سيبويه.. قصة الفارسي الذي جمع قواعد اللسان العربي
ليس غريبا أن يستقيم لسان العرب في لغتهم، ولكن أن توضع أسس النحو بجهد رجل أعجمي، فهنا تكمن الغرابة وتقع المفارقة. فلم يكن يخطر ببال أحد أن يكون هذا الصبي ذو الوجنتين الحمراوين مؤسس النحو العربي، وواضع علمه وقواعده.
في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة "العلماء المسلمين" نتعرف على إمام النحو سيبويه، إنه عمرو بن عثمان بن قنبر، وقد لقب بأبي البشر، وأصله من بلاد فارس، حيث ولد في عام 148 للهجرة بقرية البيضاء في شيراز، وكانت والدته تناديه بسيبويه الاسم الذي عرف به ولازمه، وهي كلمة فارسية تعني رائحة التفاح، وكان لطيف المعشر حسن الخلق جميل الخلقة.
اختلاط الأعراق.. ألسنة الأعاجم تفسد اللسان العربي
انتقل سيبويه في طفولته إلى البصرة ونشأ فيها، وكان محبا للعلم طالبا للحديث النبوي كما هو حال أهل فارس الذين دخلوا في الإسلام في تلك الفترة، كما كان الأعاجم الذين يدخلون في الإسلام يحرصون أيضا على تعلم العربية لفهم دينهم، ولأنها لغة الدولة.
ولم تمنعهم الأعجمية من أن يكونوا أسماء بارزة في هذا المنجز الحضاري والعلمي البشري، وربما تكون الثقافة الدينية دافعا أساسيا لهؤلاء الأعاجم لتعلم اللغة العربية، إذ كان لا بد لكثير منهم من الانتقال إلى مراكز الثقل الاجتماعي والاقتصادي في تلك الفترة مثل مدينتي البصرة والكوفة في العراق.
أبو الأسود الدؤلي يخترع التنقيط بناء على طلب من زياد بن أبي سفيان
ونتيجة اختلاط الأعاجم بالعرب وتزاوجهم، نشأت الأخطاء واللحن في اللغة العربية، وكان لا بد من التصدي لها. من أجل ذلك استدعى أحد الولاة آنذاك (زياد بن أبي سفيان) أبا الأسود الدؤلي وطلب منه حلا لهذه المعضلة، فقام بوضع النقاط على الحروف لتيسير وتسهيل اللغة على غير الناطقين بها.
وهكذا وضع أول نظام للغة العربية، وقيل إنه تعلم ذلك من علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي قال له انح هذا النحو، ومن هنا جاء اسم علم النحو، ويمكن أن يقال إن هذا العلم وضع أول ما وضع لغير الناطقين باللغة العربية.
"لحنت يا سيبويه".. خطأ يصنع أعظم رجال اللغة العربية
مع دخول الفرس في الإسلام وانتقال الفرس إلى العراق بدأت المنطقة تستعيد عافيتها، وقد شاركوا في القرن الثاني للهجرة بالثورة السياسية التي جاءت بالعباسيين وأسست الدولة العباسية، وكانت حاضرتها مدينة بغداد التي كانت قريبة من بلاد فارس، مما أدى إلى حدوث تطورات اقتصادية وثقافية مهمة هناك.
ومنذ أن وطئت قدماه البصرة، قرر سيبويه الشاب أن يكون كتاب الله تعالى واللغة العربية غايته ونهاية أربه. وذات يوم ذهب إلى شيخه حماد البصري ليتلقى الحديث النبوي ويستملئ منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه، ليس أبا الدرداء".
"أبا الدرداء" جملة أخطأ بقراءتها سيبويه، فأصبح بعدها إمام النحاة في العالم
فأخطأ سيبويه، وقال "أبو الدرداء" (على اعتبار أنها اسم ليس)، فصاح عليه شيخه حماد لحنت يا سيبويه، إنما هذا استثناء، فأقسم وقتها سيبويه وقال والله لأجلبن علما لا يلحنني مع أحد.
وقد كان هذا تحديا عظيما لسيبويه، فترك الجلوس لعلم الحديث وتفرغ لطلب علم اللغة، وقصد كثيرا من النحويين وتعلم على أيديهم. ومن بين شيوخه يونس بن حبيب، والخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يعتبر شيخه الأول، وقد جمعته به علاقة قوية كانت النموذج الأمثل للعلاقة العلمية بين الأستاذ المتمكن والتلميذ النجيب.
"مرحبا بزائر لا يمل".. نهضة في أكناف الخليل بن أحمد
وقد أحب الخليل مجالسة سيبويه كثيرا. وفي هذا يروي ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحبا بزائر لا يمل. يقول ابن النطاح: ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا له.
واعتبر الخليل سيبويه امتدادا لفكره اللغوي، وكان سيبويه يرى فيه العالم الحقيقي، وقبل رحيله طلب الشيخ من تلميذه أن يكتب كتابا في النحو.
كان سيبويه ذا حظوة كبيرة لدى أستاذه الخليل بن أحمد، فكان يقربه منه دون غيره
تعلم سيبويه من شيخه الخليل -الذي وضع علميْ العروض والمعاجم العربية- أن لا بد لكل علم يراد تأسيسه أن يبنى على منهج واضح، وأول خطوات هذا المنهج هو استقراء اللغة العربية شعرا ونثرا، وكان سيبويه مدركا لخطورة اللحن في اللغة، ودخول مفردات أعجمية عليها، فكان عليه أن يأخذ اللغة من أصولها حيث البادية.
"الكتاب".. أول مؤلف في تاريخ النحو العربي
كان كتاب سيبويه "الكتاب" هو أول كتاب في النحو العربي، وقيل إن عيسى بن عمر وضع كتابين اسمهما "الإكمال" و"الجامع"، لكن ابن الأنباري قال إن هذين الكتابين لم نرهما ولم نر أحدا رآهما.
وقد ألف سيبويه "الكتاب" في القرن الثاني الهجري، أي الثامن الميلادي، فكانت له مكانة عظيمة في الثقافة العربية، إذ لم يأت كتابه من العدم، بل استند إلى نحو ألف رأي لعلماء سبقوه وتتلمذ على يديهم، وفيه ذكر الخليل بخمسمئة موضع، وكذلك ذكر يونس بن حبيب بنحو مئتي مرة.
كتاب سيبويه "الكتاب" الذي وضعه في القرن الثاني الهجري كان منهاجا أساسيا لتعليم المتخصصين في علم النحو
لم يكن كتاب سيبويه كتابا في النحو التعليمي، لكنه كان نظرية للنحو العربي في دراسة النص العربي، لذلك كان منهاجا أساسيا لتعليم المتخصصين في النحو على مدى عدة قرون.
قوانين التأليف.. فنون صناعة القواعد النحوية
كان سيبويه متطورا ومتقدما، وكان رائد فكر. يقول الدكتور محمد حسن عبد العزيز أستاذ علوم اللغة: النحو انعكاس للغة وتقعيد لها، وقواعد اللغة العربية لا نستطيع تغيرها، لكن نضع طرقا ميسرة لفهمها.
ويقول عضو مجمع اللغة في مصر د. عبد الحميد مدكور إن المسألة هي كيف تقدم النحو للناس، فبعض العلماء قد قدم النحو عن طريق تقديم نصوص صعبة، والبعض يصعّب القواعد، وآخرون يشغلون الناس بقواعد فرعية ولا يهتمون بالأساس، ولو أننا أحسنّا تقديم النحو لكان هذا في صالح تيسير اللغة وتعريفها للناس، وهذا ما يسعى له المختصون في اللغة العربية بأن يقدموا قوانين، ولا تخلو لغة من القوانين.
ويعتبر أستاذ علم الجمال د. حسن طلب أن النحو وسيلة، مثله مثل المنطق في الفلسفة، فالمنطق هو نحو العلوم، والنحو هو منطق اللغة، وقد وُجد النحو لفهم النص القرآني أو الأدبي.
مدرسة البصرة.. اتجاه معياري في ظلال سيبويه
صار سيبويه رائدا لمدرسة البصرة النحوية، وتبعه كثير من التلاميذ، وأشهرهم أبو الحسن الأخفش الأوسط، وفي الجانب الآخر كان الكسائي إماما لمدرسة الكوفة.
مثلت مدرسة البصرة طائفة اللغويين الذين يقفون عند السماع كثيرا، ولا يحاولون القياس عليه، وفي المقابل كانوا ينكرون على الكوفيين اعتمادهم على الأعراب المقيمين في الكوفة، بينما تباهوا هم بأنهم يروون لغتهم عن العرب الأقحاح الخلّص.
سجل التاريخ عددا من المناظرات في اللغة العربية، من بينها مناظرة بين سيبويه والأصمعي
وقد اتجهت مدرسة البصرة للاتجاه المعياري في اللغة، أي وضع القواعد والضوابط والأصول، لأنهم كانوا يهدفون لتعليم اللغة العربية، أما مدرسة الكوفة فلم يكن عندهم كتاب مثل كتاب سيبويه، فكان كل ما عندهم اختلافات نحوية، ويفضلون الرواية على وضع المعايير التي تحكم التعلم.
"لحنت يا سيبويه".. مؤامرة المسألة الزنبورية في بغداد
أقام سيبويه في البصرة منذ دخلها عام 154 هجرية، وكان فيها إماما بلغت شهرته الآفاق، حتى دعي إلى بغداد عام 180 هجرية من قبل يحيى البرمكي وزير الخليفة هارون الرشيد.
وقد عقدت هناك مناظرة بينه وبين الكسائي، واحتشد لها جمهور كبير، وعرفت بالمسألة الزنبورية. وفي هذه المناظرة سأله الكسائي: أتسألني أم أسألك؟ فقال سيبويه: بل تسألني.
فقال ماذا تقول في مثل هذه العبارة: "كنت أظن أن العقرب أشد لسعا من الزنبور، فإذا هو هي، أم فإذا هو إياها"، فقال سيبويه بل هو هي، فقال الكسائي لحنت يا سيبويه، فقال الوزير: اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فإلى من تحتكمون؟
فقالوا: هؤلاء الأعراب ببابك، فقال الأعراب: القول ما قال الكسائي، فقال سيبويه مُرهُم أن ينطقوها فإن ألسنتهم لن تخطئ، لكنهم لم ينطقوها. ويرى د. محمد حماسة عبد اللطيف مدرس النحو والصرف في جامعة القاهرة أن امتناعهم من نطقها يدل على أنها مؤامرة.
انتصار مؤجل.. رحلة العودة إلى مسقط الرأس
يقدم الدكتور محمد حسن عبد العزيز أستاذ علوم اللغة شرحا للمسألة الزنبورية معتمدا على قوله تعالى: (فَأَخْرَجَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ)، وقال: "هِيَ" مبتدأ، و"بَيْضَاءُ" خبر، وليس في العربية "إذا هو إياها"، لأن إياها منصوب، ولا تنصب إلا إذا كانت حالا، ولا يمكن أن يكون الضمير حالا، فالرأي رأي سيبويه، والقرآن يدعم ذلك.
أعطاه الأمير عشرة آلاف درهم، لكن سيبويه خرج حزينا مهزوما يجر أذيال الخيبة، فقد أثر الأمر في نفسه كثيرا، ولم يعد يرغب بالعودة إلى البصرة، ورحل إلى مسقط رأسه شيراز، وعندما وصل الخبر إلى البصرة قرر تلميذه الأخفش أن يقابله في الطريق مودعا ومواسيا.
صفحة من كتاب "الكتاب" لسيبويه
سجل التاريخ عددا من المناظرات في اللغة العربية، من بينها مناظرة بين سيبويه والأصمعي والمبرد وثعلب والمازني، وظهرت تلك المناظرات جلية في القرن الثالث والرابع والخامس، وهي صورة للعمل العلمي والثقافي، ومجالس العلم التي لم يحضرها العلماء فقط، وإنما كان من جمهورها الخلفاء والوزراء.
منهج سيبويه.. نظرية علمية أسست فن التأليف النحوي
كان العلماء يتسمون بالمصداقية والأمانة العلمية، وكان سيبويه واحدا منهم، فقد نقل آراء شيخه الخليل بكل أمانة، ونسبها له وأكمل الأخفش الطريق في تدوين كتاب سيبويه "الكتاب" الذي أخذ عنه النحاة علومهم، واستخدموا نظريته في تآليفهم ككتاب "المقتضب" للمبرد في القرن الرابع الهجري، وكتاب "الأصول" لابن سراج.
مات سيبويه شابا في منتصف الثلاثين من عمره، لكنه أهدى للعالم إرثا عظيما ومرجعا قيما في كتابه، ولا يزال هو المرجع الرئيسي والأساس لمحبي اللغة العربية ومريديها.
وقد أعجب علماء غربيون بسيبويه وكتبوا عنه كلاما جميلا، أهمهم "مايكل كارتر" الذي ألف كتابا باسمه "سيبويه"، وأخرج كثيرا من البحوث التي تتحدث عنه.
أدرك سيبويه بعقيلته العلمية أن الهدف الأساسي من النحو هو الوصول إلى المعنى، ولفهم اللغة لا بد من الرجوع إلى القواعد اللغوية
https://doc.aljazeera.net/portrait/%D8%B3%D9%8A%D8%A8%D9%88%D9%8A%D9%87-%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%AC%D9%85%D8%B9-%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%B3/?fbclid=IwAR38w6uwxs3DiHGV0W3lu7Kqwvb_n7hh6_S2zuWS2cR8dGU7bTOghOS5lrw