ألغاز وأسرار من حضارات الشرق الأوسط القديم لم نستطع فهمها حتى اليوم: من سومر كانت البداية -2 -
لغز النصوص الدينية المتشابهة بين الديانات السماوية مع الأساطير البابلية والسومرية
لنعد قليلًا إلى البدايات. مذكور في القرآن الكريم في سورة هود: “وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء”، وأيضًا في سورة الأنبياء الآية 30 “وجعلنا من الماء كل شيء حيّ”. وقبل القرآن الكريم، كُتِب في التوراة: “وكانت الأرض خربةٌ وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف فوق وجه المياه”.
وقبل وجود التوارة، كتب المصريون أنّ الإله رع كان أول إله يخرج من المياه الأُولى، ومنه خلق الكون وباقي الآلهة. وقبل المصريين، كانت الأسطورة السورية في التكوين، وفيها كانت الآلهة يم هي المياه الأُولى، والتي انتصر عليها الإله بعل، ثم شرع في تنظيم الكون. وقبل السوريين، كتب البابليون “عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض”. لم يكن في الوجود سوى المياه. تروي أسطورة الخلق البابلية هذه والمعروفة بـ”إينوما إيليش” أنّ الكون كلّه وُلِد من آلهة المياه الأُولى تعامة.
وقبل البابليين، بل وقبل كل شيء، كان السومريون. وأساطير الخلق انبثقت من أفكارهم. نقشوا على ألواحهم الطينية، بخطهم المسماري الأول، أسطورة الخلق الأولى. من الآلهة السومرية نمو وهي المياه الأولى، انبثق كل شيء.
هذا التشابه بين النصوص الدينية وبين أساطير التكوين الوثنية عند حضارات الشرق القديم هو أحد أكثر القضايا المحيّرة المتعلقة بتلك الحضارات في اعتقادي. لا يتوقف الأمر على فكرة ميلاد الكون من المياه، هناك الكثير من القصص المتشابهة إلى حد كبير، منها:
فصل السماء عن الأرض
في الأسطورة البابلية، والبابليون كما ذكرنا سابقًا هي الحضارة أو الامبراطورية التي تلت السومريين وسكنت بلاد الرافدين قبل الميلاد بــ 2000 عام تقريبًا، يقوم مردوخ كبير آلهة البابليين بقسم جسد الإلهة تعامة وهي المياه الأولى إلى شطرين، فيرفع أحدهما وهو السماء، ويبسط الآخر وهو الأرض.
تلاهم الإغريق، وفي الأساطير الإغريقية أيضًا تكون جيا إلهة الأرض والتي تلد أورانوس إله السماء الذي يحيط بها بشكل كامل، ثم يتم إبعادهما عن بعضهما والتفريق بينهما عنوةً. ولاحقًا في التوارة، يفصل يهوه إله العبرانيين المياه الأُولى إلى جزئين، يرفع أحدهما ليشكل السماء، ويبسط الآخر والذي تتجمع ماؤه في جانب وتبرز فيه اليابسة في جانب.
وأخيرًا، وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى: “أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما”.
الطوفان
في القرآن الكريم، في سورة هود، قال الله تعالى: “قلنا احمل من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومَن آمن وما آمن معه إلا قليل”. وفي التوراة: “وقال الرب لنوح ادخل السفينة أنت وجميع أهلك فإني إياك رأيت بارًا أمامي في هذا الجيل”. وعند البابليين أسطورة تقول: “قوض بيتك وابن سفينة، اهجر ممتلكاتك، وانج بنفسك اترك متاعك وانقذ حياتك. واحمل فيها بذرة كل ذي حياة”.
تتكرر المحاور الأساسية لقصة الطوفان في الديانات السماوية وأساطير حضارات الشرق، فالخطوط العريضة للأسطورة هي: أمر إلهي بحدوث طوفان هائل يدمر الأرض، مع اختيار إنسان صالح لبناء سفينة وإنقاذ بعض المخلوقات، ثم انتهاء الكارثة المائية واستمرار الحياة من جديد. لكن بالطبع فإن أقدم نصوص الطوفان قد ذُكِرت في ملحمة جلجامش، وهي ملحمة أدبية سومرية، عُثِر عليها في مكتبة الملك آشور بانيبال والتي أشرنا إليها سابقًا.
الهبوط من الجنة
كلكم تعلمون القصة، لا داعي لنكز الجرح القديم، والحسرة على تلك الأيام. سوف أذكر فقط أسطورةً سومرية بخصوص تلك الأرض السعيدة، ثم قوموا بالمقارنة أنفسكم.
“أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف
أرض دلمون مكان نظيف، أرض دلمون مكان مضيء”
تقول الاسطورة السومرية أنّ دلمون هو الفردوس الذي عاش فيه إنكي إله المياه، مع زوجته ننخرساج إلهة الأرض. فهل يحتاج الأمر أكثر من تربة صالحةٍ يرويها ماءٌ عذب لخلق جنةخضراء! لكن السعادة لا تدوم. إذ تقوم ننخرساج بإنبات ثماني أنواع من الأشجار العجيبة، وقبل أن تجني ثمارها وتفرح بها، يقول إنكي بقطف تلك الثمار وأكلها جميعًا.
تغضب ننخرساج وتلعن إنكي قائلةً: “إلى أن يوافيك الموت، لن أنظر إليك بعين الحياة”. لعنة كهذه تعني الكارثة، كارثة تعني شح المياه وندرتها. يصاب إنكي بثماني علل، ويتألم، ويندم. ثم تتدخل الآلهة لفضّ الخلاف، فتوافق ننخرساج على شفاء إنكي، وتقوم بخلق الإله المناسب لكل علة، حتى يصل الأمر إلى علة الضلع، فإنكي يؤلمه ضلعه، لذا تقوم ننخرساج بخلق الإلهة ننتي من أجله.
و”ننتي” هي كلمة من جزأين، الجزء “تي” يعني في اللغة السومرية ضلع، كما تأتي بمعنى “جعله يحيا” أو “أحيا”، والجزء “نن” بمعنى سيدة، بالتالي يصبح معنى الاسم “ننتي” هو السيدة التي تحيي، أو سيدة الضلع. هل تشبه هذه القصة قصة حوّاء التي خلقت من ضلع آدم، حواء التي “تحيي”!.
لماذا كل هذا التشابه بين النصوص الدينية السماوية مع الأساطير البابلية والسومرية
هناك ثلاث احتمالات، الأول هو اعتماد الأساطير البابلية والسومرية على نصوص التوراة، وهو احتمال مستبعد، بسبب أنّ ملحمة إينوما إيليش يعود تاريخها إلى قبل الميلاد بـ 1800 عام، أي قبل ولادة النبي موسى بأربعة قرون تقريبًا.
الاحتمال الثاني هو أنّ التوراة قد اعتمد على الأسطورة البابلية، وهو احتمال معقول، فاللغة البابلية والكتابة المسمارية قد انتشرت في المنطقة برمتها في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. كما قد شاءت الظروف أن يطّلع العبرانيين على الأدب البابلي إبان السبي البابلي للعبرانيين في القرن السادس قبل الميلاد.
أما الاحتمال الثالث هو أنّ كلا النصيّن البابلي والتوراتي قد اعتمدا على نصوص أقدم، أي ربما تأثرت العقيدتان بديانة قديمة تركت بصماتها في العقائد اللاحقة1.
لغز الحدائق المعلقة في بابل
لن نبتعد كثيرًا عن الحضارة البابلية، ففيها من الأسرار ما يثير العجب. لكن سنأخذكم قليلًا إلى اليونان، إلى قبل الميلاد بحوالي 225 عام، حين كتب المهندس اليوناني فيلو قائمةً بسبع أشياء، قائمةٌ أصبحت تُعرَف اليوم بعجائب الدنيا السبع في العالم القديم: أهرامات الجيزة، معبد أرتميس في أفسس، تمثال زيوس في أولمبيا، ضريح هاليكارناسوس، فنار الإسكندرية، والأكثر غموضًا على الإطلاق، حدائق بابل المعلّقة.
عجائب الدنيا السبع في العالم القديم
ما يزال صامدًا منها إلى اليوم أهرامات الجيزة فقط، في حين أن خمسًا منها قد اختفت أو أصبحت في حالة أنقاض. ورغم ذلك، هنالك ما يكفي من الأدلة الوثائقية والأثرية التي تدل على وجودها، وأنها ليست وليدة الأساطير والشائعات. كلها ما عدا واحد، حدائق بابل المعلقة، وهي اللغز الأكبر في القائمة.
تُعتبَر هذه الحدائق من إنجاز ملك بابل العظيم نبوخذ نصّر الثاني، والذي تولى الحكم في الفترة (605-561) قبل الميلاد. وإلى اليوم، لم يتم العثور على أي دليل يشير إلى أيّ أنقاض أو آثار تروي لنا شيئًا عن تلك الحدائق، ولم يرد ذكرها في أيٍّ من المصادر البابلية.
تُعتبر عملية البحث عن هذه الأعجوبة أحد أكثر البعثات الخاصة بدراسة بلاد ما بين النهرين إثارة للمشاعر. ولم يزل علماء الآثار في حيرةٍ من أمرهم حول الأماكن التي قد تتواجد فيها الحدائق، كيف كان شكلها، وما يعنيه مصطلح “معلّقة” أساسًا، وكيف تم ريها، باختصار، هل وُجِدت أصلًا أم لا!
رسم افتراضي لحدائق بابل المعلقة
كتب فيلو أنّ الحدائق زُرعت على منصة من عوارض النخيل التي رُفعت على أعمدة حجرية. على هذه التعريشة من عوارض النخيل، زرعت جميع أنواع الأشجار والزهور. لا تكمن الأعجوبة في مظهرها المعلق فقط، وإنما- حسب فيلو- كونها تضم في تربتها كل أنواع الزهور، كل ما هو مبهج ومفرح للعيون. كما أنّ الماء الذي تم جمعه على ارتفاع كبير في العديد من الحاويات، يروي الحديقة بأكملها.
حدائق بابل كما يتخيلها البعض
ليس فيلو وحده من ذكر الحدائق فقط، بل يعتمد المؤرخون على العديد من المصادر الأُخرى التي تأتي على ذكرها، منهم الجغرافي سترابو، والمؤلف اليوناني ديودوروس سيكولوس والذي وصف الحدائق بأنها “عجائب”.
بعد الكثير من الحيرة حول فيلو وديودوروس وغيرهما من المؤرخين والكتّاب ورواياتهم عن بابل وآثارها، قرر المؤرخون البحث عن مصدر آخر للمعلومات، مصدر أقدم، كاتب مثل كاليسثينين، مؤرخ بلاط الإسكندر وابن أخ الفيلسوف أرسطو، والكاتب كليترخوس، كاتب سيرة الإسكندر الأكبر. بالإضافة إلى مصدر مهم آخر، وهو الكاهن البابلي بيروسوس، ويبدو أن التفاصيل التي كتبها هذا الكاهن عن الحدائق قد ألهمت كل الفنانين الذين أتوا بعده.
لكن الوثائق شيء، وعلى الأرض شيءٌ آخر، فأين نبحث! فكل عمليات الحفريات والتنقيب التي جرت في بابل لم تسفر عن نتيجة. ماذا عن الهيكل المقوس الذي عُثِر عليه في الركن الشمالي من القصر الجنوبي لبابل عام 1899! لا! ليس أثرًا على الحدائق، ربما كان مستودعًا، أو هكذا اتفق العلماء بشأنه. ماذا عن الثقوب المتباعدة التي عُثر عليها في الطوب الذي بُنيت منه زقورة مدينة أور! هل يكون دليلًا على نظام الري الذي استخدموه لري الحدائق! لا! تم إحداث الثقوب لتأمين التجفيف المتساوي لأعمال الطوب أثناء بنائها.
إذًا، هل اختفت حدائق بابل المعلقة، أم أنها لم تنوجد أساسًا! في مواجهة هذا النقص في الأدلة الوثائقية والأثرية، طرح بعض العلماء السؤال التالي، ماذا لو لم تكن الحدائق المعلقة قد بنيت في بابل أساسًا، ماذا لو كنا نبحث في المكان الخطأ!
فالمصادر اليونانية الرومانية التي تشير إلى الحدائق المعلقة تميل إلى ذكر تفاصيل تاريخية متشابكة مع الأساطير. على سبيل المثال، يضع ديودوروس مدينة نينوى، عاصمة الآشوريين، على ضفة نهر الفرات، في حين أنها تقع على ضفاف نهر دجلة. وفي فقرةٍ أُخرى، يشرح ديودوروس مشهد صيدٍ لأسد رُسِم على جدران بابل، والذي لم يتم العثور عليه في بابل، إلا أنه يتوافق بشكل وثيق مع نقوش الصيد الآشورية المنقوشة على الجدران الحجرية للقصر الشمالي في نينوى!
تقول عالمة الآشوريات بجامعة أكسفورد، ستيفاني دالي، والتي تعتمد على سجلات عهد الحاكم الآشوري سنحاريب (704-61 قبل الميلاد)، والتي تم العثور عليها منقوشة على أحجار بشكل موشور. أنّه وعلى إحدى تلك النقوش، يتباهى الملك سنحاريب بالبناء المذهل الذي بناه: “لقد رُفعت ارتفاع محيط القصر لتكون أعجوبة لجميع الشعوب… حديقةٌ عالية على غرار جبال أمانوس، وضعت بجانبها جميع أنواع النباتات العطرية”.
فهل تصبح حدائق بابل المعلقة حدائق نينوى المعلقة؟
ربما تكشف أعمال البحث والتنقيب في المستقبل الستار عن هذا اللغز الضائع، وربما لا.
المراجع
1 (فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، ص:44، 45، 182، 183، 188، 282)
https://www.arageek.com/2021/08/22/mysterious-civilization-from-middle-east.html?fbclid=IwAR1XM4mkcuY3wrI7myWrTiWmZRL-DNRb4WHHcPQrzLBKsGmQfAT03nz4aks