مهزلة فرضية الهجرات السامية من شبه الجزيرة العربية


مهزلة فرضية الهجرات السامية من شبه الجزيرة العربية 849


لا بد و أنكم مررتم على مقال أو بحث يتناول موضوع أصول الساميين و أنهم قد قدموا من شبه الجزيرة العربية و انتشروا منها إلى بلاد الرافين و بلاد الشام , و غالباً ترتبط هذه الفكرة ببروباغاندا تعريبية
فبالنسبة لهم كون شعب ما أتى من شبه الجزيرة العربية فهو حتماً عربي و بالتالي فإن كلّاً من الأكاديين و البابليين و الآشوريين و الأموريين و الكنعانيين و الآراميين و غيرهم عرب لا محالة. و في هذا المقال سنبحث أمرين : هل حقاً بدأت الهجرات السامية من شبه الجزيرة ؟ و هل إذا قدم شعب من شبه الجزيرة فهو حتماً عربي ؟
أولاً : هجرات الساميين
إن مصطلح "ساميين" هو مصطلح حديث , ظهر بين سنتي 1770 و 1787 على يد Johann Gottfried كمحاولة لتعريف بعض الشعوب التي ذكرت في التوراة و قد اشتقت كلمة ساميين من الكلمة العبرية שֵׁם "شم" و هو أحد أبناء نوح في التوراة [1] [2] و لكن هذا المصطلح , و نظراً لأنه لا يمكن أن يعني عرقية أو قومية فإن المصطلح أصبح يشير فقط إلى اللغات السامية و ليس لأقوام سامية [3] , فمثلاً يتكلم الأثيوبيون لغة سامية هي الأمهرية و لكنهم بلا شك من عرق مختلف عن بقية من دُعوا بالساميين كالسريان و العرب
و لذا فإن أي محاول لجعل الشعوب القديمة كشعب سامي واحد قدم من أي مكان سواء شبه الجزيرة العربية أو العراق هو مجرد فرضية واهية , فالشعوب القديمة حتماً لم تعرف عن نفسها كشعب واحد و لم تتكلم لغة واحدة و حتماً لم تقل عن نفسها أنها عربية بل ذكرت العرب كقبائل مختلفة تماماً
و لكن المشكلة أن العديد من الموسوعات اليوم تتبنى هذه الفرضية الخاطئة و التي انتشرت في فترة معينة لمحاولة تفسير الطبيعة البدوية للشعوب السامية الأولى , فكونهم بدؤوا كبدوا -حسب منطق الفرضية- فلا بد من أنهم أتوا من صحراء هي العربية فمثلاً نجد موسوعة بريتانيكا تتبناها عندما تقول أن الأموريين رغم كونهم شعوباً سورية فقد قدموا ليس من سوريا بل من شبه الجزيرة العربية , في حين تخالفها الموسوعة التاريخية الشهيرة المختصية في التاريخ Ancient.eu و حتى ويكيبيديا اللتان تصران أن أصل الأموريين من سوريا و العراق
و لكن , بدأ العديد من الباحثين و المختصين بالبحث في هذه الفرضية بتكذيبها , في كتاب "On the Original Home of the Semites" يقول الكاتب Jehoshua M. Grintz أن هناك فرضية شهيرة حول موطن الساميين و هي أنها شبه الجزيرة العربية لأن التاريخ لم يسجل أي هجرة نحوها بينما سجل هجرات منها (تعليق : و هذا طبعاً ما أثبتت الدراسات الجينية عكسه) , و أن هذه الفرضية تقول أن الآراميين و الكنعانيين و الآشوريين و العبرانيين قدموا من شبه الجزيرة العربية و كانوا عرباً لكن لغاتهم تغيرت و اختلفت عبر الوقت , ثم يقول لا بد من أن هذه الفرضية خاطئة فلا دلائل تدعمها أبداً , و يقول صحيح أن التاريخ سجل هجرات بعض القبائل من شبه الجزيرة في زمن النبي محمد لكن هذه القبائل كانت حصراً عربية و بقيت تعرف عن نفسها كعربية و لم يسجل التاريخ هجرة الآراميين (مثلاً) منها أو هجرة قبائل عربية أصبحت تعرف بالآراميين , و أن الآراميين و البابليين و الآشوريين و الكنعانيين و العبرانيين لم يروا أنفسهم كعرب أبداً و لم يظهروا أي ميول لأصول عربية قديمة , و يقول أنه -و كون مصطلح الساميين هو مصطلح يهودومسيحي- فإن الكتاب المقدس يقول أن أولاد نوح الثلاثة و من بينهم سام الذي يُعزى إليه نسب الساميين قد أتوا من الشرق و من جبل آرارات و أن "يوكتان" أو "قحطان" الذي يُعزى إليه نسب عرب الجنوب هو ابن إيبير أما اسماعيل و مديان هم من نسب شمالي أي من نفس المنطقة التي تكلم عنها الكتاب المقدس , و هذا ما تشير إليه النقوش و التي تؤكد المنشأ الرافديني للساميين و أنّ الساميين انطلقوا من هناك و قسم منهم استوطن شبه الجزيرة العربية و أصبحوا يعرفون بالعرب , ليس هذا فقط بل يناقش الكتاب الدلائل اللغوية و الحضارات القديمة مثل "ماري" و غيرها و أسلوب الحياة و مصطلحات الحياة اليومية ليثبت في الناهية أن الساميين ليسوا عرباً و لم يأتوا من شبه الجزيرة العربية , الصفحات و الأدلة كثيرة يمكنكم قراءة الكتاب مجاناً عبر تسجيل الدخول بحساب جوجل من هنا
إذاً نجد هنا بحثاً يعود بالساميين إلى بالمنطقة الواقعة بين القوقاز و العراق و المنطقة الرافدينية-السورية و ليس إلى شبه الجزيرة , و بالطبع برأينا لا يمكن أن يكون هذا دقيقاً بنفس عدم دقة أن تكون الهجرات السامية قد قدمت من شبه الجزيرة أو من شمال أفريقيا أو من القوقاز أو من بلاد الشام , إن الدراسات الجينية على الشعوب التي تعرف بالسامية تؤكد تنوعها , و على عكس مهزلة الفرضية العربية فإن دراسة جينية على السعوديين تؤكد أن 69% من جيناتهم تأتي من بلاد الشام و ليس من شبه الجزيرة العربية أو اليمن و 17% من إيران و 14% من أفريقيا! [4] , ما يدل أن الهجرات كان قد بدأت من بلاد الشام باتجاه الحجاز , و مع ذلك فإننا أيضاً لا ندعي أن بلاد الشام هي منشأ هجرات الساميين لأنه لا يوجد شيء أساساً اسمه هجرات ساميين , متحدثوا اللغات السامية ليسوا بالضرورة أقارب جينياً , يعتبر سكان بلاد الشام أقرب لليونانيين من العرب مثلاً و أن السعوديين و الكويتيين و اليمنيين أقرب لبعضهم و مختلفين عن الإماراتيين و البحرينيين و العمانيين [5]
و هذه أدلة كبيرة على أن انشتار اللغات السامية لم يرافقه بالضرورة صلة عرقية بين الشعوب التي تتكلمها
في الواقع من المهزلة التفكير بأن منطقة بالكاد كانت مأهولة كشبه الجزيرة العربية أخرجت من عمقها كل الشعوب المتكلمة بالساميات قبل آلاف السنين من ترويض الجمال الذي لم يحدث في شبه الجزيرة إلا من الألف الأول قبل الميلاد و التي كانت الوسيلة الوحيدة لقطع مسافات شاسعة في تلك الصحراء , و أنهم هاجروا بأعداد هائلة جداً في حين كانت حضارات بلاد الرافدين و الشام قائمة منذ ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد , و أن شعباً واحداً نسي أصوله في فترة قصيرة و أنشأ إمبراطوريات و ممالك و مدن متنوعة و مختلفة و متحاربة بثقافات فارقة جداً و مختلفة و لغات متعددة و أننا بنفس الوقت لم نعثر على أدلة و نقوش في شبه الجزيرة تثبت أن هذه اللغات تطورت أو خرجت منها
 
ثانياً : هل كون أصل شعب من شبه الجزيرة يعني بالضرورة أنه عربي ؟
من الحجج السخيفة جداً لتعريب أي شعب هي أن تأخذ كتاباً قديماً يأخذ بفرضية الهجرات من شبه الجزيرة و يقول مثلاً أن الفينيقيين هاجروا من شبه الجزيرة (و هو ما دحضدته العديد من الدراسات الجينية) و تستخدم هذا كحجة أن الفينيقيين عرب متجاهلاً أن :
1- كلاً من الفينيقيين و العرب ذكروا في المصادر اليونانية و الرومانية كشعبين منفصلين تماماً , و أبسط مثال على ذلك كتاب سترابو Geography
2- أن الفينيقيين و الأموريين و الآراميين و الكلدان و الأكاديين و البابليين و الآشوريين لم يعرفوا عن أنفسهم كعرب و تكلموا لغات مختلفة عن العربية و لم يعبدوا آلهة عربية , بل على العكس ذكر الآشوريون و البابليون حروبهم ضد العرب , كما ذكر الآراميون القبائل العربية بوصفها قبائل غريبة عن المنطقة , و بالتالي لا يمكن أن تكون هذه الشعوب واحدة
3- أن المهزلة تكمن في أن تسمية شبه الجزيرة بـ Arabia هو تسمية غريكو-رومانية , يؤكد الدكتور و عالم اللسانيات و الباحث في النقوش النبطية و الصفوية "أحمد الجلاد" أن تسمية "عرابيا" أتت بعد حملات الإسكندر البحرية [6] إذ أطلقوا تلك التسمية على كل قطعة اليابسة بدءاً من خليج العقبة و حتى الخليج الفارسي و يؤكد أن هذه التسمية لا تحمل معنى قومي أو إثني بل و يقول أنه من خلال دراسة نقوش شبه الجزيرة و لغاتها فإنه من الواضح أن تلك الشعوب لم تتكلم لغة واحدة و لم تصف نفسها بالعرب أبداً و لم تكن شعباً واحداً , بمعنى أنه ليس كل من سكن شبه الجزيرة العربية هو "عربي" لأن تسمية شبه الجزيرة بـ "عرابيا" هي حديثة نسبياً , و لنفترض أن اليونايين بدلاً من أن يسموها "عرابيا" أسموها "آراميا" و أصبحت تعرف باسم شبه الجزيرة الآرامية , و أن الفرضيات التي تقول بانطلاق الساميين منها صحيحة , فهل حينها نقول أن الشعوب السامية كلها آرامية ؟ إن هذه العقلية البسيطة لا شك و أنها بعيدة كل البعد عن المنطق العلمي , عندما يقول باحث ما أو موسوعة ما أن شعباً كالأموريين مثلاً أتى من شبه الجزيرة فهو لا تعني أنهم عرب , و هم بالغالب يعيدون العديد من الشعوب التي بدأت بدوية كالأموريين إلى مناطق صحراوية بسبب اعتقادهم أن الحياة البدوية انطلقت من هناك , و لكنهم لا يقصدون أبداً أن هذا الشعب "عربي" , بل نجد النصوص الأكادية تصف بوضوح أن أصل الأموريين هي الأراضي الغربية , و تحديداً سوريا التي أسموها "أرض أمورو". و الأدلة كثيرة , فقد ذكر اليمنيون العرب دائماً أنهم بدو يسكنون الصحراء أو أطراف المدن و قد ذكرهم ملوك سبأ بأنهم أعداء لهم , و يصرحون بوضوح أن شعوب اليمن مختلفون عن العرب فهل يصح أن نخالف هذا التصريح الواضح و نقول أن اليمنيين عرب فقط لأنهم يسكنون شبه الجزيرة التي أسماها اليونانيون "عرابيا" ؟
إذاً نلاحظ بوضوح أن تسمية "عرابيا" لا تمت بقومية و لا بعرقية و كان من الممكن أن تكون أي اسم آخر , و حتى لو كانت الهجرات منها (و هذا ما وضحنا أنه غير صحيح) فهذا لا يعني أن تلك الشعوب هي شعب واحد و عربي
علينا أن نتذكر أن أي من تلك الشعوب لم تصف بأنها شعب واحد مع الآخرين أو أنهم من سلالة واحدة أو عرق واحد أو قومية واحدة , و حتماً لا يوجد ما يشير إلى انتماء أي منها إلى العروبة أو إلى شبه الجزيرة العربية حتى , العديد من الدراسات الجينية تثبت الفوارق الهائلة بين هذه الشعوب , بل حتى عن هجرات جينية من العراق و بلاد الشام نحو شبه الجزيرة العربية و ليس العكس , و أننا عندما ننظر إلى شعب فإننا ننظر إلى انتمائه , لقد بنى الأموريون و الكنعانيون و الآراميون حضاراتهم في سوريا و لبنان و فلسطين و الأردن بشكل أساسي و انتموا لها و دافعوا عنها و لم يظهروا أي ميل لانتمائهم لشبه الجزيرة , و بالتالي أياً كانت أصولهم الأقدم فهم حضارات منطقتنا , كما الأكاديون و السومريون حضارات عراقية حتى لو كانت أصول هجراتهم قوقازية أو مصرية أو من أي مكان آخر...
و إلا فإننا كلنا من قومية أفريقية لأن كل الهجرات البشرية بدأت من أفريقيا و اتجهت نحو العالم , و باستخدام منطق العروبيين فإن العرب هم من أصول أفريقيا و عليهم أن يتحدوا تحت شعارها
 
المصادر :
 [1] https://www.biblegateway.com/resources/encyclopedia-of-the-bible/Semites
[2] Baasten, Martin (2003). "A Note on the History of 'Semitic'"
[3] Anidjar 2008, p. 6
[4] https://www.biorxiv.org/content/10.1101/760819v3.full
[5] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5844529/
[6] https://syrianethnicity.blogspot.com/2020/12/blog-post_10.html











https://syrianethnicity.blogspot.com/2021/03/blog-post_17.html