نقوش "خواتم" الخلفاء العباسيين... فلسفات ودلالات سياسية ودينية
عندما أراد الرسول أن يكتب إلى كسرى فارس، وإلى قيصر الروم، ليدعوهما إلى الإسلام، قيل له إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نُقش عليه "محمد رسول الله".
ويُروى أن هذا الخاتم انتقل إلى الخلفاء الراشدين، وأولهم أبو بكر الصديق ثم إلى عمر بن الخطاب، ثم إلى عثمان بن عفان، ووقع من يد الأخير في بئر إريس قرب قباء جنوب المدينة المنورة، سنة 30هـ، ولم يُعثر عليه بعد ذلك، فاصطنع عثمان خاتماً مثله، حسب ما يذكر الدكتور حسين الحاج حسن في كتابه "النظم الإسلامية".
ولم يحُل انتقال الخاتم النبوي إلى الخلفاء الثلاثة دون اتخاذهم خواتم خاصةً بهم نقشوا عليها المعاني الموجزة العامرة بالإيمان والثقة والحكمة بما يتواءم مع ظروف عصرهم.
يذكر الدكتور علي حسني الخربوطلي، في كتابه "الإسلام والخلافة"، أن نقش خاتم أبي بكر كان "نعم القادر الله"، وخاتم عمر "كفى بالموت واعظاً يا عمر"، وخاتم عثمان بن عفان "لتصبرن أو لتندمن"، وخاتم علي بن أبي طالب من بعدهم "الملك لله".
وعلى مدار فترات التاريخ الإسلامي المتعاقبة، واقتداءً بالرسول محمد، اتخذ الخلفاء والسلاطين خواتم لأغراض رسمية وغير رسمية، ونقشوا عليها عبارات تعكس أفكارهم ورؤاهم وفلسفاتهم في الحياة.
الأمويون... معانٍ دينية
على منوال خاتم النبي، وخواتم خلفائه الراشدين، نُسجت كتابات خواتم خلفاء بني أمية، فكانت لكل واحد منهم عبارة معيّنة اختص بنقشها على خاتمه، لأن لها في حياته أو في فكره معنى دينياً يريد إعلامه للملأ من أمته.
يذكر عاصم محمد رزق، في كتابه "رايات الإسلام من اللواء النبوي الأبيض إلى العَلَم العثماني الأحمر"، أن الخليفة الأموي كان يحضر إلى المسجد مرتدياً عمامةً بيضاء مرصعةً بالجواهر، ثم يرتقي المنبر لإلقاء خطبة الجمعة وبيده الخاتم والعصا وهما شارتا المُلك.
وينقل رزق عن كتاب "التنبيه والإشراف"، لأبي الحسن علي المسعودي، أن نقش خاتم معاوية بن أبي سفيان كان "لا قوة إلا بالله"، ونقش خاتم مروان بن الحكم كان "العزة لله"، وخاتم الوليد بن عبد الملك نُقش بـ"يا وليد إنك ميت"، وخاتم عمر بن عبد العزيز كُتب عليه "لكل عمل ثواب"، أما نقش خاتم هشام بن عبد الملك فحمل كلمتي "الحكم للحكيم".
والمعروف أن معاوية بن أبي سفيان كان أول من جعل للخاتم ديواناً مهماً في دواوين خلافته، وهو ديوان أنشئ لمنع الغش والتزوير والتلاعب بمضمون مراسلات الخليفة، وبهدف خروج مراسلات من دون أن يعلم أحد بما تحتويه من أسرار إلا الخليفة، وظل معمولاً به حتى أواسط عهد الدولة العباسية.
وحسب رزق، كان الخاتم من أهم رموز الخلافة الأموية في الأندلس، وكان يحمل في نقشه اسم العاهل أو الأمير مصحوباً بعبارة يختارها من اثنتين، هما: "بقضاء الله راضٍ"، و"بالله يثق وبه يعتصم"، وكانت العبارة المختارة منهما تُنقش بعد ذلك على رايات الجيش.
وقيل إن خاتم كل من أمراء الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الأوسط، والمنذر بن محمد، وعبد الرحمن الناصر، والحكم المستنصر، كان يحمل عبارة "بقضاء الله راضٍ"، أما خواتم هشام الرضا ومحمد بن عبد الرحمن فكانت تحمل عبارة "بالله يثق وبه يعتصم"، كما يذكر رزق.
العباسيون... الثقة والإيمان
في العصر العباسي، دارت نقوش الخلفاء العباسيين حول أكثر من معنى، منها حسن الثقة بالله. يذكر محمد محمود أحمد الدروبي في كتابه "نقوش خواتم الخلفاء العباسيين"، أنه غالباً ما اجتمع معنيا الثقة والإيمان في نقوش الخلفاء العباسيين الأوائل، اقتداءً بنقش الخليفة العباسي الأول أبي العباس السفاح (104-136هـ)، الذي نقش على خاتمه "الله ثقة عبد الله، وبه يؤمن"، مؤسساً بذلك نمطاً احتذاه عدد من الخلفاء في ما نقشوه على خواتمهم، مع إجراء التغيير المناسب المتعلق باستبدال اسم الخليفة صاحب النقش.
تجلى ذلك بوضوح في نقش الخليفة العباسي الثاني عبد الله الثاني بن محمد المنصور، وصورته "الله ثقة عبد الله وبه يؤمن"، ونقش محمد بن عبد الله المهدي وصورته "الله ثقة محمد، وبه يؤمن"، ونقش أبي محمد موسى الهادي وصورته "الله ثقة موسى، وبه يؤمن"، ونقش عبد الله المأمون وصورته "الله ثقة عبد الله، وبه يؤمن".
على أن بعض النقوش التي تجري هذا المجرى قد تختلف صورتها، كإيراد كنية صاحب النقش عوضاً عن اسمه، مثلما هو الحال في نقش الخليفة أبي إسحاق محمد المعتصم بالله (179-227هـ)، الذي حمل عبارة "الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن".
وظل تأكيد حسن الثقة بالله والإيمان به، أهم المعاني التي دارت حولها نقوش خواتم خلفاء بني العباس طوال العصر العباسي الأول وحتى انصرام خلافة المتوكل، بيد أن هذا المعنى الأثير بدأ يتضاءل تضاؤلاً بيّناً في نقوشهم بين منتصف القرن الثالث ومنتصف القرن الرابع للهجرة، إذ حملت معاني جديدة.
لكن ذلك لم يَحُلْ دون ظهور بعض النقوش المعبرة عن الثقة بالله بين الفينة والأخرى، كما في نقش أبي إسحاق محمد المهتدي بالله (219-256هـ)، وكان "المهتدي بالله يثق"، وخاتم أبي محمد علي المكتفي بالله (264 – 295هـ)، الذي نُقش عليه "بالله علي بن محمد يثق"، وخاتم جعفر المقتدر بالله (282-320هـ)، وكُتب عليه "جعفر بالله يثق"، ونقش أبي إبراهيم إسحاق المتقي لله (295-357هـ)، وكان "إبراهيم بن المقتدر بالله يثق".
معنى الثقة بالله كاد يختفي تماماً من نقوش خواتم الخلفاء منذ منتصف القرن الرابع إلى سقوط الخلافة، باستثناء نقش أحمد المستظهر بالله (470-512هـ)، والذي حمل "ثقتي بالله وحده".
واستعمل الخلفاء العباسيون في التعبير عن هذا المعنى قوالب لفظيةً أخرى تؤكد حسن ثقتهم بالله من غير إجراء لفظ الثقة، ودار هذا المنحى أكثر ما يكون حول تأكيد فضل الله على عبده واستجابته لسائله، ويُلمَح هذا في نقشَي الأمين "قاصده لا يخيب" و"سائل الله لا يخيب"، ونقشَي المأمون والمعتصم وصورتهما "سَلْ الله يعطيك".
حمد الله بعد تولي السلطنة
فضلاً عن معنى الثقة بالله، قامت العديد من نقوش الخلفاء العباسيين على معنى حمد الله، بعد أن منّ عليهم فجعلهم ولاة أمر الرعية، ومن هذا القبيل نقش المنصور "الحمد لله كله"، ونقش المعتصم "الحمد لله الذي ليس كمثله شيء"، واتخذ المكتفي والمقتدر من بعده النقش نفسه تقليداً ومحاكاةً.
واشتملت طائفة من النقوش على معنى التوكل على الله والاعتماد عليه، ولعل لا خليفة عباسياً تمسّك بهذا المعنى وأشاعه في نقوش خواتمه كما صنع الخليفة المتوكل الذي اتخذ لقباً يشير إلى هذا المعنى تحديداً، وظهر ذلك في خمسة من نقوشه، ما يدل على أن هذا المعنى كان يمثّل خلاصة فلسفته في الحياة، فقد ظهرت على نقوشه عبارات: "على إلهي اتكالي"، و"على الله توكلت"، و"المتوكل على الله"، و"جعفر على الله يتوكل"، و"لا إله إلا الله، المتوكل على الله".
ويُلمَح هذا المعنى جليّاً في بعض نقوش الخليفة أيي العباس أحمد المعتمد على الله (292-279هـ)، الذي تقترب دلالة لقبه من دلالة لقب المتوكل على الله، فنقش على أحد اثنين من خواتمه "المعتمد على الله يعتمد"، وعلى الآخر "اعتمادي على الله وهو حسبي". ووُجد نقش شبيه للمكتفي "اعتمادي على من خلقني".
ألقاب ودلالات سياسية
الملاحظ أن نقوش الخلفاء العباسيين ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بألقابهم التي حملت في طياتها دلالاتٍ دينيةً وسياسيةً عميقةً، وكان هارون الواثق بالله (200-232هـ)، أول الخلفاء الذين اتخذوا نقوشاً مطابقةً لألقابه، فحملت نقوشه لقبه "الواثق بالله"، وجرى الخلفاء من بعده على هذه السنّة، فكان نقش المتوكل "المتوكل على الله"، ونقش المنتصر "المنتصر بالله"، ونقش المعتز "المعتز بالله".
وحسب الدروبي، التزم هذا النمط من تطابق النقش واللقب سائر الخلفاء العباسيين منذ مطلع القرن الرابع حتى انتهاء الخلافة العباسية في منتصف القرن السابع، على أيدي الغزاة المغول.
وإلى جانب هذا الملمح، ظهرت في نقوش الخلفاء أحياناً بعض الألقاب الدينية التي تشير إلى صفة الخليفة بوصفه ولي الأمر، وأهمها لقب "أمير المؤمنين" الذي ظهر في بعض نقوشهم، بين منتصف القرن الرابع ومنتصف القرن الخامس، كما في نقش المهتدي "محمد أمير المؤمنين"، ونقش المستكفي "المستكفي بالله أمير المؤمنين".
ومن هذه الألقاب لقب "الإمام" الذي ظهر مقروناً بلقب أمير المؤمنين في نقشٍ واحد من نقوشهم، هو نقش محمد القاهر بالله (286- 339هـ): "بالله محمد الإمام القاهر بالله أمير المؤمنين يثق". ولعل هذا النقش يكون أكثر النقوش العباسية احتفالاً بالألقاب، إذ اشتمل في آن معاً على ثلاثة ألقاب، فضلاً عن اقتران ذلك بذكر الاسم، كما يذكر الدروبي.
فكرة الولاية
منذ منتصف القرن الثالث، ظهر في نقوش الخلفاء معنى جديد تردد في عدد من نقوشهم، وهو فكرة الولاية، ويستوي هذا المعنى على إقرار صاحب النقش بولايته لله، كما في نقشَي الخليفتين محمد المعتز بالله (232-255هـ)، والمعتمد على الله وصورتهما "الله وليي".
وقد تتعدى حدود الولاية في بعض النقوش إلى النبي، كما هو الحال في نقش محمد المنتصر بالله (222-248هـ)، "أنا من آل محمد، الله وليي ومحمد". وقد تتسع دوائر الولاية في بعض النقوش إلى المؤمنين الذين هم أولياء الرحمن، فقد جاء أحد نقوش المقتدر على هذه الصورة: "الله ولي المؤمنين".
حماة الدين
ويلاحَظ أن نحو نصف الخلفاء العباسيين نقشوا على خواتمهم عبارة "الشهادة"، كونها أحد مبادئ الإسلام وشعاراته الشهيرة، ويبدو أن الخلفاء كانوا يتوارثون أو يتناقلون نقش هذا الشعار بوصفهم خلفاء الإسلام وحماة الدين المدافعين عن المسلمين، فهم يمثلون السلطة الدينية التي يجب أن تتحلى نقوشها وشاراتها بسمة الإسلام.
وعظ النفس
وجرت نقوش كثيرة للخلفاء العباسيين مجرىً يقوم على وعظ النفس وتخويفها بالله، ودعوتها إلى تقواه، وتحذيرها من سوء العاقبة، ويقوم هذا المنحى على مخاطبة الذات، فنرى المنصور يخاطب في نقش أحد خواتمه نفسه، قائلاً: "اتّقِ الله، فإنك تُردُ فتعلم".
ونرى هارون الرشيد (149-193هـ)، يقارب هذا المعنى داعياً نفسه إلى الحذر من الله وعدم التراخي، كما في نقشه "كن مع الله على حذر"، ونظيره نقش الخليفة محمد المقتفي لأمر الله (489-555هـ)، وجاء عليه: "كن مع الله على حذر تسلم". والمهتدي يخوّف نفسه ويرهبها بـ"يا محمد، خف الله".
وفي بعض الأحيان، كان قِوام الوعظ بذكر حقيقة الموت، كما على نقش الخليفة المأمون: "الموت حق".
عمق التجربة
نقوش كثيرة للخلفاء العباسيين تلبّست جانباً من الحكمة، على أن هذا المنحى لم يظهر في نقوشهم إلا بعد القرن الثالث، أي في العصر العباسي الثاني، كما في نقش المنتصر بالله "يؤتى الحذر من مأمنه"، وهو مثل عربي يدعو المرء إلى وجوب الحذر وإعمال اليقظة، لا سيما في المَواطن التي يعدّها المرء آمنةً، فيظهر التهاون بشأنها، فيؤخذ على حين غرّة.
ومن النقوش العباسية التي تحمل حكمةً، نقش الخليفة أحمد المستعين بالله (220-252هـ): "في الاعتبار غنى عن الاختبار"، ومعناه أن يعتبر المرء من تجربة غيره أفضل له من أن يخوض غمار تلك التجربة بنفسه، أي أن يستفيد من أخطاء الآخرين ويتجنبها، وهذا المعنى يلتئم مع معنى نقش المعتمد: "السعيد من وُعظ بغيره"، وهي حكمة عربية.
وهناك نقش بارز آخر ظهر على خاتم محمد الظاهر بأمر الله (571-623هـ): "راقب العواقب"، ومعناه أن المرء العاقل يستشعر عواقب الأشياء قبل أن يتلبس بها، أي أنه يعرف ما سيؤول إليه كل أمر يقدِم عليه، فيعدّ عدّته الممكنة.
ويدنو من هذا المعنى نقش الخليفة حسن المستضيء بأمر الله (536-575هـ)، الذي جاء فيه: "من فكر في المآل عمل للانتقال"، ومؤداه وجوب الاستعداد والعمل للمنقلب الذي سيصير إليه المرء بعد حياته الدنيا.
https://raseef22.net/article/1086590?fbclid=IwAR0Q-1XxJPlP0kdLll5JuMWNuNCIFQJfuVL6TItzn8ANyKmW5TmF6tLCEMM
عندما أراد الرسول أن يكتب إلى كسرى فارس، وإلى قيصر الروم، ليدعوهما إلى الإسلام، قيل له إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة نُقش عليه "محمد رسول الله".
ويُروى أن هذا الخاتم انتقل إلى الخلفاء الراشدين، وأولهم أبو بكر الصديق ثم إلى عمر بن الخطاب، ثم إلى عثمان بن عفان، ووقع من يد الأخير في بئر إريس قرب قباء جنوب المدينة المنورة، سنة 30هـ، ولم يُعثر عليه بعد ذلك، فاصطنع عثمان خاتماً مثله، حسب ما يذكر الدكتور حسين الحاج حسن في كتابه "النظم الإسلامية".
ولم يحُل انتقال الخاتم النبوي إلى الخلفاء الثلاثة دون اتخاذهم خواتم خاصةً بهم نقشوا عليها المعاني الموجزة العامرة بالإيمان والثقة والحكمة بما يتواءم مع ظروف عصرهم.
يذكر الدكتور علي حسني الخربوطلي، في كتابه "الإسلام والخلافة"، أن نقش خاتم أبي بكر كان "نعم القادر الله"، وخاتم عمر "كفى بالموت واعظاً يا عمر"، وخاتم عثمان بن عفان "لتصبرن أو لتندمن"، وخاتم علي بن أبي طالب من بعدهم "الملك لله".
وعلى مدار فترات التاريخ الإسلامي المتعاقبة، واقتداءً بالرسول محمد، اتخذ الخلفاء والسلاطين خواتم لأغراض رسمية وغير رسمية، ونقشوا عليها عبارات تعكس أفكارهم ورؤاهم وفلسفاتهم في الحياة.
الأمويون... معانٍ دينية
على منوال خاتم النبي، وخواتم خلفائه الراشدين، نُسجت كتابات خواتم خلفاء بني أمية، فكانت لكل واحد منهم عبارة معيّنة اختص بنقشها على خاتمه، لأن لها في حياته أو في فكره معنى دينياً يريد إعلامه للملأ من أمته.
يذكر عاصم محمد رزق، في كتابه "رايات الإسلام من اللواء النبوي الأبيض إلى العَلَم العثماني الأحمر"، أن الخليفة الأموي كان يحضر إلى المسجد مرتدياً عمامةً بيضاء مرصعةً بالجواهر، ثم يرتقي المنبر لإلقاء خطبة الجمعة وبيده الخاتم والعصا وهما شارتا المُلك.
وينقل رزق عن كتاب "التنبيه والإشراف"، لأبي الحسن علي المسعودي، أن نقش خاتم معاوية بن أبي سفيان كان "لا قوة إلا بالله"، ونقش خاتم مروان بن الحكم كان "العزة لله"، وخاتم الوليد بن عبد الملك نُقش بـ"يا وليد إنك ميت"، وخاتم عمر بن عبد العزيز كُتب عليه "لكل عمل ثواب"، أما نقش خاتم هشام بن عبد الملك فحمل كلمتي "الحكم للحكيم".
والمعروف أن معاوية بن أبي سفيان كان أول من جعل للخاتم ديواناً مهماً في دواوين خلافته، وهو ديوان أنشئ لمنع الغش والتزوير والتلاعب بمضمون مراسلات الخليفة، وبهدف خروج مراسلات من دون أن يعلم أحد بما تحتويه من أسرار إلا الخليفة، وظل معمولاً به حتى أواسط عهد الدولة العباسية.
وحسب رزق، كان الخاتم من أهم رموز الخلافة الأموية في الأندلس، وكان يحمل في نقشه اسم العاهل أو الأمير مصحوباً بعبارة يختارها من اثنتين، هما: "بقضاء الله راضٍ"، و"بالله يثق وبه يعتصم"، وكانت العبارة المختارة منهما تُنقش بعد ذلك على رايات الجيش.
وقيل إن خاتم كل من أمراء الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الأوسط، والمنذر بن محمد، وعبد الرحمن الناصر، والحكم المستنصر، كان يحمل عبارة "بقضاء الله راضٍ"، أما خواتم هشام الرضا ومحمد بن عبد الرحمن فكانت تحمل عبارة "بالله يثق وبه يعتصم"، كما يذكر رزق.
العباسيون... الثقة والإيمان
في العصر العباسي، دارت نقوش الخلفاء العباسيين حول أكثر من معنى، منها حسن الثقة بالله. يذكر محمد محمود أحمد الدروبي في كتابه "نقوش خواتم الخلفاء العباسيين"، أنه غالباً ما اجتمع معنيا الثقة والإيمان في نقوش الخلفاء العباسيين الأوائل، اقتداءً بنقش الخليفة العباسي الأول أبي العباس السفاح (104-136هـ)، الذي نقش على خاتمه "الله ثقة عبد الله، وبه يؤمن"، مؤسساً بذلك نمطاً احتذاه عدد من الخلفاء في ما نقشوه على خواتمهم، مع إجراء التغيير المناسب المتعلق باستبدال اسم الخليفة صاحب النقش.
تجلى ذلك بوضوح في نقش الخليفة العباسي الثاني عبد الله الثاني بن محمد المنصور، وصورته "الله ثقة عبد الله وبه يؤمن"، ونقش محمد بن عبد الله المهدي وصورته "الله ثقة محمد، وبه يؤمن"، ونقش أبي محمد موسى الهادي وصورته "الله ثقة موسى، وبه يؤمن"، ونقش عبد الله المأمون وصورته "الله ثقة عبد الله، وبه يؤمن".
على أن بعض النقوش التي تجري هذا المجرى قد تختلف صورتها، كإيراد كنية صاحب النقش عوضاً عن اسمه، مثلما هو الحال في نقش الخليفة أبي إسحاق محمد المعتصم بالله (179-227هـ)، الذي حمل عبارة "الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن".
وظل تأكيد حسن الثقة بالله والإيمان به، أهم المعاني التي دارت حولها نقوش خواتم خلفاء بني العباس طوال العصر العباسي الأول وحتى انصرام خلافة المتوكل، بيد أن هذا المعنى الأثير بدأ يتضاءل تضاؤلاً بيّناً في نقوشهم بين منتصف القرن الثالث ومنتصف القرن الرابع للهجرة، إذ حملت معاني جديدة.
لكن ذلك لم يَحُلْ دون ظهور بعض النقوش المعبرة عن الثقة بالله بين الفينة والأخرى، كما في نقش أبي إسحاق محمد المهتدي بالله (219-256هـ)، وكان "المهتدي بالله يثق"، وخاتم أبي محمد علي المكتفي بالله (264 – 295هـ)، الذي نُقش عليه "بالله علي بن محمد يثق"، وخاتم جعفر المقتدر بالله (282-320هـ)، وكُتب عليه "جعفر بالله يثق"، ونقش أبي إبراهيم إسحاق المتقي لله (295-357هـ)، وكان "إبراهيم بن المقتدر بالله يثق".
معنى الثقة بالله كاد يختفي تماماً من نقوش خواتم الخلفاء منذ منتصف القرن الرابع إلى سقوط الخلافة، باستثناء نقش أحمد المستظهر بالله (470-512هـ)، والذي حمل "ثقتي بالله وحده".
واستعمل الخلفاء العباسيون في التعبير عن هذا المعنى قوالب لفظيةً أخرى تؤكد حسن ثقتهم بالله من غير إجراء لفظ الثقة، ودار هذا المنحى أكثر ما يكون حول تأكيد فضل الله على عبده واستجابته لسائله، ويُلمَح هذا في نقشَي الأمين "قاصده لا يخيب" و"سائل الله لا يخيب"، ونقشَي المأمون والمعتصم وصورتهما "سَلْ الله يعطيك".
حمد الله بعد تولي السلطنة
فضلاً عن معنى الثقة بالله، قامت العديد من نقوش الخلفاء العباسيين على معنى حمد الله، بعد أن منّ عليهم فجعلهم ولاة أمر الرعية، ومن هذا القبيل نقش المنصور "الحمد لله كله"، ونقش المعتصم "الحمد لله الذي ليس كمثله شيء"، واتخذ المكتفي والمقتدر من بعده النقش نفسه تقليداً ومحاكاةً.
واشتملت طائفة من النقوش على معنى التوكل على الله والاعتماد عليه، ولعل لا خليفة عباسياً تمسّك بهذا المعنى وأشاعه في نقوش خواتمه كما صنع الخليفة المتوكل الذي اتخذ لقباً يشير إلى هذا المعنى تحديداً، وظهر ذلك في خمسة من نقوشه، ما يدل على أن هذا المعنى كان يمثّل خلاصة فلسفته في الحياة، فقد ظهرت على نقوشه عبارات: "على إلهي اتكالي"، و"على الله توكلت"، و"المتوكل على الله"، و"جعفر على الله يتوكل"، و"لا إله إلا الله، المتوكل على الله".
ويُلمَح هذا المعنى جليّاً في بعض نقوش الخليفة أيي العباس أحمد المعتمد على الله (292-279هـ)، الذي تقترب دلالة لقبه من دلالة لقب المتوكل على الله، فنقش على أحد اثنين من خواتمه "المعتمد على الله يعتمد"، وعلى الآخر "اعتمادي على الله وهو حسبي". ووُجد نقش شبيه للمكتفي "اعتمادي على من خلقني".
ألقاب ودلالات سياسية
الملاحظ أن نقوش الخلفاء العباسيين ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بألقابهم التي حملت في طياتها دلالاتٍ دينيةً وسياسيةً عميقةً، وكان هارون الواثق بالله (200-232هـ)، أول الخلفاء الذين اتخذوا نقوشاً مطابقةً لألقابه، فحملت نقوشه لقبه "الواثق بالله"، وجرى الخلفاء من بعده على هذه السنّة، فكان نقش المتوكل "المتوكل على الله"، ونقش المنتصر "المنتصر بالله"، ونقش المعتز "المعتز بالله".
وحسب الدروبي، التزم هذا النمط من تطابق النقش واللقب سائر الخلفاء العباسيين منذ مطلع القرن الرابع حتى انتهاء الخلافة العباسية في منتصف القرن السابع، على أيدي الغزاة المغول.
وإلى جانب هذا الملمح، ظهرت في نقوش الخلفاء أحياناً بعض الألقاب الدينية التي تشير إلى صفة الخليفة بوصفه ولي الأمر، وأهمها لقب "أمير المؤمنين" الذي ظهر في بعض نقوشهم، بين منتصف القرن الرابع ومنتصف القرن الخامس، كما في نقش المهتدي "محمد أمير المؤمنين"، ونقش المستكفي "المستكفي بالله أمير المؤمنين".
ومن هذه الألقاب لقب "الإمام" الذي ظهر مقروناً بلقب أمير المؤمنين في نقشٍ واحد من نقوشهم، هو نقش محمد القاهر بالله (286- 339هـ): "بالله محمد الإمام القاهر بالله أمير المؤمنين يثق". ولعل هذا النقش يكون أكثر النقوش العباسية احتفالاً بالألقاب، إذ اشتمل في آن معاً على ثلاثة ألقاب، فضلاً عن اقتران ذلك بذكر الاسم، كما يذكر الدروبي.
فكرة الولاية
منذ منتصف القرن الثالث، ظهر في نقوش الخلفاء معنى جديد تردد في عدد من نقوشهم، وهو فكرة الولاية، ويستوي هذا المعنى على إقرار صاحب النقش بولايته لله، كما في نقشَي الخليفتين محمد المعتز بالله (232-255هـ)، والمعتمد على الله وصورتهما "الله وليي".
وقد تتعدى حدود الولاية في بعض النقوش إلى النبي، كما هو الحال في نقش محمد المنتصر بالله (222-248هـ)، "أنا من آل محمد، الله وليي ومحمد". وقد تتسع دوائر الولاية في بعض النقوش إلى المؤمنين الذين هم أولياء الرحمن، فقد جاء أحد نقوش المقتدر على هذه الصورة: "الله ولي المؤمنين".
حماة الدين
ويلاحَظ أن نحو نصف الخلفاء العباسيين نقشوا على خواتمهم عبارة "الشهادة"، كونها أحد مبادئ الإسلام وشعاراته الشهيرة، ويبدو أن الخلفاء كانوا يتوارثون أو يتناقلون نقش هذا الشعار بوصفهم خلفاء الإسلام وحماة الدين المدافعين عن المسلمين، فهم يمثلون السلطة الدينية التي يجب أن تتحلى نقوشها وشاراتها بسمة الإسلام.
وعظ النفس
وجرت نقوش كثيرة للخلفاء العباسيين مجرىً يقوم على وعظ النفس وتخويفها بالله، ودعوتها إلى تقواه، وتحذيرها من سوء العاقبة، ويقوم هذا المنحى على مخاطبة الذات، فنرى المنصور يخاطب في نقش أحد خواتمه نفسه، قائلاً: "اتّقِ الله، فإنك تُردُ فتعلم".
ونرى هارون الرشيد (149-193هـ)، يقارب هذا المعنى داعياً نفسه إلى الحذر من الله وعدم التراخي، كما في نقشه "كن مع الله على حذر"، ونظيره نقش الخليفة محمد المقتفي لأمر الله (489-555هـ)، وجاء عليه: "كن مع الله على حذر تسلم". والمهتدي يخوّف نفسه ويرهبها بـ"يا محمد، خف الله".
وفي بعض الأحيان، كان قِوام الوعظ بذكر حقيقة الموت، كما على نقش الخليفة المأمون: "الموت حق".
عمق التجربة
نقوش كثيرة للخلفاء العباسيين تلبّست جانباً من الحكمة، على أن هذا المنحى لم يظهر في نقوشهم إلا بعد القرن الثالث، أي في العصر العباسي الثاني، كما في نقش المنتصر بالله "يؤتى الحذر من مأمنه"، وهو مثل عربي يدعو المرء إلى وجوب الحذر وإعمال اليقظة، لا سيما في المَواطن التي يعدّها المرء آمنةً، فيظهر التهاون بشأنها، فيؤخذ على حين غرّة.
ومن النقوش العباسية التي تحمل حكمةً، نقش الخليفة أحمد المستعين بالله (220-252هـ): "في الاعتبار غنى عن الاختبار"، ومعناه أن يعتبر المرء من تجربة غيره أفضل له من أن يخوض غمار تلك التجربة بنفسه، أي أن يستفيد من أخطاء الآخرين ويتجنبها، وهذا المعنى يلتئم مع معنى نقش المعتمد: "السعيد من وُعظ بغيره"، وهي حكمة عربية.
وهناك نقش بارز آخر ظهر على خاتم محمد الظاهر بأمر الله (571-623هـ): "راقب العواقب"، ومعناه أن المرء العاقل يستشعر عواقب الأشياء قبل أن يتلبس بها، أي أنه يعرف ما سيؤول إليه كل أمر يقدِم عليه، فيعدّ عدّته الممكنة.
ويدنو من هذا المعنى نقش الخليفة حسن المستضيء بأمر الله (536-575هـ)، الذي جاء فيه: "من فكر في المآل عمل للانتقال"، ومؤداه وجوب الاستعداد والعمل للمنقلب الذي سيصير إليه المرء بعد حياته الدنيا.
https://raseef22.net/article/1086590?fbclid=IwAR0Q-1XxJPlP0kdLll5JuMWNuNCIFQJfuVL6TItzn8ANyKmW5TmF6tLCEMM