هاشم وعبد شمس... التوأم الذي غيّر وجه التاريخ العربي
المتأمل في حال العالم العربي اليوم، سيدهش من كم النزاعات والحروب التي تدور ما بين الشعوب العربية وبعضها البعض. تاريخيّاً، أخذ الصدام صوراً شتى، بداية من الشكل القبلي والعشائري، ونهاية بالشكل المذهبي، مروراً بالصراع السياسي على السلطة والخلافة. مع أنّ البحث عن "البداية" في أحداث التاريخ مهمة مستحلية، حيث ترتبط الأمور ببعضها وتتشابك أسبابها دون انقطاع، إلا أنّه من الممكن أنْ نتحدث عن إحدى بدايات صراعات اليوم. قبل الإسلام، في شبه الجزيرة العربية، بدأ مع أخوين من قبيلة قريش انقسامٌ استمر حتى الآن، حيث لا تزال أصداؤه حاضرة في سوريا والعراق واليمن وغيرها من مناطق الصدام اليوم.
قصة هاشم وعبد شمس
في مكة المكرمة، وفي بدايات القرن السادس الميلادي على وجه التقريب، ولد أخوان في بيت عبد مناف بن قصي بن كلاب الذي كان في ذلك الوقت زعيم قريش وكبيرها وسيّدها المُطاع. صار لولدي عبد مناف، هاشم وعبد شمس، دور كبير في تاريخ قريش وشبه الجزيرة العربية، بل إن أحفادهما قد استطاعوا أن يغيروا تاريخ الشرق والعالم كله فيما بعد. ولكن تنافساً بدأ بين الأخوين امتد بينهما عبر الأجيال المتلاحقة، في قصة من قصص التاريخ الدامية التي احتفظت لنا بها معظم مصادر التاريخ الإسلامي.
التوأم والسيف: حقيقة أم أسطورة؟
الكثير من المصادر التاريخية الإسلامية، تذكر أن الشقيقين هاشم وعبد شمس قد ولدا معاً، وأنهما كانا توأماً، بل إن بعض الكتابات أشارت إلى كونهما قد ولدا ملتصقين ببعضهما البعض
فعلى سبيل المثال يروي المقريزي في كتابه النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، تلك الحادثة فيقول: "ويقال إن عبد شمس وهاشم كانا يوم ولدا في بطن واحد، وكانت جباههما ملتصقة بعضها ببعض، فأخذ السيف ففرق بين جباههما بالسيف، فقال بعض العرب فإنه لا يزال بينهم وفي أولادهم للأبد". هذه الرواية التي وردت أيضاً في تاريخ الرسل والملوك للطبري والطبقات الكبرى لابن سعد، لا يمكن أن نقبلها أو رفضها، وتبقى من أقوال المؤرخين المرسلة، التي ترتبط بالقصص الشعبي والملحمي والتي قد تكون قريبة من الحقيقة والتاريخ. المستشرق الكبير هنري لامانس أشار في أكثر من موضع من كتبه، إلى أن قصة التوأم الملتصق ليست أكثر من أسطورة وأكذوبة وضعت في وقت متأخر لتبرير حدة الصراع الدامي ما بين الأسرتين الهاشمية والأموية. ولعل منطقه يبدو صحيحاً في ظل تعدد القصص المشابهة لتلك القصص في ثقافات الشعوب القديمة، والتي من أشهرها ما حُكي في سفر التكوين في العهد القديم عن الصراع والعداء ما بين الشقيقين العيسو ويعقوب بسبب كونهما توأمين. وربما كانت رمزية التوأمين، تكمن في كون أحدهما يرمز إلى الخير والحق والأخر يرمز للشر والظلم، مما يجعل من اجتماعهما معاً مصدراً ومبرراً لحدوث العداء والصدام والتنافر على مدار الأجيال. هي بمثابة ما يعرف بـ"توبوس"، أي تعبير يستخدم بصفة رمزية، مثل قول الرواة "عاش فلان 77 عاماً"، والقصد ليس بالضرورة العمر بحد ذاته، بل التدليل أن الشخص عاش طويلاً.
هاشم وعبد شمس: الحكم والتجارة
بعد وفاة عبد مناف، انتقلت أغلب صلاحياته ومسؤولياته إلى ابنه هاشم، وبحسب ما يورد ابن هشام في السيرة النبوية، فإن اسم هاشم الحقيقي كان عمرو، وإنما سمي بهاشم لـ"هشمه" الخبز لعمل الثريد بمكة لقومه في عام المجاعة، وهو الأمر الذي أكسبه محبة القريشيين فارتضوه زعيماً لهم. وقد اختص هاشم من بين ولد أبيه باستضافة الحجيج، وبتقديم الطعام والشراب لهم، بينما كان أخوه عبد شمس قد شق طريقه ليصبح من كبار التجار وكان مشغولاً طوال الوقت بالسفر والترحال. وهكذا كان لكل من الأخوين طريقٌ يسير فيه، فبينما ولّى الأول وجهه ناحية الشرف والسؤود القبلي، كان الثاني قد ركز همه في إتقان فنّ التجارة والدبلوماسية وعلومهما.
أمية يحلُّ محل أبيه
بدأت المشكلة الأولى ما بين فرعي بيت عبد مناف بعد وفاة عبد شمس، حيث كان أميّة بن عبد شمس يمنّي نفسه دائماً بمقام الزعامة والرياسة الذي وصله عمه، وكان يرى في نفسه نداً حقيقياً له، ولذلك عمل على التشبه به. فعمل على ذبح الذبائح وتقديم الطعام لقريش وحجيج البيت الحرام، وحاول أن يُظهر نفسه بمظهر السيد المُطاع، ولكن يبدو أنه لم يكن محبوباً بالقدر الكافي في مكة، ففشلت خطته، ودبت الخلافات ما بين وبين عمه. وكما يخبرنا المؤرخ الكبير المقريزي، أن الإثنين احتكما لكاهن من قبيلة خزاعة، وصدر الحكم بإبعاد أميّة بن عبد شمس وتغريبه عن مكّة، فرحل إلى الشام ومكث بها لمدة عشر سنين وتوفي فيها حزيناً بائساً، بينما استمر هاشم على مكانته التي ورثها ابنه الأكبر عبد المطلب بعد وفاته.
بدايات الإسلام: البيت الأموي يتزعم حركة المعارضة
استمر عبد المطلب زعيماً لقريش على مدار سنين طويلة، في الوقت الذي كان فيه أبناء أمية ما يزالون أطفالاً صغاراً يتحسسون طريقهم بعد رجوعهم من منفى أبيهم في بلاد الشام. مع وفاة عبد المطلب، استقرت زعامة البيت الهاشمي لأبي طالب، في الوقت الذي تصادف معه إعلان الرسول الكريم عن دعوته لأهل مكة للدخول في الإسلام. دعوة الإسلام بما تتضمنه من مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية، كانت في حقيقة الأمر تتعارض بشكل مباشر مع أفكار البيت الأموي التي كانت تركز على التفاوت الطبقي وتعتمد على العصبية القبلية. لذلك لم يكن من الغريب أن نجد أغلبية الأمويين ينخرطون في حركة المعارضة القرشية العنيفة للإسلام، ويعلنون عن رفضهم له بشكل قاطع. وقد التفت المستشرق الإنجليزي منتجمري وات في كتابه محمد في مكة لتلك المسألة، فأورد إحصاء يتضمن أسماء زعماء الأمويين الذين عارضوا الرسول منذ أول البعثة وحتى هجرته إلى المدينة، حيث أثبت أن العداء القرشي للإسلام كان عداء أمويّاً بامتياز. ولعل نظرة واحدة في أسماء زعماء الكفّار في تلك المرحلة، تكشف لنا عن تلك الحقيقة، فقد تضمنت قائمتهم أسماء مثل أبو سفيان بن حرب وعتبة بن الربيعة والحكم بن أبي العاص وعقبة بن معيط وسعيد بن العاص، وكلهم من أبناء بيت عبد شمس الذين تواترت أخبار إيذائهم للرسول والمسلمين في المصادر التاريخية القديمة.
صفين وما بعدها: علي ومعاوية
معركة صفين
بعد وفاة الرسول في العام الحادي عشر من الهجرة، ظهرت مسألة خلافته، وإن كانت تلك المسألة لم تثر إلا قدراً ضئيلاً من الخلاف في عهدي أبي بكر وعمر فقد أثارت مشكلات كبرى فيما بعد ذلك. فبعد وفاة عمر بن الخطاب، كان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان من ضمن المرشحين لمنصب الخلافة، وقد ذكرت بعض المصادر أن نوعاً من المجادلات القبلية قد أخذت طريقها إلى صفوف مناصري كل منهما. فيذكر الطبري على سبيل المثال، أن عبد الرحمن بن عوف –الذي كان مسؤولاً عن اختيار الخليفة الجديد-كان قد سأل الناس في المسجد عمن يختارون، فتعصب الكثير من بني هاشم لعلي، بينما وقف أبناء عبد شمس في صف عثمان. وإن كانت تلك المشكلة العارضة قد مرّت بسلام في تلك اللحظة التاريخية، إلا أنها سرعان ما عادت إلى الظهور بعد مقتل الخليفة الثالث وتنصيب علي بن أبي طالب. فوالي الشام معاوية بن سفيان، والذي كان أحد أحفاد أمية بن عبد شمس، رفض مبايعة الخليفة الجديد، ورفع راية الثأر لعثمان، وأعلن أنه، وبحكم قرابته منه، صار ولي دمه والمطالب بأخذ القصاص له، وهو الأمر الذي لم يتقبله علي بن أبي طالب. أسفرت تلك الخلافات السياسية ذات المرجعية القبلية، عن حدوث عدد من المعارك الأهلية ما بين المسلمين وبعضهم البعض، ولعل أهمها كانت معركة صفين التي وقعت في صفر عام 37هـ/ يوليو 657م، والتي قُتل فيها الآلاف من الفريقين. وبعد اغتيال علي بن أبي طالب، استمرت الحرب ما بين ابنه الحسن ومعاوية، حتى اتفق الاثنان على الصلح، وتسليم أمر الخلافة لمعاوية في عام 41هـ/661م، وكان في ذلك إعلاناً لانتقال الزعامة للمرة الأولى للبيت الأموي، حيث دُشنت حقبة الدولة الأموية.
كربلاء: يزيد يقتل الحسين
قبل وفاة معاوية، عهد بالخلافة من بعده لابنه يزيد، وأغضب هذا الأمر كبار الصحابة، وعلى رأسهم الحسين بن علي والذي كان وقتها الزعيم الأول للبيت الهاشمي. رفض الحسين الانصياع لمبايعة يزيد، وتوجه للكوفة بدعوة من شيعته وأنصاره الذين وعدوه بالثورة، ولكن الجيش الأموي الذي أرسله يزيد التقي به في كربلاء، وحدث قتال غير متكافئ ما بين الفريقين، انتهى بمتقل الحسين ومعظم أهل بيته. وقد ذكر جماعة من المؤرخين، من بينهم جلال الدين السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء، أن يزيد عندما رأى رأس الحسين، أنشد بعض أبيات الشعر التي تمنّى فيها أن يكون أجداده من الأمويين الذين قُتلوا في بدر، حاضرين ليشهدوا على انتصاره المؤزر على البيت الهاشمي. وربما كان المقريزي المتوفى في 845 هـ، من أكثر المؤرخين الذين التفتوا إلى طبيعة الصراع القبلي ما بين بني هاشم وبني عبد شمس، ودور ذلك الصراع في تطوّر الأحداث السياسية في الإسلام. حيث عبر المقريزي عن رأيه في بعض أبيات الشعر التي جاء فيها: عبد شمس قد أضرمت لبني ... هاشم حرباً يشيب منها الوليد فابن حربٍ للمصطفى وابن ... هند لعلــــيٍ وللحســـــين يزيــــــد ولم ينتهي الصراع الهاشمي الأموي بمذبحة كربلاء، بل إن العديد من الأحداث الممتدة على مدار الدولة الأموية قد تابعته وأكملته. ولعل أهم تلك الحوادث كان ثورة زيد بن علي بن الحسين على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في عام 122هـ/740م، والتي فشلت هي الأخرى، بعدما قُتل زيد وقطعت رأسه وصلب الأمويين جسده بالكوفة.
الزمان يستدير: العباسيون يصلون للسلطة
كل تلك المظالم المتتالية التي تعرض لها البيت الهاشمي على مدار أجيال متوالية من الأمويين وأبناء عبد شمس، وجد الهاشميون فرصة للثأر والقصاص لها في عام 132هـ/ 749م تحديداً، وذلك عندما نجحت الثورة العباسية في تقويض أركان دولة بني أمية. بدأ العباسيون بقتل الأمويين والتنكيل بهم بكل طريقة ممكنة، حتى قيل إن الخليفة العباسي الأول المعروف بالسفاح قد لقب بذلك الاسم لكثرة ما سفك من دماء الأمويين، وقيل أيضاً إن العباسيين قد نبشوا قبور بني أمية وأحرقوا رفات جثثهم. ومع أنّ دعوة العباسيين قامت على تصحيح استئثار الأمويين بالسلطة، لصالح "الرضا" من آل محمد، إلا أنّهم هم أنفسهم قاموا بقمع عدد من ثورات أحفاد الرسول الذين آمنوا بأحقيتهم في الخلافة. وبهذا، فإن الصدام الذي بدأ بين أبناء أخوين في القرن السادس الميلادي، استمر دائراً ما بين أحفادهم ومؤيديهم حتى اليوم، تعتمده الأطراف المتحاربة على النفوذ والسلطة في شرعنة الانقسام والطائفية والحروب.
https://raseef22.net/article/110797-%D9%87%D8%A7%D8%B4%D9%85-%D9%88%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%B4%D9%85%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%86-%D8%BA%D9%8A%D9%91%D8%B1%D8%A7-%D9%88%D8%AC