مصطفى بوهندي لـ “مرايانا”: حديثي عن أبي هريرة لم يأت من إكثاره للرواية، وإنما من تناقض رواياته ومخالفاتها للقرآن 2/2
على هامش الجدل الأخير الذي أثاره الدكتور مصطفى بوهندي بعد حديثه عن جواز إمامة المرأة، مستشهدا بقصة مريم بنت عمران، ومنتقدا الفقه التقليدي الذي يمنعها هذا الحق.
حاورت “مرايانا” أستاذ تاريخ الأديان المقارن حول هذه القضية، وحول موقفه من السنة ورأيه في الاتهامات الكثيرة الموجهة له بهذا الخصوص.
بعدما تابعنا في الجزء الأول من هذا الحوار، وجهة نظر الدكتور مصطفى بوهندي في قضايا إمامة المرأة واعتلائها المنبر وقيادة الدرس الديني.
نتابع في هذا الجزء الثاني من الاستجواب الذي أجراه معه الزميل يوسف المساتي، موقف بوهندي من سؤال السنة، ووجهة نظره في كيفية التعامل معها.
عكس ماتذهب إليه، وما تطرقنا له في الجزء الأول من هذا الحوار بخصوص إمامة المرأة، الثابت تاريخيا أنه لم تسجل على مدار التاريخ حالة امراة أمت الناس وخطبت الجمعة فيهم؟
إذا لم يسجل التاريخ الإسلامي أن قاضية ولا محامية ولا رئيسة دولة كانت موجودة، فهل محرم عليها ذلك؟
الدكتور مصطفى بوهندي
وهل المرأة تختلف عن الرجل في الأمور الدينية؟
هذا ما جاءت قصة مريم لبيانه لمجتمع كان بسلوكه يقول “وليس الذكر كالأنثى”؛ في أمور الدين، وكان الجواب القرآني صارما “فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا” رغم كل غضب المجتمع ورجال الدين اليهودي، ورغم أنف كل الذين قالوا إن قول الله في هذا الأمر مهجور ولن يعمل به أحد. وإني أرى في هذا الباب مدخلا أساسيا لاستعادة كثير من حقوق المرأة الدينية والدنيوية، وإن كانت هي نفسها لا زالت غافلة عنه، وتنتظر قراره عند الرجال.
لكن السنة النبوية بدورها تنفي جواز إمامة المرأة
السنة هي الطريقة المتبعة في العمل وحسب السقف المعرفي والثقافي الذي وصل إليه الإنسان في عصر من العصور.
فالمرأة لم تكن قاضية أبدا على العهد النبوي، فهل نمنعها من القضاء لأنها لم تكن قاضية آنذاك؟ وكذلك المرشدة الدينية لم تكن، والأستاذة الجامعية، والوزيرة والرئيسة…؟
يقودنا هذا للحديث عن السنة… إذ يتهمك منتقدوك بإنكار السنة النبوية جملة وتفصيلا، ما قولك في هذا الشأن؟
لمن يروجون هذا الاتهام أقول بأن مفهوم السنة عندي يختلف عما درج عليه العموم. فهناك فرق بين حديث وسنة.
فأما الحديث، فهو خبر لابد من النظر فيه قبل تداوله ونشره، إذ هو خبر قابل للصدق والكذب والتغيير والتبديل والزيادة والنقصان والتذكر والنسيان والأمانة والوضع؛ ولا يجوز جعله بين يدي عموم الناس غير المتخصصين، باعتباره مصدرا للشريعة والدين؛ إذ سيأخذه كل واحد ويفهم منه فهمه، ويبني عليه مواقفه وسلوكه، ويظن في نفسه أنه يوّقع عن رب العالمين. وهو الذي نراه ونسمعه في كل الفتن والمشاكل التي تحدث باسم الدين، وهو منها براء.
والسنة عندي، هي ما اتبع فيه محمد القرآن الكريم، وصار طريقة متبعة، ونهجا سالكا للناس من بعده، طاعة لله ورسوله، واقتداء بسلوكه عليه السلام. أما ما خالفه فليس عندي بسنة، ولو ورد به الحديث والرواية، لأنني أعلم أنه عليه السلام لا يخالف القرآن أبدا إلا ما أخطأ فيه فينزل القرآن لتصحيحه.
ولست أفعل كما يفعل الذين يدّعون أنهم يُعملون نصوص القرآن والحديث جميعا، ولا يهملونها أو يرجحون بينها؛ والواقع أنهم عندما يأتون بقواعدهم للجمع بين النصوص ودرء تعارضها، فإنهم في واقع الحال يرجحون رواياتهم وأخبارهم ومذاهبهم وأفكارهم على القرآن ونصوصه، سواء بنسخها أو تخصيصها وتقييدها أو ادعاء تشابهها وتأويلها لتناسب ما عندهم مما كتبوه بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله وقد نُقل عن رسوله.
إن التفريق بين السنة والحديث ضروري، لأن أكثر السنن المتبعة في العبادات والمعاملات وغيرها، له مستندها من النص القرآني، وأساسها في تاريخ نزوله، وهي مظهر من مظاهر البيان النبوي لها على عهده عليه السلام وبعده، سواء جاءتنا في خبر أم لم ترد.
فالعبادات التي ذكّر بها النبي الكريم لم تكن شرعا مبتدعا، ولا أمرا لم يرد في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى؛ وإنما كانت تجديدا للدين الإلهي الذي أسسه إبراهيم وسار عليه باقي الأنبياء والمرسلين بما في ذلك خاتمهم الأمين.
ولنأخذ مثالا للصلاة التي أخبرتنا بعض الروايات أنها صلاة محمدية أنشأها هذا النبي، وأنزلها من السماء في مفاوضات عسيرة حوّلتها من خمسين صلاة إلى خمس صلوات، وفصّلها عليه السلام، وفسّرها، وجعلها على المسلمين فريضة متبعة بتفاصيلها المعروفة المسجلة في كتب الفقه والعلوم، وكان مصدرها هو الأحاديث والأخبار، التي لولاها لما صلينا ولا صمنا ولا زكينا ولا عبدنا الله رب العالمين.
إن السنة كما أراها هي ما شرعه الله في كتابه، وثبته الرسول في أتباعه والذين لحقوا بهم، حتى صار دينا متبعا وسنة قائمة يسير عليها الناس كابرا عن كابر، وإذا أمروا بأمر من الشريعة كان نموذجهم هذه السنة العملية الثابتة والطريقة المتبعة الخالدة، فيكفي أن تقول أقيموا الصلاة فيفهم الناس معناها ويقيمونها من غير حاجة إلى خبر ولا تفسير. بل إن ما خالفها من الأخبار لا يعتد به، ومثال ذلك عمل أهل المدينة عند الإمام مالك إذا خالفه الحديث.
وعليه، فلا أتفق مع من يقولون بأني “أنكر السنة النبوية جملة وتفصيلا وأنها ليست بحجة”؛ وإنما “لا أقدم الأخبار على القرآن إذا وجد في نصوص القرآن أو مبادئ العقل والمنطق أو سنن الكون والتاريخ والمجتمع ما يخالفها”. ونصوص القرآن عندي حافلة بأخبار سنة نبوية أخرى، يجب استخراجها وتقديمها للناس على اعتبار أنها من تلاوة الله علينا، تكشف أسرار النفس ومجاهيل الغيب وسنن الكون وقوانين التاريخ والمجتمع ومبادئ الفطرة والحياة؛ من خلال وقائع وأحداث تاريخية جعل الله منها آيات مبينات إلى يوم القيامة. وقد ألهى الناس عنها ما جاء في كتب الحديث والمغازي والسير.
هل نفهم أن لديك مشكلة مع السنة النبوية؟
ليست مشكلتي مع السنة النبوية ورسولها الكريم؛ وإنما مع الأخبار والروايات، التي يشهد أصحابها أنها نقلت في أزمنة مختلفة وفي ظروف متعددة، وأنهم لم يأمرهم أحد لا بنقلها ولا تبليغها ولا فرضها على العالمين. وأنهم يختلفون اختلافا شديدا في تصحيحها وتضعيفها؛ تتداخل فيه عوامل شتى.
إنما مشكلتي مع الذين جعلوا للقرآن مثناة كمثناة اليهود، تركوا بها كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما وجدوا عليه أحبارهم ورهبانهم ومذاهبهم، وأدرجوا في كتاب الله ما ليس منه، باعتباره وحيا ثانيا، يؤطر كتاب الله ويفصله ويوجه معانيه، وكل ذلك وفق الذاتية المتحكمة للشخص والجماعة والمذهب والحاكم؛ وكل ذلك لا أساس له من كتاب الله، ويمنع من الوصول إلى معانيه وفهمها في سياقها القرآني والتاريخي والديني والكوني كما أراده رب العالمين.
كلامك هذا يعيد للأذهان كتابك الصادر سنة 2002 “أكثر أبو هريرة” والذي انتقدت فيه الصحابي أبا هريرة، فهل يندرج هذا الأمر ضمن موقفك من السنة ككل؟
حديثي عن أبي هريرة لم يأت من إكثاره للرواية، وإنما من تناقض رواياته ومخالفاتها للقرآن، وكونها تمثل أصل إشكالات المسلمين ومذاهبهم وخلافاتهم الكلامية والعقائدية في بدايات الإسلام. فالذي عملته هو عرض أقواله التي وجدتها متناقضة، وبدلا من أن تبرئه الأقوال من الإكثار من الرواية ورطته في أمور أكبر، ذكرتها حسب كل مثال أتيت به.
لكن البعض اعتبر أن “طعنكم في أبي هريرة” هو طعن في القرآن أيضا، لوصول إحدى الروايات السبعية من طريقه؟
لا أرى هذا الأمر صحيحا؛ وأجد فيه شيئا من حجة النصارى على عصمة كاتبي الأناجيل وأنهم يوحى إليهم.
فالقرآن وصل إلينا ليس كالرواية، نقلها شخص عن آخر في أزمنة وأمكنة متفرقة؛ وإنما نقل القرآن بالتواتر الجماعي آية بآية ويوما بيوم وشخصا بشخص؛ فمنذ أن نزل به الروح الأمين على قلب الرسول الأمين بلغه فورا للذي يلونه، دون أن ينقص منه شيئا أو يزيد عليه شيئا آخر، وكذلك الذين آمنوا به. حتى المرأة في بيتها كانت تسأل زوجها عما نزل من القرآن؛ بل حتى الكافر والمشرك والكتابي.
كان الكل مهتما بهذا القرآن ويتساءل عن آخر ما نزل. لذلك طار به الناس في الآفاق، ولم يبق لمحمد عليه السلام الحق في التراجع عن شيء منه أو تبديله أو الزيادة فيه أو غير ذلك، لأن النسخة السابقة صارت ملكا جماعيا يملك منه كل أحد، ولا أحد يسمح لمحمد ومن معه أن يتدخلوا فيه بزيادة ولا نقصان. “ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ولقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين”. نعم لو اكتشفوا فيه أي غلط أو زيادة أو نقصان أو شك أو غيره، لتكفل المؤمنون به بقتله وقطع وتينه. لأنهم آمنوا به بصدق، ولن يسمحوا له بخداعهم. ذلك هو القرآن.
أما أبو هريرة، من خلال رواياته، هو راوي الإسرائيليات والمسيحيات في الإسلام، وعندنا في القرآن تلاوته الجديدة بالحق، وهي التلاوة التي اكتشفنا أن أبا هريرة لم يكن يعلم عنها شيئا، وهو ما بينته في كتابي “أكثر أبو هريرة”.
يرى البعض أنكم بارائكم تطلقون العنان للناس للكلام في القرآن دون ضابط ودون الاستعانة بالجهود السابقة للأعلام؟
أنا لم أطلق العنان للناس للتكلم في القرآن من غير ضابط، وألا يستعينوا بجهود السابقين لكوني أراها حجبا تمنعهم من إدراك المعاني؛ وإنما أدعو الناس إلى تقديم كتاب الله عن غيره، والتعامل معه مباشرة دون وسيط، وعدم جعل العلماء حجبا تمنع من حسن تدبره.
وربط الناس بالقرآن والمجاهدة به ومنه وإليه هو الذي أسميه البيان النبوي، وعندما يستأنس الناس بكتاب الله ويتشربوا أسراره، فعندها لا يضرهم أن يرجعوا إلى غيره، لكنهم إن قدموا غيره عليه، فسيكون حجابا إلى الوقت الذي يتحررون منه.
أما قضية السلف في أمر ما ينبغي أن أتخذه، فلا يعني لي شيئا، فلا ينبغي أن يكون لا محفزا ولا مانعا.”
فالله طلب من المسلمين التعامل المباشر مع القران ولم يأمرهم باتخاذ حراس يحمونهم من أنفسهم أثناء قراءته وتدبره: “قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا، ما بصاحبكم من جنة” الآية.
يرد عليكم البعض بأنه اذا كانت التفاسير حجابا عن مقاصد القرآن فإن تفسيرك بدوره حجاب؟
نعم هو حجاب إن لم أكن مستعدا للتخلص منه عندما يظهر لي خطؤه؛ مثلما أنا مستعد للتخلص من كل قول قائل ظهر خطؤه؛ والتشبث به إذا رأيت صوابه. لكنه، مهما كان صوابه بما في ذلك كلامي، فهو نسبي لأنه كلام بشر؛ والفرق بين كلام الله وكلام البشر، كالفرق بين الله وبين البشر.
يتخوف البعض من أن فتح الباب بهذا الشكل قد يقود إلى العبث بالقرآن، ويستشهدون بما ورد في الآية 75 من سورة البقرة: “أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون”، والآية 79 من نفس السورة والتي ورد فيها: ” فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون”. فما رأيك؟
ما ورد في الآيتين ليس خاصا بأصحاب الكتب الأخرى، وإنما هو عام في البشر، بما في ذلك المسلمون مع قرآنهم. وهو الذي أحذر منه.
وهو الذي أجده لدى كثيرين من أحبارنا ورهباننا وشبابنا وشيوخهم، الذين يعبثون بنصوص القرآن زيادة ونقصانا، حسب المذهب والحاجة والوسيلة، فالذين استباحوا قتل الناس ودماءهم بما سموه آية السيف اعتمادا على أحاديث اختلقوها أو تأولوها، زادوا في دين الله وكتابه ما ليس فيه، وعمدوا إلى آيات قرآنية ثابتة المبنى وواضحة المعنى، وقالوا منسوخة بآية السيف؛ بناء على أحاديث اختلقوها أو تأولوها.
ويكفي أن يصل الخلاف بين المثبتين للنسخ إلى أكثر من 300 آية، بعضهم ادعى نسخها جميعها، وخالفهم البعض الآخر خلافات متفاوتة جدا: من 200 إلى 100 إلى عشرات إلى 20 أو 8 أو 4 أو 2. كل ذلك بناء على أحاديث صحت عند البعض ولم تصح عند البعض الآخر. وصدق الله إذ يقول: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
.ألن يؤدي هذا الأمر إلى لي عنق النصوص، ولذلك نحتاج إلى حدود وضوابط؟
هذا الأمر لا تنفع فيه حدود ولا ضوابط؛ وإنما النافع فيه هو تنمية الحس النقدي عند المتلقي، فيسقط هالة التقديس والعصمة عن العلماء والشيوخ والكتب والثقافة عموما، ولا يقبل شيئا إلا بدليله؛ والشيء الذي لا دليل له فلا حجة فيه. وهنا تسقط كل الأقنعة، ويلجم كل الراغبين في التسلط على الناس في الدين والعلم بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين؛ خوفا من فضحهم وإحراجهم من طرف المتلقين؛ أما الحدود والضوابط فلن تمنع إلا المتقين، الذين تمنعهم -عمليا- تقواهم من التقول على الله ورسوله بغير علم، قبل أن يمنعهم وضع لائحة من الضوابط والحدود والكلمات، بينما لن يحفل بذلك غير المتقينhttp://marayana.com/laune/2019/09/16/10401/