الملكة القرطاجية صوفونيسبا والحرب البونيقية الثانية ماسينيسا، سفاكس، سيبيون وهصدربعل
قصة لوحة ماسينيسا وصوفونيسبا. مهلا ! إنها تصلي.
هذه ليست صورة امرأة مستهترة منغمسة في حياة اللهو. بل صورة ملكة متشبثة بحريتها. تلك الكأس ليست كأس خمر. انها كأس سم. وهي لا تكشف جسدها في انتظار عشيقها، بل هي صلاة لمعبودها بعل في اللحظات الأخيرة. ذلك هو اختيارها الأخير: الموت على أرض نوميديا ولا حياة العبودية في روما. والواقف امامها ليس شابا مستهترا بل قائد محارب وملك منتصر. ماسينيسا ملك نوميديا الموحدة. هذه الاميرة فضلت الموت في بلدها على الحياة في ذل روما.
كم من لوحة فنية رسمها فنانون من عصور مختلفة لتجسيد هذه اللحظة القوية في حياة الملكة النوميدية ( أو الأميرة القرطاجية) صوفونيسبا (صفية بعل). كم من عمل مسرحي قدمه كتاب وأدباء عالميون كبار لتخليد القصة التراجيدية لهذه السيدة الفاتنة التي ارتبط مصيرها بمصير إمبراطورية عظيمة كانت تقف الند للند ضد روما. لكن الألاعيب السياسية وصراع المصالح جعل منها ورقة في مهب التحولات.
صوفونيسبا ( 235 ق م -203 ق م) ابنة هصدربال قائد جيوش قرطاج. جميلة وذكية. ذات مستوى رفيع. هكذا يصفها مؤرخو الرومان. تقرب منها الأمراء والزعماء والقادة. كانت محط أنظار الجميع. لكنها ظلت غامضة. حتى سميت اميرة الظلام. كان ابوها قائد جيوش قرطاجة. فكانت ذات مكانة رفيعة لدى الطبقة السياسية والعسكرية. اختارت أجمل شباب ذلك الوقت وأقواهم وأكرمهم وأكثرهم حنكة وأشدهم سحرا. الأمير ماسينيسا (ماس-ن-سن- سيدهم إن أردتم الترجمة) (238 ق م -148 ق م). نجل الملك قايا ملك الماسيل حليف قرطاجة والمقرب من أبيها قائد جيوشها. كانت تقيم في قرطاجة حاضرة الفينيقيين في المغرب وكان يقيم في سيرتا ( قسنطينة حاليا) عاصمة نوميديا الشرقية. كانت أميرة في قرطاجة لكنها تحلم أن تكون ملكة نوميديا.
من تقلبات الزمان أن نشبت الحرب البونيقية الثانية (218 ق ب – 202 ق م) بين بلدها قرطاج وغريمتها روما. كان الملك العظيم قايا حليفا لقرطاجة يمكن الاعتماد عليه. ابنه ماسينيسا قائد فرسان الخيالة النوميديين. لا ينهزم جيش تكون فيه فرقة الخيالة النوميديين فما بالك أن يكون قائدها ماسينيسا. فارس نوميديا العظيم. ومن اجل تمتين هذا التحالف رآى زعماء التحالف القرطاجني النوميدي تزويج سوفونيسبا بماسينيسا. كانت الديبلوماسية آنذاك تختم الروابط بين الدول والممالك بعقد المصاهرات بين عائلات الحكام. هل كان التاريخ يسير ليحقق رغبة سوفونيسبا وماسينيسا؟ كانت العلاقات الدبلوماسية آنذاك تقوم على المصاهرة.
هكذا انطلق ماسينيسا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية (اسبانيا والبرتغال) (212 ق م) على رأس الخيالة النوميديين لدعم قرطاجنة في حربها ضد روما وقلبه مفهم بمشاعر الانتصار في الحرب السرية بينه وبين منافسيه على قلب الأميرة سوفونيسبا. سار غربا للالتحاق بجيوش جرطاجة بقيادة العظيم حنبعل في شبه الجزيرة الإيبيرية لمواجهة القائد الروماني سيبيون وحليفه سيفاقس ملك الماساسيل بنوميديا الغربية وعاصمتها سيقا( ولهاصة بعين تيموشنت حاليا).
كانت حربا برية للاقتصاص من روما التي حققت كل انتصاراتها في الحرب البونيقية الأولى في البحر. كانت الأرض دائما حليفة نوميديا والبحر حليف روما. سارت جيوش قرطاجة عبر الغرب مرورا بمضيق البحر وعبر شبه الجزيرة الإيبيرية إلى جنوب بلاد الغال وصولا إلى إيطاليا لمحاصرة روما. كانت الفيلة والخيالة تحقق انتصارا تلو الآخر. انتصارات جعلت العالم آنذاك يقف مشدوها امام التحولات العجيبة. قرطاجة تتقدم وروما تتراجع. انتصارات جعلت ملك نوميديا الغربية يبدل تحالفه : يتخلى عن روما ويتحالف مع قرطاجة . ما أسرع ما كانت النتيجة : قرطاجة تغتنم الوضع وتقبل بالتحالف مع ملك نوميديا الغربية. كان لابد من تتويج التحالف بعلاقة مصاهرة.
كانت قرطاج على خلاف مع قايا ملك نوميديا الشرقية بسبب الأراضي التي استولى عليها يرى أنها أرض نوميديا استولت عليها بغير حق وترى أنه اقتطعها منها. كانت بينهما مشكلة حدود بالتعبير المعاصر. لكنها آثرت التحالف معه لمواجهة جيوش روما مستغلة قوته البرية الضاربة: خيالة نوميديا وفيلتها. ووجدت في تحول صيفاقص الفرصة للالتفاف على قايا ملك نوميديا الشرقية في غياب جنوده وقائدها ماسينيسا الذي كان في نصرة حنبعل في شبه الجزيرة الإيبيرية. في السياسة لا توجد ثوابت وإنما مصالح. ومصلحة قرطاجة أولى من اتفاق مع ملك نوميديا الشرقية مادام ملك نوميديا الغربية يوفر فرصة اضل لاستعادة الأراضي التي تراها مقتطعة.
هكذا قررت قرطاجة إعادة النظر في مصير الأميرة صوفونيسبا. تزوج أميرتها صوفونيسبا بلملك نوميديا الغربية متناسية وعدها لماسينيسا –ووالده قايا ملك نوميديا الشرقية- الذي صنع انتصاراتها وجعل صيفاقس يتخلى عن روما. ما أغرب تحولات الزمن !!. هصدروبال نفسه- والد صوفونيسبا- يأمرها بالزواج بصيفاقس. هل تتخلى عن ماسينيسا؟ هل تترك حلمها بان تكون ملكة سيرتا؟ ولكن هل تملك لنفسها أمرا؟
كانت اميرة في قرطاجة وستصبح ملكة في سيقا عاصمة نوميديا الغربية. كانت تحلم بان تكون ملكة سيرتا، المدينة القريبة إلى قلبها مع الرجل الأقرب إليها : ماسينسا. لكنها الأقدار والمصالح وتقلبات الزمن.
تلبية لهذه المصاهرة يتقدم سيفاقص لقرطاجة بعرض عجيب: مهر سيفونيسبا سيكون أراضي نوميديا الشرقية. الأرض التي كان سيكون والد ما سينيسا ملكا عليها. والتي كانت ستؤول إلى حكم ماسينيسا.
إمبراطوريتان عظميان روما وقرطاجة كانتا تصنعان الأحداث في حوض البحر المتوسط. وعلى يديهما تتحد مصائر شعوب المنطقة. كان النوميديون يطمحون إلى تأسيس دولتهم. لكن دسائس الإمبراطوريتين العظيمتين كانت أقوى من سياسة الملوك النوميديين
ما أن توفي الملك قايا (206 ق م) حتى خلفه أخوه اولزاسن. ثم توفي فخلفه ابنه كابوسا. لكنه لم يلق الإجماع فثار ضده أحد أبناء العمومة. مزتول. تحالف سيفاقس مع مزتول وزوده بالسلاح والجنود. انتصر مزتول على كابوسا. قام بتنصيب لوكامزاس على عرش سرتا. قرطاج توافق على اغتصاب ملك سيرتا وزيادة على ذلك تزوج هذا الملك المزعوم بأرملة أولزاسن. زوجة عم ماسينيسا.
كان الهدف من ذلك حرمان ماسينيسا القوي من الحكم تمهيدا لاستيلاء سيفاقس على أراضي نوميديا الشرقية واقتطاع أراضٍ لقرطاجة. كان الرهان كبيرا جدا جعله يتخلى بسهولة عن تحالفه القديم مع روما ويبادر بالتحالف مع قرطاجة. تحالف يضمن له أراضي نوميديا الخصبة وجمال صوفونيسبا…
وصلت الأخبار إلى ماسينيسا القائد العسكري وهو في شبه جزيرة إيبيريا يخوض حروب قطاجة ضد سيبون قائد جيوش روما. لم يكن يوما يطمئن لحكام قرطاجة. فهي في نهاية الأمر مدينة ظالمة أنشاها الفينيقيون لاستغلال خيرات إفريقيا. ولا يطمئن كذلك إلى روما فهي، ببساطة، روما. كان من أنصار (إفريقيا للأفارقة). لكن اوامر والده الملك قايا كانت واضحة: التحالف مع القريب ضد الغريب. ها هو والده الملك يموت وهو بعيد عنه، غريبا في شبه جزيرة إيبيريا وبينه وبين أراضي والده الراحل مملكة خصمه سيفاقس. هل يوجد قدر أقسى من هذا؟ هل يموت ماسينيسا يئسا؟ هل يستكين؟ لا . تغير التحالفات يعني أن حياته أصبحت في خطر.
كان الحذر واجبا. قرر (في 206 ق م) ترك الجيوش في شبه جزيرة إيبيريا وغادر على جناح السرعة مع عدد قليل من الأتباع لكيلا يلفت الانتباه. تسلل عبر المضيق إلى بلاد المور (موريتانيا حاليا) واستنجد بملكها فانجده بأربعة آلاف فارس رافقته على الأراضي الموريطانية حتى حدود اراضي نوميديا. هناك شكل جيشا من 500 فارس وسار إلى سيرتا لاستعادة ملك والده. قبل ان يصل كان الملك قد أقام بها وأعد الجيوش للمواجهة. أعد ماسينيسا كمينا للملك المزعوم وانتصر عليه قرب أسوار سيرتا. انهزم جيش الملك لوكامزاس لكنه نجا بأعجوبة ودخل المدينة. كان الانتصار مدويا. التحقت الفرسان بجيش ماسينيسا من كل حدب وصوب. جمع لوكامزاس ومزتول أنصارهما واستعدا لمواجهة القادم القوي : 15000 من المشاة و10 آلاف فارس ومع ذلك انتصر ماسينيسا مرة أخرى. تخلى عنهما الجنود والأنصار فلجآ إلى قرطاجنة للاحتماء بأصهارهما.
يقيم ماسينيسا بمدينة تابسيس (غرب تونس) ويعلن الحرب على قرطاجة. يعلن ان إفريقيا للأفارقة ويدعو لوكامزيس ومزتول للالتحاق به لتحرير البلاد مطمئنا إياهما على أهلهما وممتلكاتهما ومكانتهما في المملكة. تصرف معهما تصرف الملوك الحقيقيين وإعادة نوميديا الشرقية إلى سابق عهدها. أعلن العفو على كل من تورطوا في مؤامرة حرمانه من الملك. هكذا نجح في إعادة لم شمل الأسرة الحاكمة في نوميديا الشرقية.
لفتت تحركات ماسينيسا حكام قرطاج وأشعرتهم بالخطر. أرسلوا هصروبال إلى سيفاقس ملك نوميديا الغربية لتحذيره مما يجري وتحريضه على غريمه ماسينيسا.
يلجأ سيفاقص إلى إثارة قضايا الحدود مع نوميديا الشرقية مستفزا ماسينيسا إلى الحرب قبل أن يسترد أنفاسه من الحروب المتتالية. قبل الهزيمة بشرف وانسحب إلى الأوراس لاستعادة قوته والاستعداد للحرب من جديد. لم تتوقف المناوشات لاستنزاف خصومه. جنود سيفاقس بالأساس. يختفي مدة حتى إذا شاع خبر وفاته ظهر من جديد وكبد خصومه خسائر فادحة. عمت الفوضى واللاأمن في أوساط المعمرين القرطاجنيين في نوميديا فاستنجدوا بجنود قرطاجنة ضده عند فشل جنود سيفاقص في مطاردته. كانت كل معركة تزيد من شعبيته في أوساط السكان المتذمرين من هيمنة قرطاجنة وغزو سيفاقس. استمر الكر والفر حتى استعاد ملكه ومكانته بين السكان. تحالف المعمرون القرطاجنيون مع جنود سيفاكس وهاجموا الماسيل في نوميديا الشرقية. وإمعانا في الاستفزاز يقدم سيفاقس مهرا لصوفونيسبا الأراض التي كان أخذها من قايا.
في الأثناء يقرر سيبيون قائد جيشو روما في شبه الجزيرة الإيبيرية الانتقال إلى إفريقيا لمحاربة قرطاج. يغتنم ماسينيسا الفرصة بحضور عدوه السابق الذي حاربه في شبه الجزيرة الإيبريية سيبوين الإفريقي (236-186 ق.م ) فينتقم من قرطاجنة التي خدعته وشردته وضيعت ملك أبيه وحالفت خصمه سيفاقص وزودته أميرتها سوفونيسبا. ينتصر ماسينيسا وحليفه سيبيون الإفريقي في معركة (زاما) لحدادة بين تونس والجزائر (جوان سنة 203 ق.م.) وينهزم هسدربال (والد صوفونيسبا) وحليفه سيفاقص (زوجها). تطلب قرطاجنة السلم وتقبل بشروط المنهزم. تسلم قادتها للمنتصر لينالوا جزاءهم حسب القانون الروماني. يقضي القانون الروماني بان يحضر المنهزمون إلى روما لترى طريقة للعقاب وعادة ما تكون قاسية ومهينة.
في مدخل مدينة سيرتا (قسنطينة) كان الاستقبال مهيبا للملك المنتصر ماسينيسا. وعند مدخل القصر اقتحمت سيدة على الموكب الملكي وقدمت نفسها للملك ماسينيسا : إنها سوفونيسبا. استطاعت ان تفلت من جملة الأسرى الذين ألقى عليهم الرومان القبض في قصر زوجها سيفاقص. خاطبت في ماسينيسا نخوة الرجل النوميدي وسلطة الملك وكرم الفارس الشهم. أعلنت انها تفضل ان تموت في سيرتا على أن تذهب إلى روما فينتقم منها أمراؤها ويذلونها.
كان امام الملك ماسينيسا طريقة واحده لحمايتها من هذا المصير المشؤوم: أن يتزوجها .قبلت ذلك. أعلن زواجه منها على الفور لمنع الرومان من إرغامها على الذهاب إلى روما في جملة الأسرى.
بلغ الخبر إلى سيفون الإفريقي قائد جيوش روما فرفض تلك الزيجة واعتبرها حيلة ضد قانون روما. لم يجد ماسينيسا وسيلة لحماية صوفونيسبا من المصير المشؤوم. أكدت له انها تفضل الموت على أن تذهب إلى روما. لم يكن بد مما منه بد. الموت إذن هو الخيار الأخير. هل يمكن لأحد أن يساعدها على تجرع السم ؟ طلبت ذلك من ماسينيسا. كانت تكفر عن عجزها يوم أن خطبوها له وزوجوها لغريمه سيفاقص. كانت تريد أن يدرك أن خيارها هو الموت إلى جانبه ولا الحياة في روما.
ناولها كأس السم بيده.
يقول مفدي زكريا في إلياذة الجزائر
دعوا ماسينيسا يردد صدانا ذروه يخلد زكيّ دمانا
وخلوا سفاقص يحكي لروما مدى الدهر كيف كسبنا الرهانا
وكيف غدا ظافرا ماسينيسا بزامة لم يرض فيها الهوانا
وكم ساوموه فثار إباء وأقسم ألا يعيش جبانا
وألهمه الحب نيل المعالي وقد كان –مثلي- يهوى الحسانا
ومن صنعت روحه صوفونيسبا جدير بان يتحدى الزمانا
تغذيه حبا وعلما وفنا وتنبيه ما قد يكون وكانا
شكرا للاهتمام! اذا اعجبتك المقالة احرص على تقييمها ومشاركتها مع اصدقائك ولا تنسى التسجيل في المنتدى
بقلم عشور فاني