"أن تُصبح كوستو".. رحلة البحّار المهموم بمستقبل الكوكب
 رحلة البحّار المهموم بمستقبل الكوكب -والباحث-يرفض-تسميته-بالمغامر
عَرف العالم المستكشف الفرنسي "جاك إيف كوستو" من خلال ظهوره المبكر على شاشات التلفزيون وهو يجوب البحار والمحيطات بسفينته الشهيرة "كاليبسو"، فهو يغوص في أعماقها وينقل للبشرية ما لم تعرفه من قبل عن جمال عوالمها وشدة غرابتها.
كثير من ذلك العالم الغامض صار معروفا بفضل جهده الذي امتد لأكثر من نصف قرن، لكن المخرجة الأمريكية "ليز غاربوس" تريد في وثائقيها "أن تصبح كوستو" (Becoming Cousteau) تعريف العالم بإنسان "كوستو" المهموم بمصير البشرية ومستقبل كوكب الأرض، إلى جانب انشغاله بمعرفة "عالم البحار"، ذلك الاسم الذي أُطلق على برنامجه التلفزيوني، وحظي بإقبال جماهيري كبير جعله واحدا من أشهر المستكشفين والباحثين في العالم.
"علينا أن نذهب ونرى بأنفسنا".. من طيار بحري إلى مُستكشف للبحار
اعتمد الوثائقي في بنائه وكتابته جوانب مهمة من سيرة "كوستو" على تسجيلاته الشخصية (فيديو)، وبما صوّره بنفسه ووثق به رحلاته واستكشافاته الطليعية للبحار والمحيطات، وبفضلها جاء الفيلم الأمريكي سلسا في سرده لمقاطع طويلة من حياته الشخصية، وقد استطاع الفيلم من خلالها الانتقال إلى العوالم الأخرى التي انشغل بها وكرّس حياته لها، وكان شعاره دائما للوصول إليها هو "علينا أن نذهب ونرى بأنفسنا".


لقد أراد "كوستو" رؤية ما يجري في أعماق المياه التي جلبت اهتمامه منذ صغره، حيث كان يتساءل في طفولته عن ذلك السائل العجيب القادر على حمل ورفع السفن العملاقة؟
جاء وصوله إلى عمق المياه والغوص فيها عن طريق الصدفة، لأنه لم يفكر في شبابه أن يصبح عالما أو مستكشفا بحريا، بل أراد أن يكون طيارا بحريا، فقد دخل الأكاديمية البحرية، وفي أثناء دراسته الطيران فيها تعرض لحادث سير إثر انزلاق سيارته عن الطريق، مما أدى إلى شلل أحد ذراعيه مؤقتا، وأجبره على ترك الدراسة.
فرسان الغوص الثلاثة.. اكتشاف جديد للتنفس تحت الماء
كنوع من العلاج، اقترح عليه والده المولع بالسباحة والصيد الذهاب معه برفقة صديقه الغواص إلى البحر، حيث جرّب في بداية الأمر الغوص قليلا فيه، وبعد اكتشافه جمال الإحساس بمشاهدة ما تحت السطح راح يُجرّب النزول أعمق فأعمق بمعونة صديق والده الذي وفّر له جهازا قديما للتنفس تحت الماء.
 رحلة البحّار المهموم بمستقبل الكوكب -الغوص-الثلاثة
فرسان الغوص الثلاثة كوستو ووالده وصديق الوالد


انبهاره بالعوالم التي يراها في الأعماق وشغفه بالشعاب المرجانية دفعه للتفكير في ابتكار جهاز جديد يساعد على البقاء أطول فترة داخل الماء، وسيتوصل إلى أسطوانة غاز الأوكسجين المضغوط التي مثلت فتحا في عالم الغوص، ومكنت الغوّاصين من التنفس عبرها والبقاء طويلا تحت الماء، ستطلق الصحافة بعد ذلك الاكتشاف وتجريبه عمليا على الغواصين الثلاثة: فرسان الغوص الثلاثة.
"كائن حي وليست قاربا".. رحلة السفينة الكاسحة للألغام
يتوقف الوثائقي كثيرا عند سفينة "كاليبسو" التي اقترن اسم "كوستو" بها، منذ أولى رحلاته مع فريقه على متنها لاكتشاف عالم البحار عام 1951. السفينة التي كانت في الأساس كاسحة ألغام تابعة للبحرية الفرنسية أحيلت بعد الحرب العالمية الثانية على التقاعد، وتمكن "كوستو" من شرائها، حيث انضمت زوجته إليه في رحلاته إلى جانب عدد غير قليل من المتطوعين من غير مقابل مادي.
يصف "كوستو" سفينته بأنها "كائن حي وليست قاربا"، فقد وثق بالصورة كل تفاصيل رحلاته على متنها. لقد أحب التصوير وجعل من كاميرته قلما يسجل بها يومياته، فقد دفعه حبه للسينما إلى تطوير كاميرات تصوير تحت الماء، وبفضلها سجّل مشاهداته كغواص، وشاهد العالم عبر ما التقطته عدساتها، واندهش بجمال الحياة البحرية وجمال الشعب المرجانية والأسماك على اختلاف أنواعها وهي تتحرك في بيئتها.
وحش الربح التجاري.. خطر يُهدد الحياة البحرية
وجود "كوستو" وسط البحار جعله شاهدا على محاولات كانت تجري لاستغلال ثرواتها الطبيعية لأغراض تجارية ربحية لا تراعي ولا تهتم بحماية البيئة البحرية، فقد رأى بأمّ عينيه تفجيرات حيّة يقوم بها خبراء يعملون لصالح شركات صيد عملاقة، ويريدون بها قياس فعالية بعض القنابل البحرية على الأسماك الموجودة تحتها، ومعرفة كم منها ستموت بفعل قوة التفجير.
 رحلة البحّار المهموم بمستقبل الكوكب -من-ابتكاره-لرصد-عالم-البحار-أطول-مدة-ممكنة
غواصة من ابتكار كوستو لرصد عالم البحار أطول مدة ممكنة


وقد شعر أيضا بظهور خطر جديد يُهدد الحياة البحرية، ويتمثل بمحاولات بعض الشركات اكتشاف الموارد الطبيعة المخزونة في أعماقها، وسيندم لاحقا لمساهمته في جزء منها تحت ضغط العوز المادي، حين قبل بالعمل كباحث عن الثروات البحرية الطبيعية من غاز وبترول ومعادن لصالح شركة "بي بي" (BP)، رغم أن دوافعه -كما يعلن- كانت من أجل توفير مصادر مالية تعينه على الاستمرار في بحوثه، وإدامة أسفاره الاستكشافية على متن قاربه.
"العالم الصامت".. مريض بالسينما يحصد جائزة السعفة الذهبية
يهتم الوثائقي كثيرا بـ"كوستو" السينمائي وعشقه للفن السابع منذ نعومة أظافره، فقد كان يكتب وهو ابن 13 عاما سيناريوهات بسيطة، ثم يقوم هو وشقيقه بتمثيلها، لقد أدرك مبكرا أهمية الصورة ومدى قوة تأثيرها على الناس.
يعترف "كوستو" بأنه مريض بمرض خفي اسمه السينما، حيث سيوصله شغفه عام 1956 إلى مهرجان "كان" السينمائي عبر فيلمه "العالم الصامت" (The Silent World)، وينال عليه جائزة السعفة الذهبية.
سيدخل "كوستو" التاريخ بوصفه سينمائيا يرفض توصيف أفلامه بالتسجيلية، بل يعتبرها أفلام مغامرات حقيقية، يقوم هو بنفسه بإخراجها وكتابتها.


لقد أثارت ألوان الأسماك الجميلة وجمال طبيعة البحر المنقولة بكاميرته على الشاشة خيال الناس، وألهمت الفنانين أفكارا جديدة، ومن بينهم الرسام العبقري "بيكاسو" الذي اعترف بتأثره الشديد بألوان الأسماك المبهرة التي شاهدها على الشاشة.
"الرجل ذو القلنسوة الحمراء".. هاجس الخراب البيئي يفسد الحلم
لطالما رفض "كوستو" وصفه بالمغامر، مشددا على صفته العلمية كباحث، فكل خطوة يقوم بها مع فريقه يدرسها ويُخطط لها بعناية، وأنه أدخل مفهوما جديدا للغوص يُقارب إلى حد كبير مفهوم اكتشاف الإنسان للفضاء.
كما أوصلته دراسته المُعمقة للبحار إلى صُنع غواصة تتيح للباحثين فرصة البقاء لأيام داخل المياه، يراقبون من خلالها ويُسجلون ملاحظاتهم حول ما يرونه من قريب، ومنها استوحى فكرته لإقامة مستوطنات بشرية مغلقة داخل المياه.
سيتراجع "كوستو" عن حلمه لاحقا، وينتقد فكرته بنفسه، لأنه -حسب ما تراكم عنده من خبرات ومعرفة بجشع أصحاب المشاريع التجارية العملاقة- أدرك أن فكرته لو كتب لها النجاح، فإنها ستفتح المجال واسعا أمام أصحاب الشركات لاستغلالها لصالحهم، وسيقومون دون تردد بتدمير البيئة البحرية كما دمروا الأرض.
 رحلة البحّار المهموم بمستقبل الكوكب -كوستو-بالرجل-ذو-القلنسوة-الحمراء
عُرف المُستكشف كوستو بـ"الرجل ذو القلنسوة الحمراء"


لهذا ركز على تعريف العالم بجمال ما يكمن في عمق البحار، وسيُتوج منجزه الاستكشافي في عام 1967 بسلسة وثائق تلفزيونية أعدّها لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن ذلك العالم وأسراره. بعدها يكمل المستكشف الذي سيطلق عليه لقب "الرجل ذو القلنسوة الحمراء" عمله في حقل الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، وخلال سنواتها سينتقل من مرحلة العرض والإبهار، إلى التحري والكشف عن الخراب البيئي المتعمد الذي شاهد حدوثه بنفسه.
تصريف النفايات الصناعية.. جشع المُخرّب الأول للبيئة
هنا يبرز "كوستو" الناشط البيئي والمدافع عن حماية الأرض، والذي لم يظهر بذلك الوضوح كما ظهر في فيلم "أن تصبح كوستو".
يشرح بوضوح للسياسيين مخاوفه من سلوك الشركات المنفلت إزاء الطبيعة، ويدعو عبرهم العالم كله للعمل على وقف تدهور البيئة، ووضع قوانين واضحة تحدّ من التلوث والصيد العشوائي.
يعترف "كوستو" أنه من خلال رحلاته اكتشف أن الإنسان هو المخرب الأول للبيئة، حيث يقوم بشكل مرعب بتدمير المحيطات عن طريق تصريف النفايات الصناعية السامة إلى مياهها، كما يُشيع أصحاب الشركات العملاقة انطباعا بأن الكرة الأرضية والمحيطات ما هي إلا مساحات واسعة تستوعب دون مشاكل كل النفايات الصناعية.
"جمعية كوستو".. صرخة الأخطار المُحدقة بالأرض
نشاطه مع بقية العلماء والمدافعين عن البيئة أوصله لتأسيس "جمعية كوستو" لحماية البيئة، مثلها مثل منظمة "السلام الأخضر".
 رحلة البحّار المهموم بمستقبل الكوكب -بيئي-لتوعية-الناس-بالمخاطر-التي-تحيط-بالأرض
نشاط "جميعة كوستو" لبث الوعي البيئي بين الناس، وتنبيههم إلى الأخطار المُحدقة بالأرض


يستغل الباحث والناشط البيئي وجود جمعيته وكثرة المنتسبين إليها وأيضا الأفلام الوثائقية التي ينتجها؛ لبث الوعي البيئي بين الناس، وتنبيههم إلى الأخطار المُحدقة بالأرض، فيذهب إلى القطب المتجمد الجنوبي ليوثق تأثيرات الاحتباس الحراري على التوازن الطبيعي الآخذ بالاختلال هناك. ويستغل إمكانياته التصويرية ليفضح كميات الرصاص السامة المُعلبة داخل البراميل، والمرمية في البحر قبالة السواحل الإيطالية.
في عام 1975 يقود حملة علمية لحماية القطب والحفاظ على ما تبقى من الشعب المرجانية، يحذر من المخاطر الناتجة عن موتها على الإنسان والطبيعة سواء،ويؤكد في محاضراته التثقيفية وأسفاره الاستكشافية في مناطق مختلفة من العالم إلى وحدة الوجود، وأن أي اختلال حاصل في منطقة ما من الكرة الأرضية سيؤثر سلبا على بقية المناطق.
مسؤولية تلقى على عاتق الأجيال.. دعوة الأيام الأخيرة
بعد عدة نكبات عائلية تمثلت بموت زوجته بمرض السرطان وابنه "فيليب" إثر سقوط الطائرة التي كان يقودها؛ يدعو "كوستو" في أيامه الأخيرة (توفي في باريس عام 1997) السياسيين للوفاء بوعودهم، لكنه يراهن على وعي الناس أكثر.
ينهي الوثائقي الجميل المتكامل البناء مساره بعبارة يحيل فيها المستكشف والعالم والسينمائي المتعدد المواهب "كوستو" أمر الأرض إلى الأجيال القادمة، متعكزا في رؤيته على إدراكها المتزايد، وإحساسها بحجم الأخطار الجدّية التي تهدد مستقبلها ووجودها بالأساس.
 








https://doc.aljazeera.net/cinema/%D8%A3%D9%86-%D8%AA%D9%8F%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D9%83%D9%88%D8%B3%D8%AA%D9%88-%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D9%91%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D9%85%D9%88%D9%85-%D8%A8/?fbclid=IwAR0GI27hKmk8eQD4g_hgMtBnnKBAsE92PTlWx3GKehM59bORpeplzkSUGY8