الملك مكوسن (Micipsa) من خلال النقوش الأثرية
مقدمة
لعّل من أهم مخلفات ملوك الأمازيغ المادية والحضارية التي بقيت شاهدة على عصرهم ما اكتشفه علماء الأثار أو عن -طريق الصدفة – من أنصاب وهي منقوشة بعدة لغات ( ليبيّة- بونية- بونية جديدة) ، وهي منتشرة في كل أرجاء بلاد تامزغا ولاسيما الحواضر الكبرى كسيرتا ودوقا ، ومن بين الملوك الذين اهتموا بتخليد عهدهم نجد الإغليذ مكوسن بن الإغليذ ماسنسن بن الإغليذ قايا ، حيث أنّ جلّ النصوص نُقشت خلال عهده ، وفي دراستنا هذه سنتطرق إلى فحوى هذه النصوص وأهميتها التاريخية وذلك من خلال إشارتها إلى الملك مكوسن وفترة حكمه الطويلة (148- 118 ق.م). I –
عهد الملك مكوسن (148 – 118 ق.م): 1
- شخصية الملك مكوسن ( M.K.W.S.N ) : تشير المصادر التاريخية إلى أن مولد الملك مكوسن كان حوالي سنة 200 ق.م ، غير أننا لانعرف الكثير عن طفولته، وكل الذي وصل إلى المؤرخين هو أنّه تربى في كنف والده الملك ماسنسن( ماسينيسا) وتتلمذ عليه أمور الحكم والسياسة(وقد أشار الجغرافي الإغريقي استرابون (Strabon) إلى أنّ الملك مكوسن يولي أهمية كبيرة للعلماء والمثقفين وغالبا ما يقضي أوقات فراغه في دراسة الفلسفة.
أمّا فيما يخص اسمه، فيبدو أنّ اسم ” مكوسن أو مكواسن ” (M.K.W.S.N) كما ورد في النقوش الأثرية ، هو الاسم الحقيقي له بالنطق الليبي- الأمازيغي، وهو اسم شهرة يحمل دلالة العظمة والرّياسة حسب ما أشار إليه باحث اللسانيات الأستاذ حدادو (Haddadou .M.A) في حين ورد اسمه في الكتابات اللاتينية على الشكل الآتي: مكيبسا (Micipsa) وفي اللغة الفرنسية”ميسبسا”.
2- مكوسن يرث العرش الأمازيغي:
استطاع الملك ماسنسن أن يوحد بلاد المغرب القديم( تامزغا) ابتداءا من سنة 203 ق.م وهي الوحدة الثانية بعد تجربة الملك الأمازيغي المازيسيلي سيفاكس(Syphax)(04). امتدت مملكة تامزغا الموحدة من خليج السرت الصغرى في ليبيا إلى نهر مولوشا على حدود مملكة المور (نهر ملوية حاليا بين الجزائر والمغرب الاقصى) وإلى رفاف الصحراء (بلاد الجيتول) جنوبا.
دام حكم الإغليد ماسنسن حوالي 56 سنة قضاها في خدمة شعبه وتطوير مملكته في جميع مجالات الحياة (اقتصاديا، اجتماعيا وعسكريا) وأضحت المملكة من أقوى الدول في تلك الفترة على جميع الأصعدة ، ولم تكن تابعة للتاج الروماني كما ذهب أولئك الذين يتحاملون على التاريخ الأمازيغي وسيادة الدولة الأمازيغية في تلك الحقبة القديمة.
عاش الملك ماسنسن وبلغ سنّ التسعين حسب رواية المؤرخ الإغريقي بوليبيوس (Polybe)، وعندما أحسّ بدنو أجله ، ترك وصية ملكية مفادها تقسيم سلطات العرش الأمازيغي بين أبنائه الثلاث الشرعييّن مكوسن (Micipsa) وغلسن (Gulussa) ومسطان – بعل (Mastanabal) ، وبحضور القائد الروماني سيبيون إمليانوس (Scipion Emilien) والسؤال المطروح :
ماهي الدوافع التي جعلت ماسنسن يوزع السلطات بين أبنائه؟ علما أن وراثة العرش النوميدي كانت لأكبر العائلة الملكية سنّا( الذكور)، وكيف نفسّر هذه الإجراءات المتخذة من قبل العاهل الأمازيغي؟ يبدو أن العاهل ماسنسن كان أكثر حكمة وحنكة سياسية وتطلعا لمستقبل المملكة وكذلك الأخطار الخارجية المحدقة بها، وفي حقيقة الأمر نجد أن الملك قد عهد إلى أكبر ابنائه مكوسن بالخاتم الملكي الذي يدل على أولويته في الخلافة شرعا وبهذا الإجراء يكون الملك قد راعى التقليد المعروف في توريث الحكم لأكبر العائلة سنّا !، أمّا إشراك أخويه الآخرين (غولوسا ومستنبعل) في الحكم ، فهو كذلك كان وفقا لنظام المدينة الأمازيغية التي تُسير من طرف ثلاثة أشفاط (Suffétes) أي القضاة كماهو الحال بالنسبة لمدينة مكثر(Maktaris) كما أشار إلى ذلك المؤرخ شارل بيكار(Ch.Picard)(07) وهذا ما أكدّته نقيشة دوقا الأثرية التي سنتطرق إليها لاحقا.
أما توكيل مهمة التقسيم إلى القائد الروماني سيبيون إمليانوس، فرأى ماسنسن أنّه من الحكمة استشارتهم في ذلك كإستراتيجية لتجنب الصدام معهم مستقبلا وكذلك علاقاته الحسنة مع الرومان التي ربطته بهم في السّلم و الحرب.
ومجمل القول ممّا سبق أنّ العاهل ماسنسن استطاع أن يوفق في هذا القرار الملكي وذلك لمراعاته لجميع شروط توريث حكم المملكة .
في خضم الحصار البحري الذي ضربه الرومان على قرطاجة ابتداءا من سنة 149 ق.م ، قدم القائد الروماني سيبيون إلى العاصمة سيرتا (Cirta) بأمر من الملك ماسنسن الذي توفي قبل يومين من وصول القائد ، وشرع سيبيون في توزيع السلطات بين الأمراء الثلاث متبعا الوصية الملكية وهي كالآتي :
كانت الإدارة للملك مكوسن، في حين أسندت قيادة الجيش للملك غولوسا ،أما القضاء فقد تكفل به الملك مسطان- بعل الذي تشبع بالثقافة الإغريقية ، ولُقب كلّ واحد بلقب الملك (الإغليد) كما ورد في النقوش الأثرية والنصوص القديمة.
وبهذا التقسيم تم تطبيق وصية الملك الراحل ، وكان مكوسن على رأس هرم السلطة لتقلده الجهاز الإداري والخاتم الملكي. لم تستمر الأوضاع على هذه الحالة، فسرعان ما توفي الملكان غولوسا ومسطنبعل في ظروف غامضة، ويرجّح سالوست أنهما ماتا بتأثير المرض ، وأصبحت بذلك جميع السلطات بيد الملك مكوسن.
3- إنجازات مكوسن الحضارية:
إنّ عهد مكوسن الطويل (148 – 118 ق.م) لم يُحظى باهتمام المؤرخين الإغريق والرومان نظرا لعدم اهتمام هؤلاء بالمنطقة المغاربية إلاّ عندما تكون محّل احتكاك بالشعبين الإغريقي واللاتيني، ولا يُستبعد أن هذا الصمت ناتج عن سيادة الاستقرار في نوميديا خلال عهده.
سار الملك مكوسن على خطى والده في تطوير المملكة والنهوض باقتصادها وأولى عناية فائقة بالعمران وحياة التمدن، وطبع سياسته الخارجية بطابع السّلم والعلاقات الحسنة المبنية على المصالح المشتركة خاصة مع الدولة الرومانية حليفة أبيه الملك ماسنسن ، ومن مظاهر هذه العلاقات جملة المساعدات التي قدّمها الإغليد مكوسن للرومان أثناء حروبهم الطويلة ومن أهمّها الفليق العسكري الذي أرسله بقيادة ابن أخيه الأمير يوغرطه سنة 134 ق.م ، كما بعث بكميات كبيرة من القمح للجيش الروماني المحارب في سردينيا فيما بين سنتي 126 – 125 ق.م. أما عن جيرانه الغربيين ( مملكة المور) فلم تذكر المصادر أي محاولة للملك مكوسن في توسيع مملكته على حسابهم.
ومجمل القول فإنّ الإغليد مكوسن ظلّ متبعا لسياسة أبيه الخارجية ومن المحتمل أن يكون ذلك نتيجة وصية سرية تلقاها من أبيه.
أما عن السياسة الداخلية في المملكة، فرغم تخليّه عن سياسة أبيه التوسعية كما قلنا سابقا ، فإنّه قد واصل سياسته في تطوير دولته والاعتناء بعاصمته سيرتا حيث زاد في تجميلها وتحصينها ويذكر استرابون أنّها كانت قبلة العلماء والفنانين والفلاسفة الإغريق واللاّتين ، وكذلك اهتمامه بتنمية الفلاحة والتجارة بتشييّد القرى الزّراعية وتكوين ضيّع ذات مدخول وافر، وظهرت مدن هامة كباجة (Vaga) وثوقا (Thugga) وقفصا (Gafsa) بمواردها الاقتصادية والمالية، وكانت باجا أهم سوق في المملكة بفضل أراضيها الخصبة وأشاد المؤرخ سالوست بثرائها أثناء حديثه عن حملة ميتلوس سنة 110 ق.م.
كذلك اهتّم الملك مكوسن ببناء وتشييّد المعالم العمرانية والنّصب الإهدائية والجنائزية والّتي أكدّت سنوات حكمه وحدود مملكته وهو ما سنتطرق إليه في حديثنا عن النقوش الأثرية المتعددة في جل المدن النوميدية.
كما سكّ العملة باسمه وباسم والده ماسنسن لتنظيم المبادلات التجارية التي ربطته ببلاد الإغريق وجزر البحر المتوسط .
إنّ عهد الملك الأمازيغي مكوسن يعّد من أزهى العهود وأكثرها سلما واهتماما بمجالات الحياة (الاقتصاد، العمران)، وكل هذه الإنجازات جعلت المؤرخ كامبس (Camps) يعلق على عهد مكوسن قائلا :
” إنّ ثلاثون سنة من السلم جعلت من عهد مكوسن أكثر عهود المملكة نفعا إن لم يكن أكثرها بريقا” أما المؤرخ هشام الصّفدي فيُرجع ازدياد قوة المملكة النوميدية بقيادة مكوسن هي التي أثارت مخاوف الرومان.
4- وفاة الملك مكوسن وخلافته:
بعد وفاة كل من الملكين غولوسا ومستنبعل ، تكفل الملك مكوسن بابن هذا الأخير وهو الأمير يوغرطا (Jugurtha) الذي أعطاه تربية الأمراء إلى جانب ابنيه الأميرين أذربعل(Adherbal) و هيمبصال(Hiempsal)، وهنا يذكر سالوست صاحب كتاب “حرب يوغرطا” أن الأمير يوغرطه كان ذو شخصية فذّة وكان يمارس الصيد والرماية وفقا للتقاليد النوميدية ، وكان يتفوق على أقرانه حيث لقبوه بـ: ” يوقرثن” أي المتفوق عليهم وأضحى بذلك محبوب الشعب النوميدي، وهذا ما أثار مخاوف الملك مكوسن من خطر هذا الأمير على مستقبل ولديه الصغيرين فعمد في البداية إلى التخلص منه ثم عدّل على ذلك بسبب ردّ فعل الرعية، وفي تلك الأثناء أعلن الرومان الحرب على مدينة نومانس واستنجدوا بالملك مكوسن لمساندتهم، فوجد الملك فرصة للتخلص من ابن أخيه ، حيث أرسله على رأس كوكبة من الفرسان إلى اسبانيا ليحارب إلى جانب الرومان لعّله يقتل في ميدان الحرب وفي تلك الحرب اظهر يوغرطه مقدرة عسكرية عالية ممل جعل القائد الروماني سيبيون يشيد بجدارة يوقرثن الحربية وعبر عن ذلك في رسالة شكر وجهها إلى الملك مكوسن ويعتقد بعض المؤرخين أنّها رسالة تحمل في طياتها ضرورة تبني الأمير يوقرثن انطلاقا من عبارة فيها سجلها لنا سالوست على لسان سيبيون ومفادها : ” إنني أهنئكم باسم صداقتنا فلديكم هنا رجل شرّفكم انتم وجدّه ماسينيسا“.
عند اقتراب أجل الملك مكوسن ، استدعى هذا الأخير حاشيته وابنيه والأمير يوقرثن وألقى على مسامعهم خطابا مطولا سجله لنا سالوست، ويعد بمثابة وصية ملكية فيها أعلن تبنّيه للأمير يوقرثن وجاءت العبارة كالأتي :
” يا يوقرثن بقد كنت صبيا بلا أب ولا آمال ولا ثروة عندما دعوتك لأن تكون وريث تاج العرش، وهذا يبرهن على محبتي إيّاك مثل ولدي…”وبعد ثلاثة سنوات توفي الملك وهو ما يوافق سنة 118 ق.م وحسب سالوست نجد أن التبني حدث في سنة 121 ق.م أي بعد 12 سنة من حرب نومانس ، وهذا يبطل الرأي القائل باتّباع الملك مكوسن أوامر الحكومة الرومانية.
توفي الملك مكوسن في سن متقدمة وأقيم له حفل جنائزي يليق بقائد أمة ، أما عن قضية مكان دفنه فلم يثبت بعد، وسنتطرق إلى هذه النقطة عند الحديث عن نقيشة شرشال الملكية. اجتمع الأمراء الثلاث في العاصمة سيرتا للنظر في شؤون تسيير المملكة ولم يتفقوا في ذلك بسبب احتقار أبناء مكوسن لابن عمّهم يوقرثن وأدرك هذا الأخير الخطر الذي ستتعرض له المملكة بسببهما ، ونتيجة ذلك اقتسم الأمراء الثلاثة كنوز العرش واختار كل واحد منهم إقليما يسيّره بنفسه ، لكن يوقرثن لم يرض بذلك حيث قام بالقضاء على أبناء عمه بدءا بهيمبصال سنة 117 ق.م وأذربعل والجالية الرومانية بسيرتا سنة 112 ق.م وأصبحت المملكة تحت سلطته من جديد، هذا ما جعل روما تعلن الحرب عليه ابتداء من سنة111 ق.م والتي دامت لمدة سبع سنوات برز فيها يوقرثن بمقاومته للإمبريالية الرومانية ومطامعها
الاستعمارية .)
https://www.inumiden.com/ar/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83-%D9%85%D9%83%D9%88%D8%B3%D9%86-micipsa-%D9%85%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D9%88%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AB%D8%B1%D9%8A%D8%A9/?fbclid=IwAR1720JDOzlaSQDoggBmZTqFZoEwlVExFNmHG86loaQFY6cBJ8DdkVobzsw