"الست الحرة".. ملكة تطوان وحامية الثغور وسيدة قراصنة البحر الأبيض- 1 -
يحتفظ تاريخ المغرب مع كل ما عرفه من تعاقب للدول والملكيات منذ استقلاله عن حكم الدولة العباسية المشرقية، بأسماء لعدة نساء كان لهن دور كبير وحاسم في تحديد وجهة التاريخ، انطلاقا من كنزة الأوروبية التي تزوجها إدريس الأول، فأنجبت منه ابنه إدريس الثاني مؤسس أول دولة مغربية مستقلة عن الخلافة العباسية، وفاطمة الفهرية التي بنت جامعة القرويين أول جامعة في العالم ما زالت قائمة إلى اليوم، وزينب النفزاوية التي كان لها دور كبير في بناء مدينة مراكش وتأسيس الدولة المرابطية.
لكن امرأة من بين هؤلاء تتميز بكونها باشرت مهام الحكم مباشرة ولمدة طويلة، بل قادت العمل العسكري بنفسها، وهي "السيدة الحرة".
تتميز هذه السيدة بكونها تنحدر من أسرة موريسكية، أي من الذين طردهم المسيحيون من الأندلس، وأقامت هذه الأسرة دويلة مستقلة بمدينة شفشاون شمال المغرب خلال القرن الـ16، وبعد زواجها من حليف والدها قائد تطوان، فإنها استطاعت أن تتحول بعد وفاته إلى حاكمة فعلية للمدينة الاستراتيجية، بل وتزوجت من سلطان المغرب وقتها، ودخلت في حلف مع القائد العثماني في الجزائر خير الدين برباروس، وتقاسمت معه حوض البحر الأبيض المتوسط، لمحاصرة الإسبان والبرتغاليين ومحاربتهم انتقاما للأندلس، لدرجة أن الإسبان أطلقوا عليها لقب "البرباروسة التطوانية".
تطلق عليها المصادر التاريخية اسم "الست الحرة"، وهو ما يفسّره البعض بتأثر المغرب وقتها بمصطلحات وفدت على الأندلس من المشرق العربي. ويخلدها التاريخ كأول وآخر "ملكة" في المغرب، حيث نالت ألقابا وسلطات رسمية جعلتها طيلة نحو 30 عاما حاكمة لمدينة تطوان، وجمعت خلال فترة حكمها هذه بين العمل العسكري الدائم ضد أطماع الأوروبيين، وبين تحول المدينة إلى نسخة مصغرة من النظام الإداري والتدبيري القائمة في عاصمة المغرب وقتها، مدينة فاس
سقوط غرناطة.. ميلاد من رحم المأساة الكبرى
"الست الحرة" هي ابنة أمير شفشاون عليّ بن راشد، تلك الشخصية المعروفة في الداخل والخارج بالنسبة لفترة القرن الـ16 م، وهي الأخت الشقيقة للوزير أبي سالم والأمير إبراهيم بن علي بن راشد، وأمهما "للا الزهراء" ذات أصل إسباني أندلسي.
وهي بعد كل هذا وذاك زوجة السلطان المغربي أحمد الوطاسي (932-956)، وهو الزواج الذي يشبهه البعض بزواج الملكين الكاثوليكيين "فرناندو" و"إيزابيلا"، ملكا إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وأوائل القرن السادس عشر.
في فترة تاريخية تميّزت بشبه تفكك للدولة المركزية المغربية بعد سقوط حكم المرينيين، ولدت "الست الحرة" من رحم المأساة الكبرى لتهجير وإبادة المورسكيين في الأندلس بعد سقوطها في يد الملوك المسيحيين، وحتى بعد هجرتها رفقة أسرتها واستقرارها في شمال المغرب، فقد وجدت نفسها في احتكاك مباشر مع هذه القوة التي طردتها من غرناطة، حيث كان البرتغاليون يجاورون شفشاون وتطوان، باحتلالهم مدينة سبتة.
كان البرتغاليون يحتلون ثلاثة موانئ مغربية أساسية، هي سبتة وطنجة والقصر الصغير، مما جعلهم يصبحون قوة دولية وإقليمية، لسيطرتهم على مضيق جبل طارق بشكل شبه كلي.
وقد جمعت السيدة الحرة بين النسب العريق لوالدها علي بن موسى بن راشد (الأدارسة الشرفاء) والأصول الأوربية لوالدتها الإسبانية "زهرة فرنانديز"، حيث عاشت في كنفهما إلى جانب أخ شقيق وحيد هو إبراهيم بن راشد، قبل أن يذوق الجميع مرارة الطرد والاقتلاع من الأرض الأندلسية ويهاجروا نحو المغرب.
تأريخ النشأة الأولى للسيدة الحرة يلفه بعض الاختلاف بين الروايات التاريخية، إذ يتحدث البعض عن ميلادها عام 1485 في غرناطة، وزواجها أول مرة وهي ابنة 16 سنة، أي عام 1500، بينما تتحدث روايات أخرى عن ميلادها سنة 1493 في شفشاون، وزواجها عام 1510. لكن المصادر التاريخية تعود في النهاية لتتفق في كون 1542 هي سنة سقوط هذه الملكة وخروجها من تطوان.
ضجيج الجيوش الغازية وأنين العاصمة.. المغرب الممزق
تقول بعض المصادر إن عائلة بني راشد المنحدرة من الأدارسة الذين كانوا أول من حكم المغرب في المرحلة الإسلامية، هاجرت قبيل سقوط غرناطة، حين تبيّن أن الهزيمة باتت وشيكة.
استقر المقام بالأسرة الأندلسية المتمتعة بالجاه والنفوذ في منطقة شفشاون الجبلية الحصينة، حيث كان الوطاسيون الذين يحكمون المغرب وقتها (وهم أسرة أمازيغية اتخذت من مدينة فاس عاصمة لها)، يقبلون باستقرار الأندلسيين الفارين من الجيوش المسيحية، ويقرونهم في بعض الثغور من أجل الاستقرار فيها وحمايتها من الغزو الأجنبي كما هو الحال في الشمال، بينما استقرت مجموعات أخرى من الموريسكيين في مدن أخرى، خاصة فاس والرباط.
وقد عاشت السيدة الحرة في مرحلة اتسمت بسياق دقيق مرّ به المغرب، حيث كان يئن تحت وطأة ضغوط متنوعة، فالعثمانيون قادمون من الشرق والأوربيون من الشمال والغرب، وسلطة جديدة تزحف على تلك القائمة في العاصمة فاس، وضعٌ جعل المغرب -على الرغم من وجود دولة مركزية معترف لها بالبيعة والولاء- موزعا بين إمارات شبه مستقلة عن بعضها.
مدينة شفشاون.. قصر الحمراء البعيد عن غرناطة
عاشت السيدة الحرة في ظل حكم آخر ملك عربي في غرناطة الأندلسية، وانتقلت رفقة أسرتها ضمن المسلمين الذين طردوا من الأندلس بعد سقوطها كاملة خلال حرب الاسترداد المسيحية، لكن القدر كان يخبئ لها تجربة التحوّل إلى ملكة فعلية لمنطقة حيوية في الشمال المغربي.
اختار الأمير علي بن راشد موقع شفشاون المنيع ليبني قصبة منيعة أسكن فيها زوجته الإسبانية التي اشترطت تخصيصها بقصبة شبيهة بقصر الحمراء الذي خلفه المسلمون وراءهم في غرناطة.
هناك تلقت الحرة تعليما في غاية الغنى والتنوع، حيث حافظت على مكتسباتها اللغوية الإسبانية على الخصوص، وأضافت إليها علوم الفقه والأدب على يد كبار العلماء، وحين كانت غرناطة تسقط في يد المسيحيين، كانت عائلة أندلسية أخرى -هي عائلة المنظري- تستقر في مدينة تطوان وتعيد بناءها وتحصينها، وهي المدينة التي ستصبح مملكة للسيدة الحرة.
السيدة الحرة.. لقب كانت تحمله بعض النساء في الأندلس، لكنه أرتبط بعد ذلك حصرا بهذه السيدة
https://doc.aljazeera.net/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9-%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AD%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%BA%D9%88%D8%B1-%D9%88/?fbclid=IwAR34Y2S5ry-hbkUuqAaB7CrajnsD1xG3JWrE4ZKg0tRLARDf3rBgqp772oU