نضيفها لهذا الحقل المعرفي، من خلال مقارنة تلاغنجا مع نصوص ايسخيلوس المسرحية خاصة المتضرعات.
لقد سبقت الإشارة إلى الدور الذي أسند للمغرفة : " تلاغنجا " في الثقافة الأمازيغية، بكونها معادلا لكل إنسان سيء الحظ، لذلك توصف المرأة البائرة بالمغرفة وهناك أمثال كثيرة تبخس من قيمة هذه الوسيلة " المغرفة"، كما في قول الأمازيغ :" أياغنجا نْ تركين '' Ayag^onja n’tirguin'' بما معناه : " يا محمل الجمر " للإشارة بنعت مشين وبدلالة مقذعة على إنسان كما في قولهم : إيبدا أو غنجا ك أو حرير " Ibdda ough^nja g^ohorir " أي وقفت المغرفة في الحساء " وذلك للاستغراب والاستخفاف من الكذاب مثلا، وكأن المستحيل تحقق وهناك أمثلة أخرى منها " ماكّ يسودان كـ لقش أياغنجا؟ " بمعنى من يقدرك أيتها المغرفة بين الأواني ؟
وهو سؤال لا يراد منه الجواب، لأنه يفيد نفي الفائدة والجمال عن هذه المغرفة ، مقارنة بباقي الأواني لكن كيف يطلب الماء بكونه الحاجة للحياة والاستمرار، من الله بكونه المقدس، باستعمال المغرفة والتسول بها إلى الله ( إله الغيث ) ؟
اسطورة اله المطر الأمازيغي انزار وحبيبته تيسلت (من الميثولوجيا الأمازيغية)
هذا التناقض الذي نكشف عنه بعقل اليوم هو روح " الميث (الأسطورة) التي قبعت في عمق الفهم البشري القديم عموما للطبيعة، والتأثير الأمازيغي في القوى المتحكمة في المطر من جهة ثانية، لذلك ارتبطت مجموعة من الطقوس بالاستسقاء طلبا للغيث حينا أو طلبا لإيقاف المطر حينا آخر حسب الحاجة والضرورة، فأمكن الحديث عن " وجّا " وتامغرا ن ووشن " "tamghra n ouchen" و"تسليت ديسلي" : وغيرها بحثا في هذا العمق الدلالي المؤسس للأسطورة الأمازيغية المجسدة في أشكال كثيرة من بينها "تلاغنجا".
تلاغنجا ومعادلاتها في الثقافة الأمازيغية
نستهل القول هنا بحكم انطباعي لمؤلف كتاب " موت العقل الأمازيغي " عبد الحميد العوني في قوله:" لم يصل الأمازيغ إلى تأليه الرجل ولا المرأة للصراع الداهم بينهما – حول الأرض ولم يطلبوا الخلود ، لأن الحرب عرف الأعراف ولعدم استقرار الملكية لم يستقر قانون "ونحن نتأمل هذا القول نستحضر أسطورة " تسليت وإيسلي " التي طرزت جغرافيا بلاد " تامّزغا" من جبالها ووديانها وأحواضها المائية ، فارتبط الماء بالمرأة في تفاصيل الحياة وفي طقوس التفاعل مع الطبيعة بظواهرها، فبالعروسة يتم الاستسقاء ، كانت العروسة حقيقية كما في بعض أيام العرس المسماة : أسّْ ن تكوري " A’ss ntgwori "، أي يوم "القربان" إذ تعطي العروسة وقرينها شيئا لعين أو ساقية أو بئر، أو ما شابه ذلك وهذه العطايا تكون لوزا أو تمرا أو شيئا آخر، مما يؤكد على هذا الارتباط الوثيق بين " العرس " والماء وهو ما يؤكده لفظ تسليت نونزار tislit nourar أي عروس الغيث، وهي قوس قزح. ولعل تقديم تلاغنجا (تعريسها) لتنتقل من حالة البوار إلى حالة الزواج بإله المطر ( الغيث ) من أهم البنى الدلالية المؤلهة لهذه "العروسة " المقدمة بكرا طلبا للغيث، وما هذا الطقس إلا شكل من أشكال التأليه للمرأة خاصة عندما نفترض أن العروس قد تكون عروسة حقيقية في الأصل كما تشهد مجموعة من الأشكال لحفل الاستسقاء في بلاد " تامازغا" هذا ما يؤكده قول محمد أوسوس :" إن زواج إيسلي ( العريس ) وتيسليت ( العروس ) تتخذ لدى الأمازيع بعدا كونيا يناظر زواج السماء بالأرض وزواج أنزار بتسليت أونزار وهو اقتران تكاملي يتم تمثيله على المستوى الرمزي أيضا بزوج asakkwm- tafrdut ( ( المدق palon – الجرن mortier (
نستشف هنا معادلا جديدا وهو " الجرن ( تافردوت ) وأهميتها في الارتباط بإله الغيث، فإذا كانت المغرفة رمز الطلب ( طلب الغيث ( فإن الجرن رمز القناعة " ف " النساء في قبيلة زمّور إذا رغبن في انحباس المطر حين تهدد غزارته المحصول ، فإنهن يعمدن إلى ملء جرن ( تافردوت) بالماء ، وتغطيه بلويحة planchette ومواراته في التراب بعمق ضحل جدا، ثم يمررن طبقة خفيفة من الأرض فوقها ، ويضرمن النار عليها"
إنها ( تافردوت ) الوسيلة التي يطلب بها انقطاع المطر عندما يتجاوز حد المنفعة والرحمة ، بحيث ترى النساء يرددن : أداغ إيسيكّ ربي كر إيكوسيفن " sdagh issikk r’bbi gu’er Igoussifen " بمعنى اللهم ألطف بنا بين الأنواء. هذه الأدوات التي اكتسبت معانيها من الحياة، وهذه المرأة التي امتلأت بهذه المعاني، لم يكن لها أن تكون كذلك لولا لحمة من العلاقات الهادفة لفهم الحياة من خلال إعطائها معنى وكذلك كانت " الأسطورة هي التي تعطي للحياة معنى وشكلا"ولعل ارتباط هذا الطقس بالمرأة، لأن النساء هن المنظمات والمشاركات والفاعلات في طريقة الاحتفال، من الفكرة حتى التنفيذ والنهاية ، يزكي قدرات المرأة في المجتمع الأمازيغي، وليس بنيها وبين الرجل أي صراع كما أدعى القول الذي جاء به عبد الحميد العوني " والمهم هو الشعائر وليس الأفراد الفاعلين وهو ما يشعر الأفراد أنهم غارقون في العالم المقدس، الذي هو أساس الكون وأساس نظامهم السياسي ومستهلكون فيه" فلو كان للرجل من سلطة لَمنع هذه الزوجة وهذه البنت، من الانخراط في هذا الحفل، وما وجدنا له أثرا. وربما يعود سبب تراجع هذا الحفل في السنوات الأخيرة رغم توالي سنوات الجفاف (زمن الطقس( إلى هذه السلطة المحدثة في بلاد " تامازغا" ( البلاد المغاربية ) رغم إمكان وجود مناطق مازالت تحتفظ بشعائرها القديمة كما عند القبايل في الجزائر ، "وأيت رك " Ayt Reg/twareg، في مالي والنيجر المطلق عليهم التوارق أو الطوارق ، وكما هو الشأن لبعض القبائل في ليبيا وذلك سنفصل فيه، في مقام أخر.
أسطورة عروس المطر - قصة الغنجة - أسطورة أمازغية - الحكواتي الجزائري
تلاغنجا الأمازيغية والمتضرعات الإغريقية:
تجتمع النساء الأمازيغيات حول رمز الاستسقاء " تلاغنجا " متضرعات لإله الغيث "، كما المتضرعات في مسرحية اسيخيلوس الإغريقية وهن حاملات لأغصان حديثة القطع ومكسوة بالصوف، هؤلاء الفتيات يعادلن النساء الحاملات لرمز الاستسقاء، لأنهن يشتركن في غاية واحدة رغم اختلاف مظاهرها ، إنهن جميعا مستغيثات، أما نساء تلاغنجا " فيستغثن من الجفاف، وأما المتضرعات فيستغن من الزواج المحرم، فلنتأمل في شكل استغاثتهن كما قال الملك (أحد الشخصيات) :" إننا نحيكن، من أية مملكة جئتن ؟ فملابسكن غريبة علينا إنها ثياب بربرية، ناعمة ورفيعة النسيج، ليست كالتي تلبسها المرأة في أرجوس أو في هيلاس، وكيف تجاسرتن على المجيء هكذا إلى شواطئنا غير خائفات، بغير استدعاء ولا ضمان وبدون صديق ولا مرشد ؟ إن هذا مدعاة للعجب حقا إن الأغصان التي هي إشارة المتضرع موضوعة إلى جوانبكن أمام هذه الآلهة ذات الأعياد"
"تحدثي إلي بكل ثقة ، أنا بيلاسجوس ، ابن بلايخثون المولود من الأرض وحاكم هذه البقاع و العشيرة التي تزرع هذه الأرض تسمى بعدل عشيرة البلاسجيين ، نسبة لي ، أنا ملكهم كما أنني أحكم جميع المملكة الممتدة غربا والتي يجري خلالها نهر هالياكمون "
في هذا القول نقف عند الحكم العشائري/الملكي الذي يعتمد الزراعة، مما يعطي للأنهار مكانة هامة ويفتخر بها، وذلك واضح لا يحتاج التفسير ، ويمكن التأكيد على هذا النظام الزراعي النيوليثي كما سبق أن أشرنا إليه في طقس تلاغنجا . وتلك مرحلة من التاريخ القديم بعد المرحلة الباليولتيكية المعتمدة على الصيد ، وهي الفترة التي " اكتمل فيها تطور البشر البيولوجي، هي من أطول الفترات في تاريخهم، وأكثرها غنى في تشكلهم وقد كانت أيضا، ومن عدة جهات زمن رعب ويأس لم يطور أناس تلك الفترة فكرة الزراعة ولم يقدروا على العناية بطعامهم، بل اعتمدوا بالكامل على صيد الطعام وتجميعه، كما كانت أهمية الميثولوجيا في تقرير نجاتهم واستمراريتهم بنفس أهمية سلاحهم ومهارتهم التي طوروها لقتل فريستهم وتحقيق درجة تحكم معينة ببيئتهم "
لعل" للانتقال من حياة الصيد إلى حياة الزراعة أهمية كبيرة في الانتقال من حياة التنقل بحثا عن الصيد بأنواعه، من حيوان وماء، إلى الحياة الزراعية المعروفة بالاستقرار وطلب الماء من القوى الخفية بدلا من البحث عنه، كما في حياة الصيد، والاستنجاد بالقوى الخفية حاضر في الحياة الباليالتيكية كما في الحياة النيوليثية مما أنتج الأساطير التي يرتكز عليها الإنسان لجلب قوته، وما يدل على الحس الأسطوري لهذا التحول من حياة الصيد إلى الحياة الزراعية ما جاء في المتضرعات في تعريف أحد الآلهة:" إنه أبولو أستاذ العلاجات والتنبؤات، الذي عبر الماء من ناوياكتوس Naupactus ، وطهر هذه الأرض من الوحوش التي تفترس البشر، تلك المخلوقات التي، لما كانت الأرض قد تدنست بجرائم القتل القديمة، قد قامت بتربيتها كما تفعل زوجة الأب القاسية – وتتألف من أسراب الأفاعي المتوحشة التي تقاسم الإنسان ميراثه"
تشترك الحياة القديمة المعتمدة على الصيد، والحياة الجديدة ( الزراعية ) في أصل أسطوري وهو " الصعود الروحي " الذي يتذرع به الصيادون في المرحلة الباليالتكية بحيث "كان رجل الشامان يجيد ممارسة الإغشاءات والنشوات الروحية، التي كانت رؤاها وأحلامها تلخص تقاليد الصيد وتعطيها معنى روحيا
إله المطر أنزار وعروسه تلغنجا
هذا الصعود والانتشاء نجدهما في طقس تلاغنجا في محاولة النساء الارتقاء في مدارج السماء لجلب الغيث ( المطر)، من الإله واستعمال " المغرفة " معادلا ماديا لسلم غير مادي يربط بين المساء والأرض، وأما الأغصان التي حملتها المتضرعات في مسرحية اسخيليوس فمعادل آخر يربط بين مقامين أحدهما يتميز بالسمو (مقام الملك)، وهو معادل السماء وثانيهما يتميز بالوضاعة وهن البنات المتضرعات " البربريات " كما وصفهن الملك في المسرحية، وهن معادل للأرض، و الأغصان المكسوة بالصوف معادل لذلك السلم الذي تحدثنا عنه، ومن هنا يكتسب الطقس أهمية جليلة في الربط بين الحياة والأسطورة، " فالأسطورة هي التي تعطي للحياة معنى وشكلا إلا أنه ومع تقدم الحداثة، أحدث اللوغوس نتائج مذهلة ، أصبحت الأسطورة بسببها قليلة القيمة "، وذلك نص ما يشير إليه قول نادية البنهاوي إذ قالت :
" فالأسطورة ما هي إلا رؤية متوارثة لوضع الإنسان العبثي في الكون منذ نشأته وعذابه غير المفهوم وغير المعقول، وصراعه وتحديده لقدره ذاك مع نفسه ومع الأقوياء الذين يمثلون الأغلبية أحيانا أخرى يمثلون الآلهة المعادلين للحكام بكل الجبروت والتسلط".
طلة الصباح: العادات والتقاليد القديمة الراسخة عند العروس الأمازيغية
لكننا نرى أن فهم نادية قد انصرف عن الأسطورة ليدل على توظيفها ولو تأملنا في الأساطير لوجدنا أنها تحمل تمفصلا دلاليا بين ظاهر الكلام وفحواه، فلا خجل من الإقرار أن السريع يشار إليه بالأعرج، والبصير بالأعمى، والذكي بالمجنون، فكذلك يكون العبث هو معادل النظام، ولذلك فإن المغرفة البائرة هي العروسة المتزوجة بالإله: إله الغيث طبعا.