دراسات وأبحاث في الثقافة الأمازيغية-1-
نعتبر هذه المدونة واجهة علمية، تبحث في قضايا الثقافة الأمازيغية، ليس للتعريف بها فقط، بل للبحث في الإشكالات التي ترتبط بهذه الثقافة في تشكلاتها المختلفة، ولا نعتبرها مدونة شخصية، بقدرما نهدف إلى الانفتاح أمام مساهمات من مختلف الفاعلين، في الرأي والرأي المختلف، من أجل النقاش العلمي الفعال والمنتج..
الطقوس الأمازيغية
آلة التضرع لإله الغيث
يتوخى البحث في الثقافة الأمازيغية نتائج علمية مهمة، وذلك بنقل الحياة من شكلها الممَارَس العفوي إلى الشكل الأدبي، من خلال مقاربات نقدية تهدف إلى الاشتغال على الأشكال المكونة لنص محتمل، بناء على القراءة اللغوية والتحليل البنيوي والمقاربة المتعددة الأوجه، والمقارنة بالنصوص المنصوصة، والمساءلة المنهجية الهادفة إلى البناء، وإن ظهرت وسائل الهدم والنقض في بعض السياقات.
من هذه الزاوية نظرنا إلى " تلاغنجا"، وكان لنا أمل كبير أن نفيد القارئ، لكونه سينفتح على ثقافة غريبة عنه أو عن ثقافة يمارسها دون وعي بمكنونها، فيكون لنا في ذلك حظ من الاجتهاد لتوفير مصدر من مصادر التوليف المعرفي، ويكون للقارئ حظ من تلقيه، وهي كلها غايات نبيلة، تدل على رمزية الحياة كما يصورها حفل "تلاغنجا
اسطورة اله المطر الأمازيغي انزار وحبيبته تيسلت (من الميثولوجيا الأمازيغية)
تلاغنجا محاولة لفهم لغوي :
تعود تلاغنجا إلى "أغنجا" و "تاغنجات"، وهي المغرفة باللغة العربية، وما يمكن أن نقابله في اللغة الفرنسية بالكلمة la louche، وهي من المصنوعات الأمازيغية القديمة التي لازمت الإنسان في حياته ، تصنع من الخشب فأصبحت تصنع من الألومنيوم وغيرها. ما بهمنا من هذه الآلة أنها حملت دلالة ورمزية في الثقافة المغربية. سبب في هذه الدلالة تدحرج الكلمة في أوساط مختلفة، فسميت تاغنجا عند البعض، وتلغنجا عند البعض، وتلاغنجا عند البعض الآخر، في حفل استسقائي واحد مختلف المظاهر. فلماذا تاغنجا أو تلغنجا أو تلاغنجا؟
تلا غنجا والتداول في الأوساط الناطقة بالعربية
تاغنجا في هذا التداول نطق عربي (تعريب) لكلمة تاغنجات بحذف نصف تأنيثها، فبقيت مخنثة، تحمل صفات الذكورة -أو التذكير- في آخرها، والأنوثة - أو التأنيث- في أولها. لأن التأنيث في الأمازيغية يكون بإضافة التاء في أول الكلمة وفي آخرها، وهذا يسري على كثير من الكلمات مثلا:
تاهلا بدلا من تاهلات وهي تالات أي العين
تادلا بدلا من تادالت وهي العنقود.
تلاغنجا بين عملية التزيين والاقتران
إذا كانت كلمة غنجا في أصلها تعني أغنجا أو تاغنجات فإن كلمة "تــل" تفيدا معنى إضافيا يتفاعل مع معنى أغنجا لإنتاج معنى مركبا أو معان مركبة كالتالي:
تّــل: تعني في الأمازيغية تسلق أو غط ، والمعنى المستفاد من تلــغنجا هو غط المغرفة، " couvrir la louche" وهي الدلالة المعروفة " تاغنجات" ذات الوظيفة المطبخية إلى الوظيفة الإيحائية المحققة من خلال المظهر الموحي بالدمية، والدال على العروسة : تيسليت نونزار. قبل الدلالة على العمق الأسطوري الاستسقائي.
أسطورة عروس المطر - قصة الغنجة - أسطورة أمازغية - الحكواتي الجزائري
تلا غنجا: لها دلالات كثيرة في الامازيغية ، منها تّل أغنجا ، وتفيد غط المغرفة الذّكر، وتلا أغنجا بحيث تدغم في كلمة واحدة، وتعني تزوجت المغرفة الذكر واقترنت به. أما اللفظ "تـــلا" لوحده، فيعني اسما أمازيغيا من أسماء الأمازيغيات ومازال متداولا. يأتي هذا الاسم منفردا أو مستقلا ليدل على ملكية مقدرة، فنقول: إن " تلا" تعني مالكة لشيء ما مقدر، كأن نقول " ذات السعد" أو ذات الخير أو ذات الأبناء وغيرها من المقدرات، وقد يصرح بمضافها المقدر فيصبح صريحا كقولنا " تلا أيتماس" أي : ذات الإخوة الذكور" وتسمى به الفتات البكر أملا في إنجاب أطفال ذكور في السنوات المقبلة، كما يمكن أن تسمى به الفتاة الصغرى افتخارا بكونها بنتا منتظرة بعد عدد من الذكور، وقد تسمى به إحدى الفتيات بعد تكاثرهن أملا في وضع حمل ذكر فيما سيأتي، والحديث عن تلاغنجا، في هذا السياق يحمل دلالات مركبة مما يلي:
تل أغنجا وتعني: غط المغرفة/ الذكر.
تلا غنجا وتعني مالكة المغرفة الذكر دائما.
لا يمكن فهم المراد من هذا التركيب إلا بفتح آفاق تأويلية ترتبط بالثقافة في بعدها الأكثر عراقة، ونعني يذلك المحاولة التي تمكن من استجلاء المكنون من هذا المركب.
تلاغنجا محاولة للتأويل في سياق الثقافة الأمازيغية
يرتبط اللفظ "أغنجا" في الثقافة الأمازيغية بالبوار، لأنه الاسم المستعار الذي يطلق على الفتاة البائرة.التي لم تتزوج في وقتها أو لم تتزوج قط ، ومازال هذا اللفظ متداولا في كثير من الأوساط بهذا المعنى ، لكن تعقب هذه الدلالة سنجدها أكثر انتشارا في المغرب بإيحائية أخرى ، إنها ذلك الوحي الوظيفي الذي يجعل من المغرفة والأدوات المطبخية ، بعدها ، وسيلة تسلط البوار على الفتاة إذا ما ضربت بها . فيتقى ضرب الفتيات بهذه الأدوات ، لئلا تسلط عليهن "لعنة البوار" ، هذا البعد السحري الذي تحمله "تاغنجات" (المغرفة) ويمكن أن تحمله الأدوات التي تعيش معها في المطبخ كذلك ، تنقلها من وظيفة آلية إلى وظيفة تأثيرية ، مما يكسبها قيمة إضافية ، يمكن أن نطلق عليها بعدا تأليهيا . فتتأسس الماهية المركبة من الاستغلال والتأثير ، في هذا الشيء الذي تسري روح خفية فيه لترقى به ، من عبودية المطبخ إلى ألوهية تتحكم في مصائر الزواج ، ونلاحظ مرة أخرى نوعا من التفاعل بين البوار والقداسة في الثقافة الأمازيغية ، لأن "الفتاة البائرة ، أو المرأة البكر" التي لم تتزوج في حياتها ، تجمع بين الوضاعة الاجتماعية والقداسة الإلهية ، وغالبا ما تربط الأماريغ الاستشفاء من مجموعة من الأمراض "بسحرية" لا توجد إلا عند هذه العذراء ، نسجل هنا التفاعل المتبادل بين المغرفة (تاغنجات) وهذه العذراء فتقدس هذه الآلة كما تقدس هذه العذراء ، وتقدس العذراء كما تقدس الآلة ، ولسنا في حاجة لتقديم إجابة عن السبق بالقصة المعروفة بين الدجاجة والبيضة .
إله المطر أنزار وعروسه تلغنجا
تلاغنجا والعذراء ملامح التواشج
إذا احتكمنا إلى الثقافة الأمازيغية ، سنجد حفلا طقسيا يقام للاستسقاء ، وهو حفل نسوي بامتياز تقوم به النساء والفتيات العذارى على حد سؤاء أيام الجفاف طلبا للغيث ، وتختلف تمظهرات هذا الحفل من منطقة لأخرى ، لكننا نرى الحفل في الجنوب الشرقي اقرب إلى هذا البعد الطقسي الأقدم والصرف ، من الأشكال الأخرى ، وهذا لا يعني انتفاء سمات الأصالة في الأشكال الأخرى كما في الريف مثلا ، فيما كان يسمى "تيسليت ن أنزار" أو" تيسريت نون زار " بالنطق الريفي أي عروس الغيث أو المطر . كما لا يعني انتصارا لذاكرتي الطفولية، أو الانتماء الجغرافي ، كان حكمنا على "تلاغنجا" في الجنوب الشرقي أنها الأقرب إلى الأصل لظروف كثيرة ترتبط ببنية الحفل الطقسي من جهة مقارنة مع الأشكال الأخرى ، ولظروف انغلاق جغرافي ولغوي وثقافي من جهة ثانية وظروف سنكشف عنها فيما بعد.
عودة إلى" تلاغنجا" والعذراء فصفات الأنوثة قاسم مشترك قطعي بينهما ، وارتباط الاسم "تلا" بالإنجاب والخصب من جهة ثانية ، يتجلى مرة أخرى في عملية الاستسقاء بالإضافة إلى الرمزية التي تظهر من خلال تحقيق العذراء للوساطة بين المريض والهة أو إله يوفر الشفاء (الاستشفاء) ووساطة المغرفة (تاغنجات) لتوفير الغيث من اله الماء أو الغيث في العادات الوثنية ، ومن الله بلغة التوحيد ، حيث العذارى يرددن "أتلا غنجا أسي أوراون سيكنا غر أي ربي أديك أنزار سكيكان"، (الكاف الأولى تميل إلى الشين والثانية جيم مصرية)، ما معناه:" يا أيتها المغرفة ، ارفعي يديك إلى السماء، واطلبي الله أن يغيثنا بالدلاء" ، وتفيد في الفرنسية هذا المعنى la louche (belle ) , tes mains au ciel , demandant au Dieu qu’il nous sauve , la pluie aux sceaux .)
تلا غنجا والعروسة والزواج المقدس وبداية الخلق
تسمى تلاغنجا في شمال المغرب تسليت ن أنزار، وهي شكل طقوسي منقرض في الشمال رغم تعاقب سنوات الجفاف ، وهذه العروسة التي يستسقى بها ليست مجرد دمية يلعب بها فترمى لينتهي تاريخها ، إنها في الثقافة الأمازيغية رمز وعمق دلالي خصب لان العروسة ذاتها يستجاب لها ، كما هو شائع في هذه الثقافة ، وهي معادل لعروسة أسطورية قدمت قربانا للماء في قصص متداولة بروايات مختلفة ، فيما يسمى علاقة " تسليت و ايسلي " بالتضحية من أجل الحب في كثير من الأماكن ، الأكثر من ذلك أن معالم جغرافية مازالت تشهد لنا بآثار تاريخية لهذه الأسطورة ، لان كثيرا من الأنهار تدعى بذلك ، وكثير من الأماكن المهمة كـــ"تيزي اوسلي " تيسليت "ايسلي" م ّ ايسلان" وغيرها ، ومنها قوس قزح المسمى "تيسليت نيكنا " أي عروس السماء " هكذا فسر الإنسان الطبيعة من حوله عندما صعب عليه فهم ذلك، وانطلق من ذاته لمحاولة فهم الطبيعة. ويمكن أن نلتمس أوجه "التعريس " في تزيين تاغنجات حتى تصبح شبيهة بالعروسة ، فتحمل على الأكتاف في موكب نسوي لأداء الطقس المرتبط بالجفاف خصوصا .ونرى أن هذا الطقس يتمظهر في صور أخرى أكثر اتساعا في الزمان والمكان ، وفي أشكال أخرى كــ "لالة بويا" المعروفة في الشمال (الريف) بـ"رارا بويا" ، وتسليت في الجنوب الشرقي التي سميت في طفولتنا (الثمانينات والتسعينات وربما قبلهما)، "تسليت ن أيت عدّو"، وهي عروسة تقدمها أسرة من أسر" أيت عدو" ممثلة في إحدى طفلاتهم للإحتفال، لكن الاشتراك لا يكون لأيت عدو وحدهم، بل يتعداهم إلى القبيلة كاملة( إيملوان)، ثم إلى سائر سكان المنطقة أو إلى الأمازيغ جميعا، في التاريخ الغابر.
ولما كان المبتغى من الزواج هو الإنجاب والخصوبة فان الخلق من خلال طلب الغيث، وهو تلك النطفة التي تعيد تلقيح الأرض لخلق الحياة وتحقيق البعث في الموتى من جديد.
طلة الصباح: العادات والتقاليد القديمة الراسخة عند العروس الأمازيغية
تلاغنجا: قراءة في ضوء الميثولوجيا الإغريقية
تنحو هذه الدراسة نحو مقاربة مقارنة، بين حفل طقوسي حي، وحاضر الآن هنا، وبين نص مسرحي مقروء وحاضر في المتخيل من خلال تمثله ألان هنا، والغرض من هذه المقارنة " أدْرَمَة"، ( من الدراما)، الشكل الطقسي الحاضر في صورة تلاغنجا، من جهة والبحث في التقاطعات الحضارية بين حضارة إغريقية عالمة وأخرى أمازيغية "متناثرة" وفي حاجة لعقل جامع لقراءة التراث في ضوء الحاضر، وليس لتأويل الحاضر في ضوء التراث. ومن هذا الباب نطرح مجموعة من الإشكالات في الشكل الآتي:
كيف يتم الإعداد لحفل تلاغنجا؟ ما ظروفه؟ وكيف يشتغل؟ ما علاقته بالأسطورة وبالتاريخ؟ وما الفائدة المعرفية من العودة إليه، في عصر الطقوس الافتراضية؟
تلاغنجا: الوصف والتحليل
تلاغنجا كما أشرنا سابقا، ترتبط بطقس الجفاف بعينه، وبجنس النساء، وبالمغرفة الخشبية، أما ارتباطها بالجفاف فلأنها لم تكن حفلا سنويا أو شهريا، أو أسبوعيا، أو فصليا، إنها منقطعة في الزمان العارض، وهو زمن الجفاف، فالجفاف حالة لا فصل، لئلا يفهم من القول :تخصيص الحفل بفصل الصيف، لأن الأمر ليس كذلك. وأما ارتباطها بالجنس (النساء)، فلأنهن المستجيبات بالتنسيق فيما بينهن، لتنظيم هذا "الحفل" الطقسي، وهن المعنيات به، فالرجال لا يبادرون ولا يقاطعون، وحتى إذا بادر أحدهم، فإنه يقترح ذلك على زوجته، وتبقى المبادرة الفعلية متعلقة بالمرأة. فتتشاور مع باقي النساء، وينسقن فيما بينهن لتحقيق الطقس، وأما ارتباطها بالمغرفة، فلأن الآلة (الأداة) التي يستسقى بها، في هذا الطقس، هي هذا الشكل الخشبي الذي يتصرف في شكله، بحيث ينتصب في شكل فزاعة، على هيئة بشرية، توثق قطعة خشبية (عصا صغيرة أومغرفتين صغيرتين)، فتأخذ شكل صليب ، بحيث تتحدد يدا تلاغنجا،كما يمكن أن تستعمل مغرفتين صغيرتين، تتخذان شكل الكفين، مرفوعتين صوب السماء، كمن يتضرع، ثم يعطى لها شكل العروسة بإلباسها زيا مزينا بتفاصيل العروسة الأمازيغية. ترفع بعد ذلك في السماء، ويسير الجميع في مسيرة مرددين:” آ تلغنجا آسي ءوراون كّيكنا، غر ءي ربي آديك أنزار س كيكان:" Atlghonja assy ourawn sigu’nna gher irbbi addig anzar skigan ". أي:" يا أيتها المغرفة ارفعي يديك إلى السماء واطلبي الله أن يرزقنا بالدلاء"، فتطوف النساء بها ، في البلد لجمع البركات والهدايا، وقد يصاحبن أطفالهن الذكور والإناث، كما يمكن للرجال أن شاركوهن في حفلهن غير مرددين، وغير مختلطين بهن ( المشاركة عن بعد). عندما ينتهين من الطواف، يؤمّنَّ إحداهن ما جمعن، فيحَضّرنَ حفلا كسكسيا، بعد ذلك يطعمن منه المارة والصبية وطلبة العلم، واليتامى، وأهل البلد أجمعهم، معتبرات بالبركة لا بالكمية ( الباروك)، لتعم المنفعة على الجميع لأن تلاغنجا حفل الجميع، من غير تمييز. يقام بعد ذلك حفل استسقائي مصغر، إذا لم يدرك الغيث النساء، وهن مازلن في إعداد كسكسهن. ونرى أن هذا الطقس قد احتفظ ببعده، لأنه لم يختلط بالمبارزة بالقول، أو اللعب بالجسد كما في كثير من الطقوس الأخرى. ويمكن أن نستنتج مجموعة من الاستنتاجات العامة وهي:
دور المرأة، في الثقافة الأمازيغية دور لا يؤمن بمركزية القرار بيد الرجل أو بيد المرأة.( لكل منهما شؤون تعنيه).
لا يمكن تصور تنسيق بين النساء ، وتأمين إحداهن من غير تصور تنظيم ما تتوحد فيه هذه النساء.(مجالس النساء مثلا)
·لا يمكن تصور شكلين من الاحتفال من غير إمكان وجود حفل يوحدهما في الأصل .(الحفل الخالص)
·جمع القربات من المنازل، يوحي بوجود كتلة سكانية مجتمعة بالجوار القريب (المحاذاة)، مما يوحي بكون الناس هم الذين يأتون بقرابينهم للحفل في مكان ما (أنرار/ البيدر) غالبا، في اطار الحفل الخالص، تقربا من إله الغيث.
تلاغنجا ولماذا الأسطورة؟
يحملنا هذا السؤال للنبش في أصول الأسطورة، قبل البحث في أصول الطقس، ذلك أن انتساب" تلاغنجا" إلى الأسطورة سيكون ضربا من الافتراء ما لم تعرف أصول الأسطورة نفسها، ونني بهذه الأصول القوة الدافعة إلى الأسطورة وليس الأصل اللغوي في مختلف المعاجم، كما لا نعني الأفهام الحديثة لمدلولها .
كانت حاجة الإنسان منذ القدم إلى الأسطورة، حاجة إلى الفهم، فهم الطبيعة من حوله وفهم ضعفه من جهة ثانية، بالإضافة إلى حاجته إلى القوة التي يستمدها من القوى الغيبية لتجاوز ضعفه، ومحاولة السيطرة على العالم بعد التمكن من تفسير ظواهره من جهة ثالثة.
ابتكر الإنسان وسائل جديدة لإعادة خلق الطيعة وتحقيق الخلود، ومن هنا جاءت الأسطورة مزامنة لمحاولة الإنسان استغلال الطبيعة بالصيد في العصر البالياليثي، وبالزراعة في العصر النيوليثي ، محيطين واقعهم بمجموعة من التفسيرات وأشكال الخلق فـ " قبل عشرة ألاف سنة تقريبا اخترع البشر الزراعة ، ولم يعد الصيد مصدر طعامهم الرئيسي ، لاكتشافهم الواضح أن الأرض مصدر إنماء لا ينفذ للطعام ، لم يكن هنالك تطورات تذكر للجنس البشري عدا الثورة الزراعية ، ويمكن تلمس خشية وسرور ورعب المزارعين الرواد في الميثولوجيا التي ابتكروها للتكيف مع ظروف حياتهم الجديدة، والتي حفظت أجزاء منها في ميثولوجيا الثقافات اللاحقة كانت الزراعة نتاجا للوغوس إلا أنها وعلى خلاف الثورة التقنية في أيامنا الحالية ، لم تكن بنظر الأوائل مشروعا دنيويا صافيا بل كانت بمثابة صحوة روحية عظيمة ، وهبت الناس فهما جديدا بالكامل عن أنفسهم وعالمهم " هكذا نرى دور الحياة في إنتاج الأساطير ودور الأساطير في فهم الحياة حتى تنتفي البداية الأولى للأسطورة وكأنها ولدت مع الإنسان الأول لتساعده على فهم الحياة من حوله، ونسجل من خلال القول السابق أن الأسطورة مجال لتزاوج الدنيوي بالديني من جهة ومجال لفهم الذات والطبيعة من جهة ثانية ، وكذلك كان الإنسان الأمازيغي الذي أنتج "تلاغنجا" للاستسقاء ، ونرى أن هذا الطقس يمكن أن يعود إلى المرحلة " النيوليثية " لأن المخلفات التي تعود لفترة النيولتيك، متوفرة بكثرة في شمال إفريقيا، فمغارة الدببة في قسطنطينة، ومغارة التركولوديت ( أو سكان الكهوف) في وهران تعتبر من أهم المواقع، أما في المغرب فقد اكتشفت قرية ما قبل تاريخية تقع فوق منحدر صخري وتشرف على وادي بهت " ، كما أن ارتباط هذا الطقس بالإستسقاء ، يدل على المرحلة الانتقالية التي انتقل فيها الإنسان من حالة الصيد المطلق إلى الزراعة واكتشاف العطايا التي تعطيها الأرض بغير انقطاع، وذلك ما يسمى بالانتقال من " الباليالتيك" إلى " النيوليتيك " هكذا يمكن أن تتغذى الأسطورة من الحياة اليومية بشكل رمزي لفهم تلك الحياة في عمقها، وفهم النظام المسير لهذه الحياة بما فيها من الطبيعة والإنسان معا" فالأسطورة لا تقدم معلومات بعنوان أنها حقائق، بل تقدمها، بشكل رئيسي، دليلا للسلوك، ولا تتجلى معانيها إلا حين نمارسها شعائريا أو أخلاقيا وإذا قدمنا الأسطورة على أنها نظرية فكرية خالصة نكون قد حولناها إلى شيء غريب ولا يصدق ومنه فإن " تلاغنجا" في شكلها الطقسي يمكن أن تكون أسطورة يصعب اختزالها في قواعد علمية دقيقة لإنزال الغيث من السماء، كما أنها لا تعني الخرافة بحكم ارتباطها بالممارسة الفعلية لمجتمع بقيادة المرأة هذه القيادة التي تحيل إلى العصر " الباليالتيكي " الذي قدم فيه الرجل قربانا للآلهة، ويمتهن الصيد والمغامرة لجلب القوت لشعبه وذلك ما " يعتقد المتخصصون أن أساطير الصعود الأولى تعود إلى الفترة الباليدليثية أو لها علاقة بجماعة الشامان shaman المتدينين الرئيسيين في مجتمعات الصيد [ ...] كان الشروع في رحلة الصيد ، بالنسبة إلى رجل الشامان رحلة روحية وكان يعتقد أن لديه القدرة على ترك جسده والسفر بروحه إلى العالم السماوي وعندما يذهب في غيبوبة روحية ، فإنه يطير في الهواء ويجتمع بالآلهة لأجل شعبه "
لا نقصد بهذا أن تلاغنجا تعود إلى العصر الباليالتيكلي، لأننا نعتقد أنها عائدة إلى عصر النيولويثي – كما أشرنا سابقا – لأنها مرتبطة بالزراعة، لكنها لم تستغن عن رواسب ثقافة عصر سابق، وهو عصر الصيد، وما يدل على ذلك في طقس " تلاغنجا" هو فعل التضرع إلى السماء طلبا من رمز الاحتفال " المغرفة " أن ترفع " يديها إلى السماء وتطلب الله أن ينزل الغيث بالدلاء" وهذا ما سنفصل فيه لاحقا.
إن من أهم المظاهر التي تحتاج إلى الدراسة من زوايا مختلفة لإغناء الدراسة الثقافية المتناولة لطقس في حجم " تلاغنجا "، الألبسة التي يزين بها رمز الاحتفال " المغرفة "، وملحقات هذا الزي من حلي وألوان وأصباغ ، خاصة أن الاحتفال يختزل عرسا أمازيغيا، فلماذا العرس ؟ وما دلالة التعريس " في الثقافة الأمازيغية وفي الأسطورة ؟
تحيط بالأعراس الأمازيغية مجموعة من الإحتفالات والطقوس، نذكر منها "أحيدوس" وحفل العرس ذاته، " فعلى سبيل المثال كانت أفراح العرس (تامغرا) بالريف تبدأ مباشرة بعد انتهاء الموسم الزراعي في فصل الصيف، وتدوم إلى غاية الفصل القادم الذي تبدأ فيه أشغال الحرث والزرع"ربما كانت هذه الأعراس قد ارتبطت بفصل الخريف للحاجة إلى المنتوج المقبل على استهلاكه في الأعراس من جهة، ولكون الإنسان المزارع قد تفرغ لشؤونه الخاصة في المنطقة أجمعها، مما سهل الانخراط الجماعي في العرس بخلاف الأيام والفصول الأخرى التي تضّيق على المزارعين زمن انشغالهم بذواتهم، لأن المحاصيل تحتاج إلى الري والعناية والحرص التام لإعطاء منتوج أجمل وأوفر خاصة أن " العرس الواحد يستغرق أسبوعين كاملين من المباهج والمسرات ( وقد تمتد لشهر كامل في بعض الأحيان أو عند بعض القبائل ( تتوزع بين بيت العريس وبيت العروس وبيوت أهليهما وساحات القبيلة التي ينتمي إليها العروسين، ويشارك فيها كل ساكنة القبيلة من نساء ورجال وعجزة وأطفال، وأهل وأصدقاء وغرباء ويحضرها من شاء من القبائل المجاورة "لكن الذي يجذبنا هنا هو اختلاف الزمن الذي تقام فيه الأعراس الأمازيغية عما كان في المجتمعات "النوليثية" قديما ذلك أنها تنزع نحو الممارسة الجنسية بين الذكور والإناث بعد الزراعة مباشرة وليس بعد الحصاد فقد " اعتبرت الجنسانية البشرية، مثلا إلهية، تماما مثل القوة الإلهية التي تثمر الأرض كان ينظر إلى المحصول ، في الميثولوجيا النيوليثية، على أنه ثمرة زواج مقدس، فالتربة هي الأنثى والبذور هي السائل المنوي الإلهي، والمطر هو جماع السماء والأرض لذلك كان أمرا اعتياديا لدى الرجال والنساء أن يمارسوا الجنس معا بطريقة طقوسية عندما يزروعون محاصيلهم إذ من شأن فعل الجماع هذا ، الذي هو فعل مقدس أن ينشط طاقات التربة الخلاقة