من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟
هذا السؤال الأبدي الذي شغل البشرية منذ أن بدأت التفكير في المعاني المجردة. حاول البشر، عبر الفن والدين والفلسفة، الإجابة على سؤال البداية: “من أين جئنا؟”. الفن كان صاحب المغامرة …
هذا السؤال الأبدي الذي شغل البشرية منذ أن بدأت التفكير في المعاني المجردة.
حاول البشر، عبر الفن والدين والفلسفة، الإجابة على سؤال البداية: “من أين جئنا؟”.
الفن كان صاحب المغامرة الأولى عبر الأساطير. كانت الأديان الأولى فنونا… رقصات بدائية وموسيقى ورسوم ومنحوتات.
لاحقا، مع ظهور المعلمين الكبار مثل بوذا وكونفوشيوس، انفصل الفن عن الدين. أديان الشرق الكبرى كالكونفوشيوسية والطاوية والبوذية، كانت فلسفات بشرية مهمومة بالإجابة على سؤال البدايات، لكنها أديان خالية من اللاهوت، فلا آلهة فيها ولا آخرة ولا أنبياء… لم يدع بوذا مثلا أنه نبي أو أنه مرسل من السماء.
جاءت الأديان التوحيدية لتجيب على سؤال “من أين جئنا؟”، بإجابة بسيطة: خلقنا الله وأنزلنا من الجنة إلى الأرض.
هذه الإجابة مريحة روحيا، لكنها لا تريح العقل.
فلماذا خلقنا الله؟ ومتى؟
ولماذا أنزلنا من الجنة إلى الأرض؟
ومن خلق الخالق؟
لم يستطع اللاهوت تقديم إجابات مقنعة على هذه التساؤلات.
وبدأت المغامرة الفلسفية على أرض اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، لتحاول تقديم إجابة عقلية للسؤال، بعيدة عن الوحي والدين.
تنوعت الإجابات بين الألوهيين الذين اتفقوا نسبيا مع الأديان، وردوا ظهورنا إلى “السبب الأول” أو المحرك الأول الذي لا يحتاج وجوده إلى خالق، وبين الماديين الذين يرون أن الكون ظهر ذاتيا دون أي حاجة لقوة خارجية.
طورت الفلسفة اليونانية مبحثا كبيرا للإجابة على تساؤلات الوجود، سموه مبحث “الميتافيزيقيا” أو ما وراء الطبيعية، من خلاله، أرادوا الإجابة على كل التساؤلات المتعلقة بالموت والألوهية والخلق.
والتقط الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمون الخيط من الفلسفة اليونانية.
وكان أحد الأسئلة الساخنة: هل العالم قديم وأزلي أم مخلوق؟
فإذا قلنا إن العالم أزلي (الأزلي هو الذي لا بداية له)، فهذا يعني أنه موجود مع وجود الإله الخالق، وهذا يتعارض مع فكرة الوحدانية.
فكيف يكون العالم أزليا ويكون في نفس الوقت من خلق الله؟
وإذا قلنا إن العالم مخلوق، فمتى خُلق ولماذا؟
وإذا كان مخلوقا، فهل بقاؤه أبدي (الأبدي هو الذي لا نهاية له)، أم أن له نهاية؟
إذا كان يوم القيامة سيتأخر لعشرين مليار عام، فأمامنا مهام كبيرة كبشر لإنجازها حتى ذلك الحين في حياتنا الطويلة المديدة.
لم يصل الفلاسفة والمعلمون إلى إجابات لهذه الأسئلة، حتى ولادة العلم الحديث.
عندما بدأ العلم التطبيقي الحديث على يد ديكارت وبيكون، لم يحاول الإقتراب من أسئلة “ما وراء الطبيعة”. فهدف العلم هو البحث والتجربة في “الطبيعة” فقط.
أما ما لا يمكن فحصه أو تجربته فليس من مجالات العلم.
إذا قلنا إن العالم أزلي، فهذا يعني أنه موجود مع وجود الإله الخالق، وهذا يتعارض مع فكرة الوحدانية. فكيف يكون العالم أزليا ويكون في نفس الوقت من خلق الله؟ وإذا قلنا إن العالم مخلوق، فمتى خُلق ولماذا؟
لكن كشوفات العلم بدأت تؤثر على نظرة الإنسان للميتافيزيقا وتعيد صياغة أفكاره حول السؤال الأبدي: من أين جئنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟
كانت الثورة الأكبر على يد داروين الذي أجاب إجابة علمية دقيقة حول سؤال “أصل الإنسان”.
فنحن البشر لم نخلق هكذا على هذه الصورة منذ الأزل.
إن عمر كوكب الارض الذي نعيش عليه حوالي 4 مليارات سنة. في بداية تكونه، كان صخرة نارية خالية من الحياة، لكن بعد حوالي 400 مليون سنة من “ولادة” الأرض، بدأت تتخلق أول الاشكال البدائية للإنسان في البكتيريا أحادية الخلية. نستطيع القول إن البكتيريا أحادية الخلية هي “آدم” الذي ستخرج منه كل الكائنات الحية الأخرى من حيوانات ونباتات وفطريات وطحالب وجراثيم.
مع مرور ملايين السنين، بدأت أشكال الحياة الأكثر تعقيدا في الظهور (الأسماك والبرمائيات والطيور والزواحف والثدييات). من داخل الثدييات، خرجنا نحن والقردة أبناء عم لنفس الجد. جدنا المشترك لم يكن إلا حيوانا بدائيا يعيش في الغابات لا يزيد طوله عن متر أو يزيد.
ثم ظهرت سلالات مختلفة من “الإنس” انقرضت كلها ما عدا سلالة واحدة هي سلالة “الإنسان العاقل”، التي تكاثرت في إفريقيا قبل 300 ألف سنة. وظل الإنسان العاقل يعيش على الصيد وقطف الثمار، مثله مثل أي قرد في الغابة، حتى ظهرت “ثورة الإنتاج” الأولى في التاريخ البشري باكتشاف (أو اختراع) الزراعة.
التطور لا يتوقف. فكما تطور الإنسان من كائن الغاب البدائي، فإنه سيستمر في التطور ليصل إلى مرحلة السوبرمان أو الإنسان الأعلى بمصطلحات نيتشه.
مع الزراعة، انتقل الإنسان العاقل من حالة الكفاف إلى حالة الوفرة. وبدأ بعض البشر يتمتعون بوقت فراغ يستطيعون من خلاله التفكير والتنظيم، لتظهر التجمعات والقوانين والأديان المعقدة والفلسفة.
كان الإنسان العاقل ضعيفا، ليست له أنياب الأسد ولا قوة القرد ولا ضخامة الفيل، وكان معرضا للانقراض مثل آلاف الكائنات الحية التي انقرضت، لكن قدرته على استخدام الأدوات وزراعة الغذاء أنقذته من انقراض محقق؛ فاستمر في التكاثر من بضعة مئات في الغاب الأفريقي إلى 7 مليارات نسمة، ليصبح أحد أكثر الكائنات الحية عددا على البسيطة، باستثناء منافسة يائسة من بعض الحشرات.
لكن داروين الذين أجاب عن أصل الإنسان لم ينجح في الإجابة عن السؤال الأخطر: “أصل الكون”.
وكان على المسيرة البشرية أن تنتظر إلى العقد الثاني من القرن العشرين لظهور النظرية النسبية على يد إينشتاين، ثم لظهور النظرية الكمومية على يد بوهر، ليصبح العلماء قادرين على تقديم إجابة علمية للسؤال الأبدي.
بدأ العلماء يدركون أن الكون ليس ثابتا ولكنه يتوسع باستمرار. وما دام الكون يتوسع والمجرات تتباعد عن بعضها كما وثق ذلك علماء الفلك، فهذا يعني أن العالم كان أصغر بكثير في الماضي، ولربما كان نقطة واحدة صغيرة.
هنا ظهرت نظرية “الانفجار الكبير” التي أجابت دون أن تقصد عن سؤال الخلق. فالكون خلق عبر انفجار ضخم جدا أدى إلى تمدده بعد أن كان جزءا واحدا في حالة حارة شديد الكثافة.
ما دام الكون يتوسع، فقد قاس العلماء نسبة التوسع والتباعد بين المجرات. وعبر الاستقراء العكسي، قدر العلماء أن الوقت الذي كانت المسافة بين المجرات صفرا (بداية الكون) لن تقل حسب معدل التوسع الحالي عن 13 مليار و800 مليون سنة.
لم تجب النظرية عن كيفية “خلق” العالم فقط، بل استطاعت أن تحدد الوقت الذي تم فيه خلق الكون.
فما دام الكون يتوسع، فقد قاس العلماء نسبة التوسع والتباعد بين المجرات. وعبر الاستقراء العكسي، قدر العلماء أن الوقت الذي كانت المسافة بين المجرات صفرا (بداية الكون) لن تقل حسب معدل التوسع الحالي عن 13 مليار و800 مليون سنة.
تم قياس عمر الكون بوسيلة أخرى، عبر قياس الإشعاع الكوني الخلفي، وهو الإشعاع المتبقي من الانفجار الكبير، والذي يمكن اكتشافه عبر “الفحيح” الذي تسجله موجات الراديو في الفضاء.
لنعد إلى سؤال البداية: هل الكون أزلي أم مخلوق؟
أحدث النظريات العلمية ترجح أن الكون مخلوق وليس أزليا، ظهر في لحظة الانفجار الكبير قبل 13.8 مليار سنة.
لكن، هل الكون أبدي أم أن له لحظة نهاية؟
يرى ستيفن هوكينج أنه لا يوجد إجابة علمية مؤكدة حتى الآن لسؤال النهاية. لكن، إذا كان الكون سينتهي، فإن ذلك لن يكون قبل 20 مليار سنة (الانسحاق الكبير أو يوم القيامة بالمصطلحات الدينية).
إذا كان يوم القيامة سيتأخر لعشرين مليار عام، فأمامنا مهام كبيرة كبشر لإنجازها حتى ذلك الحين في حياتنا الطويلة المديدة.
ماذا عن الإنسان؟
لقد تطور الإنسان عبر 3 ملايين سنة ليصل إلى هذا الإنسان الذي اكتشف الجينوم وغزا الفضاء وطور أرقى نظريات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لكن التطور لا يتوقف. فكما تطور الإنسان من كائن الغاب البدائي، فإنه سيستمر في التطور ليصل إلى مرحلة السوبرمان أو الإنسان الأعلى بمصطلحات نيتشه.
هذا الإنسان الذي بدأت المعامل الاشتغال على صفاته الأولى،قد يعيش 500 سنة وربما يعيش أطول إذا تغلب العلم على "الخطأ التقني" الذي نسميه الموت. أما دماغه، فسيندمج مع الآلة ليتحول إلى دماغ خارق في اختزان المعلومات ومعالجتها وإنتاجها.
أحدث الكشوفات في الهندسة الجينية والوراثية والذكاء الاصطناعي تقول إننا في الطريق إلى مرحلة “ما بعد الانسان” أو “الانسان الخارق”، الذي سيختلف عنا بقدر ما نختلف نحن عن جدنا البدائي الذي ظهر قبل 3 ملايين سنة.
من نحن.. وإلى أين المسير والمصير؟
الإجابة العلمية المتاحة مثيرة.. قد تختلف أو تتفق مع إجابات الأديان، لكن الذي لا شك فيه أن الاجابات القادمة تتجاوز أكثرَ خيالاتنا جموحا.
*حسين الوادعي كاتب وباحث من اليمن

من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟ Sans_205