الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو مع الباحث الامازيغي لحسن ايت


الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو مع الباحث الامازيغي لحسن ايت-1- 4178


التنقل السريع
، شاهد الحلقة الثانية من حلقات الباحث الامازيغي لحسن ايت الفقيه عنوان الحلقة الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو والنّقطُ الفاتنة المستقرّة على أرنبة الأنف، وكل تلك الوشوم التي ارتبطت في ذاكرة الكثير من الأمازيغ بالحكمة والجمال والحكايات العجيبة. إنّها ليست مجرّد رسومٍ عادية، بل ذاكرة تاريخٍ كامل وثقافة متفرّدة، امتدّت لقرون، ثمّ راحت تختفي شيئاً فشيئاً برحيلِ الأمّهات والجدّات ،رسوم تزيينية تُضفي على وجوه الأمازيغيات وأجسادهنّ جمالاً لا يُضاهى، يُناسب عيونهنّ الحادّة وجمالهنّ الفريد وحمرةَ خدودهنّ المشعّة. هناك في مختلف المناطق الأمازيغية بشمال أفريقيا؛ حيثُ الطبيعة والجبال وحتى الصحراء، يُعيد الإنسان الأمازيغي إنتاج الطبيعة على جسده عن طريق الوشم، ليتحوّل هذا الأخير من زينةٍ إلى ذاكرةٍ للجسد، ومن مجرّدِ رسومٍ إلى حاملٍ لدلالاتٍ قوية ومتعدّدة. ممارسةُ الوشم هو من أقدم الطقوس في الثقافة الأمازيغية، إذ ترجعُ أصوله إلى فترةِ ما قبل الإسلام، وزيّنت به النّساء وجوههنّ وأجسادهنّ بكثافة، كما وضعه الرّجال أيضاً، لكن بشكلٍ أقلّ بالمقارنة مع النّساء. يمتدّ تاريخُ الوشم عند الأمازيغ على مدى قرون إذ يرجعُ أصلُ هذه العادة عند الرجال إلى عصورٍ قديمةٍ جدّاً؛ إذ توجد بعضُ المنحوتات في مصر تمثّل الأسرة 19 من الملوك الليبيين، والتي تبيّن وشوماً واضحةً في أيدي الرّجال. في هذا السّياق، يؤكد مصطفى قادري، متخصّص مغربي في الأنتروبولوجيا ومهتمّ بالثقافة الأمازيغية أنّ "عادة الوشم عند الرّجال استمرّت حتى منتصف القرن العشرين، لتختفي بعد ذلك لأسبابٍ متعدّدة، غير أنّ هناك بعض المناطق الأمازيغية التي حافظت عليها لحدّ الآن، حيث لا يزال الرّجال يضعون نقطةً في الأنف و الهدف من ذلك هو التعبير عن الانتماء القبلي وهذا كله قبل أن تبدأ هذه الممارسة، التي شكّلت جزءاً مهمّاً من الثقافة الأمازيغية لسنينٍ طويلة، في الاندثار تدريجياً ابتداءً من عام 1970، حسب تقديرات المتخصصين في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا. تترك المرأة الأمازيغية بصمتها على كل ما يقع بين يديها، حتى جسدها الذي حاولت أن تضيف له بعض البهارات وتعطيه لمسة فنية وحساً جمالياً عالياً، فأبدعت في تزيينه برموز وأشكال وخطوط، استطاعت من خلالها خلق إطار أنثوغرافي متميز خاص بها، هذه الأوشام كانت تحمل دلائل ووظائف اختلفت باختلاف الأزمنة، فانتقلت من رمز للجمال والتقرب من الإله وتحديد الانتماء وكونها ذاكرة ثقافية واجتماعية ليصبح في وقتنا الحالي غصة في قلبها تحاول إزالته بشتى الطرق. الوشم في الثقافة الأمازيغية بصفة عامة يمكن إدراجه ضمن نظرية التواصل الحيزي عند "إدوارد توماس هال" الذي يعتبر الرموز التي يحملها الجسد فضاء مضمونياً يقدم دلالة ثقافية تضاف إلى رصيد الفرد ككائن ضمن الجماعة. فجميع الرموز التي تفننت المرأة الأمازيغية في رسمها تكشف عن الآليات الكامنة للعوالم الحسية التي ينتجها الجسد في تفاعله مع محيطه، فهو يعتبر سلوكيات غير لفظية تبوح بالمستور في تلك الروح، وقانوناً اجتماعياً ملازماً لبعض الطقوس. يوضع الوشم في فترات محددة، في المناسبات وفترة بلوغ الفتاة، عند الشعور بالألم، وعند استعداد الفتاة للزواج، هذه الفترة التي تدل على نضوج الفتاة واكتمالها جمالياً، وقدرتها على تحمل أعباء الحياة الزوجية كما تحملت الأم الوخز؛ لأنه يتم بواسطة أدوات حادة وإبر، أما التزيين فتعددت وسائله من كحل ودخان الشحم، والأعشاب العطرة، والفحم الأسود والتوابل، والحرقوس والقرنفل، ولا بد من الإشارة إلى أن الأوشام التي استعملت فيها هذه المواد لها دلالات خاصة. ممارسةُ الوشم عند الأمازيغ كانت منتشرةً في القرى أكثر منها في المدن، وهي تتمّ في طقوسٍ دقيقة جدّاً من طرف الواشمة، هذه الأخيرة يتمّ اختيارها على أساسِ موهبتها في رسم الوشم، وسرعتها في إنجازه، بالإضافة إلى إتقانها لجميع أشكال الوشوم. وتقول رواياتٌ كثيرة إنّ الواشمة الأمازيغية في القديم كانت تُنتَقى لقدراتها الخارقة على العلاج من الأمراض والحماية من الحسد والعين الشرّيرة وفكّ السّحر.تجلس الواشمة والفتاة التي ترغبُ في الوشم على الأرض، بينما تُحيط بهما نساءٌ أخريات من قريباتٍ وجاراتٍ وصديقات يراقبن العملية، ويقدّمن نصائحَ جمالية ويدعين مع الموشومة بالسّعد والبركة. بالنّسبة لقبائل الرّحل في مختلف مناطق شمال أفريقيا، كان الوشمُ دائماً علامةً لتحديد الهوية والتمييز بين أفراد مختلف القبائل، وعادةً ما كانت الوشوم التي توضعُ في الوجه بصفةٍ رئيسية، تتخذُ أشكالاً تعبّر عن أغراضٍ سحرية، مثل تجنّب سوء الحظّ والحماية من العين الشرّيرة وجلب الثروة والنّجاح. بتركيزٍ شديد، تقوم الواشمةُ بتخطيط الشّكل المرغوب فيه باستعمال الفحم الأسود، ثم تبدأ بوخز المنطقة المخطوطة بواسطة إبرة حتى يخرج منها الدّم، بعدها تحكّ المنطقة المجروحة بالسّخام المحروق. يُترك بعض الوقت، ثم يتمّ رشّه بالماء المملّح والأعشاب للتّعقيم، بعد أسبوع يلتئم الجرحُ، ويتحوّل إلى وشمٍ أخضر جميل يتّخذ شكل حرف أو نخلة، أو نجمة أو أفعى أو عنكبوت و ترتبط كلّها بالطبيعة، ورغبة الإنسان العميقة في إعادة إنتاج مشاهدها على جسده. تقع أوشام المرأة الأمازيغية في مختلف مناطق جسدها، منها الجبين، وما بين الحاجبين والخد والذقن والكتف، والذراع، والكف والصدر والنهدين، والفخذ والمعصم، والركبة والقدم، والساقين والرقبة، لكن توزيعها اختلف وكل عضو حمل دلالة معينة، هذه المرأة كانت ذكية جداً في توزيع الأوشام على جسدها حسب الوظائف والدلائل فاختارت الساق واليدين لتتفنن في صياغة حدود انتمائها الثقافي للفضاء والزمان الأمازيغي.أما الجبهة والصدغ، والأنف والخدان فرسمت عليها بإتقان الأشكال التي تحمل دلالة تزيينية، وهذا ما نجده في الصورة النمطية للعروس الأمازيغية التي يلزمها العرف الثقافي أن توشم وجهها قبل زفها، لما تضيفه الأوشام من فتنة وسحر، فجمال الوجه آنذاك كان مرتبطاً بسواد العين وزرقة الوشم على الوجه (la fille aux yeux noir et aux tatouages bleus).وعن جمال المرأة الأمازيغية التي تضع وشوما رسم الرسام الدانماركي "هايكل فرينكل" لوحة من الكلمات: "أحيانا كثيرة تجدهن في الحقول والمسالك الوعرة في الجبال يرددن صيحات غنائية لا يضاهيها من الحدة والجمال سوى مرأى تلك الأشكال المرسومة بعناية فائقة على خدودهن أو ذقونهن وأحياناً أعناقهن وأيديهن، نساء تتوحد فيهن أسطورية الرمز والرسومات المفعمة خضرة وزرقة، مع أسطورية الوجوه ومكامن جمال تصر على تحدّي قسوة الطبيعة وصعوبة ظروف العيش ومشاق التحملات اليومية، جمال تتوحد فيه الحقيقة بالخيال، والطبيعة بالإنسان، والألوان بالملامح، والصور بالأصوات، والغناء بالرسم على الجسد". وتتفاوتُ كثافةُ الوشوم في أجساد النساء الأمازيغيات حسب القبائل، وحسبَ الفترة التي وُضِع فيها الوشم. ففي القديم كانت الأمازيغيات يضعن وشوماً وافرةً ، ثمّ بدأن يخفّفن منها شيئاً فشيئاً، حتى توقّفن عن الوشم بصفةٍ نهائية في أغلب المناطق. وتُمارس بعض القبائل الأمازيغية نوعاً آخر من الوشم يُسمّى "أحجّام"، وهي كلمةُ تعني بالأمازيغية "المداوي" أو "الشافي"، ويُستعمل هذا الوشم لأغراضٍ علاجية، تضعُه النّساءُ في وجوههنّ أو في أماكن مختلفة من الجسم فيضعونه رجالا كانو أم نساءا في أماكن غير ظاهرة مثل اليد، المعصم،الراس والبطن وغيرها ، والهدفُ منه هو التخلّص من الصّداع أو آلام البطن والحلق وأمراض عديدة وعديدة...


الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو مع الباحث الامازيغي لحسن ايت-1- 40724


الفرق الوحيد بينه وبين الوشم العادي هو أن "أحجّام" يُوشَم باستعمال السّكين وليس الإبرة خصوصا وشم الرقبة الذي ارتبط بالقيمة العلاجية، وبالتحديد لعلاج مرض goitre ، أما عن إزالة آلام العيون تقوم المرأة بوشم يغطي قوس الحاجب، ولم تكتفِ بالعلاج فقط بل ابتكرت أوشاماً تقيها من المرض ووزعتها على كل جسدها، مثلاً الوشم على الوتد والعرقوب والكتف للوقاية من العقم، وداء الخلع بالوشم على المعصم. كما سبق وذكرت لم تكن الرسوم والعلامات الموشومة على جسد المرأة الأمازيغية عبثية، فمثلاً الخطّان المتوازيان على الذقن فهما كنايةٌ عن ثُنائية الخير والشرّ داخل روح كلّ إنسان وعلامة + لا تعتبر صليباً بل هي أيضا حرف "التاء" في الأبجدية الأمازيغية مستلهم من كلمة تامطوت بمعنى المرأة . في مقالها "الوشم على وجوه النساء الامازيغيات"، تطرّقت الكاتبة البريطانية المهتمة بالثقافات القديمة سارة كوربيت، إلى معاني الرّموز التي كانت تتّخذها النّساء الأمازيغيات على وجوههنّ كوشوم. فالشّجرةُ تعني القوة، والنّبتة والعنكبوت يُشيران إلى الخصوبة، والأفعى تدلّ على القدرة على الشّفاء من الأسقام، والذّبابة والنحلة تدُلّان على الطاقة الخارقة؛ . أما وشم عين الحجلة فلقد اعتبرته مارغريت كورتي كلارك -كاتبة وباحثة في الثقافات- رمزاً للجمال فكتبت: "في الثقافة البربرية، الحجل يعتبر كطائر ذي جمال وحسن كبير، ما يجعله يرتبط بصفات الزوجة الجيدة، ويعتقد أيضاً أن عينيه الثاقبتين هما مراقب حذر ضد الخطر"، أما علامة السهم التي توشم على الجزء العلوي من الذراع فهي تمثل ركاب سرج الحصان الذي يحمل قصة لفرسان المنطقة ليحتفظ جسدها بذاكرة جماعية لبطولات عرش، أما باقي الأوشام كسلسلة نقاط على الجبين ورمز الشمس على الخد، والخط المستقيم والشارات العسكرية والأشكال النباتية والحيوانية والأشكال الخماسية والمشبكات، تلك الرسوم على المعصمين، استعملت للخصوبة والبلوغ فضلاً عن دلالات دينية تبعد الحسد والأرواح الشريرة وتجلب الحظ. وباعتبار الوشم علامةً لتمييز الجسد وإعادةِ بنائه وكتابة تاريخه، فإنه "يتجاوز الوظيفة التجميلية إلى وظائف اجتماعية أخرى تُعلن عن مكانةٍ ما، أو دور ما، أو نظرةٍ ما للكون والعالم، أو خوفٍ ما من العالم اللامرئي". هناك من يقول أن الوشوم وضعت قديماً بغرض التعريف والتمييز بين الناس والقبائل؛ ولذلك كان الأمازيغ يمارسون عادة الوشم، الهدفُ الرئيسي منها كان التمييز بين قبيلة وأخرى وأيضا التمييز بين النساء البالغات والمتزوجات وبين الفتيات اللواتي لم يبلغن بعد. من خلال بحث قام به الفرنسيان تريسان ريفيير وجاك فوبلي حول "الوشم عند قبائل الشاوية والأوراس"، توصّل الباحثان المختصان في الإثنوغرافيا إلى أنّ "الشباب داخل هاتين القبيلتين كانوا يضعون الوشم في أيديهم من أجل إبراز جمالها أكثر وإظهارها أكثر أناقةً، خاصّةً أثناء الحفلات والأعراس، حين يقومون بالضّرب على الدّف أو العزف على النّاي". وبالرّغم من أنّ الوشمَ كان دائماً مُباحاً نوعا ما لدى الأمازيغ المسلمين عكسَ اليهود والمسيحيين الذين كانوا يعتبرونه محرّماً، فإن "المدّ الوهابي الذي وجدَ له مكاناً في البلدان المغاربية خلال سنوات الثمانينات والتسعينات، جعل العديد من النّساء الأمازيغيات يتّجهن إلى التخلّص من الوشوم على أجسادهنّ، أحياناً بطرقٍ غير طبّية، معتقداتٍ أنّهنّ يكفّرن عن ذنبٍ أو خطأ". مثل الكثيرِ من العادات والمعتقدات،


الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو مع الباحث الامازيغي لحسن ايت-1- 4179


بدأ الوشمُ عند الأمازيغ يختفي تدريجيا، حسب المناطق، منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي. وأصبح آخرُ جيلٍ يحمل هذه الرّموز والرّسوم على الجسد هو جيلُ الجدّات. هؤلاء الجدات اللواتي يرحلن تِباعاً، حاملاتٍ معهنّ حكاياتهنّ الشفوية ووشومهنّ البديعة، تُدفنُ الوشوم والحكايات، ويُطمسُ جزءٌ كبير من تاريخ وهوية الأمازيغ. فإنّ اختفاء الوشم عند الأمازيغ مرتبطٌ بأسباب متعدّدة، "أهمّها الجانب الديني و أيضا مُحاولة إخفاء الهوية الترابية، إذ عمدت الأنظمة في كلّ من الجزائر ،المغرب وتونس مثلاً، ابتداءا من فترة الستينات، إلى قتل الجذور التراثية ومحاربة كلّ ما هو تقليدي، بما في ذلك اللباس المحلّي والعادات المحلّية واللغة الأمازيغية بغية خلق إنسانٍ معرّب ومؤدلج". هي خسارةٌ كبيرةٌ للثقافة الأمازيغية، فقد كانت للوشومِ دائماً لمسةٌ جمالية أخّاذة. كانت بسيطة وعميقةً في أشكالها. كأنّنا خسرنا جزءاً من مخيالٍ استطيقي كان يتميّز به الإنسانُ الأمازيغي كما تتميز به جميع الشعوبِ على الأرض".إن اختفاء الوشم عند الأمازيغ يرجعُ إلى "تغيّر المجتمع باستمرار، وتغيّر طريقة تدبير الجسد، وتغيّر نظرة الإنسان للكون، وتغيّر طرق إعادة بناء الجسد ثقافيا أيضاً، إذ توجد اليوم آلياتٌ جديدة لتحقيق الظهور والاحتفاء بالجسد، بالإضافة إلى أنّ المنظور الاجتماعي للمرأة التي تضع وشماً لم يعُد حاضراً اليوم وينظر له نظرة دونية. اذ تغيّرت معايير الجمال إذن فقد تغيرت وجهات نظر الناس حوله وذلك راجع لعدة أسباب. مهما اختلفت التفسيرات حول الوشم الأمازيغي وتعددت دلالاته، لكنّه يبقى تلك اللغة المرهفة التي تعبّر عن رغبات الجسد، وتُظهر نزوع الرّوح الإنسانية نحو الكمال وسعيها للخلود، إنّه ذلك الجمالُ الذي لا يمحوه سوى الموت، جمالٌ مصنوعٌ من الطبيعة ومن خلالِها ومن أجل الالتصاق بها، زينةٌ تعطي إشعاعاً للجسد النسائي دون إخفاء طبيعتهنّ ووجوههنّ الحقيقية، بعيداً عمّا تروّجه العولمة اليوم من أقنعة ومساحيق تجميل.
ارتبط الوشم عند الأمازيغ بالحكمة والجمال والأهازيج الدافئة وحكايات الجدات.انها ليست مجرد رسوم عادية،بل ذاكرة تاريخ كامل وثقافة متفردة امتدت لقرون،ثم راحت تختفي شيئا فشيئا برحيل الأمهات والجدات. انها هوية جمالية كاملة في طريق الإندثار. مَنْ مِن الأمازيغ لا يتذكّرُ تلك الخطوطَ الخضراء الجميلة على وجوه الجدّات الجميلات؟ النخلاتُ الباسقةُ على الجبهة، النجماتُ المشرقة على الخدود
، شاهد الحلقة الثانية من حلقات الباحث الامازيغي لحسن ايت الفقيه عنوان الحلقة الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو والنّقطُ الفاتنة المستقرّة على أرنبة الأنف، وكل تلك الوشوم التي ارتبطت في ذاكرة الكثير من الأمازيغ بالحكمة والجمال والحكايات العجيبة.



إنّها ليست مجرّد رسومٍ عادية، بل ذاكرة تاريخٍ كامل وثقافة متفرّدة، امتدّت لقرون، ثمّ راحت تختفي شيئاً فشيئاً برحيلِ الأمّهات والجدّات ،رسوم تزيينية تُضفي على وجوه الأمازيغيات وأجسادهنّ جمالاً لا يُضاهى، يُناسب عيونهنّ الحادّة وجمالهنّ الفريد وحمرةَ خدودهنّ المشعّة. هناك في مختلف المناطق الأمازيغية بشمال أفريقيا؛ حيثُ الطبيعة والجبال وحتى الصحراء، يُعيد الإنسان الأمازيغي إنتاج الطبيعة على جسده عن طريق الوشم، ليتحوّل هذا الأخير من زينةٍ إلى ذاكرةٍ للجسد، ومن مجرّدِ رسومٍ إلى حاملٍ لدلالاتٍ قوية ومتعدّدة. ممارسةُ الوشم هو من أقدم الطقوس في الثقافة الأمازيغية، إذ ترجعُ أصوله إلى فترةِ ما قبل الإسلام، وزيّنت به النّساء وجوههنّ وأجسادهنّ بكثافة، كما وضعه الرّجال أيضاً، لكن بشكلٍ أقلّ بالمقارنة مع النّساء. يمتدّ تاريخُ الوشم عند الأمازيغ على مدى قرون إذ يرجعُ أصلُ هذه العادة عند الرجال إلى عصورٍ قديمةٍ جدّاً؛ إذ توجد بعضُ المنحوتات في مصر تمثّل الأسرة 19 من الملوك الليبيين، والتي تبيّن وشوماً واضحةً في أيدي الرّجال. في هذا السّياق، يؤكد مصطفى قادري، متخصّص مغربي في الأنتروبولوجيا ومهتمّ بالثقافة الأمازيغية أنّ "عادة الوشم عند الرّجال استمرّت حتى منتصف القرن العشرين، لتختفي بعد ذلك لأسبابٍ متعدّدة، غير أنّ هناك بعض المناطق الأمازيغية التي حافظت عليها لحدّ الآن، حيث لا يزال الرّجال يضعون نقطةً في الأنف و الهدف من ذلك هو التعبير عن الانتماء القبلي وهذا كله قبل أن تبدأ هذه الممارسة، التي شكّلت جزءاً مهمّاً من الثقافة الأمازيغية لسنينٍ طويلة، في الاندثار تدريجياً ابتداءً من عام 1970، حسب تقديرات المتخصصين في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا. تترك المرأة الأمازيغية بصمتها على كل ما يقع بين يديها، حتى جسدها الذي حاولت أن تضيف له بعض البهارات وتعطيه لمسة فنية وحساً جمالياً عالياً، فأبدعت في تزيينه برموز وأشكال وخطوط، استطاعت من خلالها خلق إطار أنثوغرافي متميز خاص بها، هذه الأوشام كانت تحمل دلائل ووظائف اختلفت باختلاف الأزمنة، فانتقلت من رمز للجمال والتقرب من الإله وتحديد الانتماء وكونها ذاكرة ثقافية واجتماعية ليصبح في وقتنا الحالي غصة في قلبها تحاول إزالته بشتى الطرق. الوشم في الثقافة الأمازيغية بصفة عامة يمكن إدراجه ضمن نظرية التواصل الحيزي عند "إدوارد توماس هال" الذي يعتبر الرموز التي يحملها الجسد فضاء مضمونياً يقدم دلالة ثقافية تضاف إلى رصيد الفرد ككائن ضمن الجماعة. فجميع الرموز التي تفننت المرأة الأمازيغية في رسمها تكشف عن الآليات الكامنة للعوالم الحسية التي ينتجها الجسد في تفاعله مع محيطه، فهو يعتبر سلوكيات غير لفظية تبوح بالمستور في تلك الروح، وقانوناً اجتماعياً ملازماً لبعض الطقوس. يوضع الوشم في فترات محددة، في المناسبات وفترة بلوغ الفتاة، عند الشعور بالألم، وعند استعداد الفتاة للزواج، هذه الفترة التي تدل على نضوج الفتاة واكتمالها جمالياً، وقدرتها على تحمل أعباء الحياة الزوجية كما تحملت الأم الوخز؛ لأنه يتم بواسطة أدوات حادة وإبر، أما التزيين فتعددت وسائله من كحل ودخان الشحم، والأعشاب العطرة، والفحم الأسود والتوابل، والحرقوس والقرنفل، ولا بد من الإشارة إلى أن الأوشام التي استعملت فيها هذه المواد لها دلالات خاصة. ممارسةُ الوشم عند الأمازيغ كانت منتشرةً في القرى أكثر منها في المدن، وهي تتمّ في طقوسٍ دقيقة جدّاً من طرف الواشمة، هذه الأخيرة يتمّ اختيارها على أساسِ موهبتها في رسم الوشم، وسرعتها في إنجازه، بالإضافة إلى إتقانها لجميع أشكال الوشوم.


الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو مع الباحث الامازيغي لحسن ايت-1- 40725


وتقول رواياتٌ كثيرة إنّ الواشمة الأمازيغية في القديم كانت تُنتَقى لقدراتها الخارقة على العلاج من الأمراض والحماية من الحسد والعين الشرّيرة وفكّ السّحر.تجلس الواشمة والفتاة التي ترغبُ في الوشم على الأرض، بينما تُحيط بهما نساءٌ أخريات من قريباتٍ وجاراتٍ وصديقات يراقبن العملية، ويقدّمن نصائحَ جمالية ويدعين مع الموشومة بالسّعد والبركة. بالنّسبة لقبائل الرّحل في مختلف مناطق شمال أفريقيا، كان الوشمُ دائماً علامةً لتحديد الهوية والتمييز بين أفراد مختلف القبائل، وعادةً ما كانت الوشوم التي توضعُ في الوجه بصفةٍ رئيسية، تتخذُ أشكالاً تعبّر عن أغراضٍ سحرية، مثل تجنّب سوء الحظّ والحماية من العين الشرّيرة وجلب الثروة والنّجاح. بتركيزٍ شديد، تقوم الواشمةُ بتخطيط الشّكل المرغوب فيه باستعمال الفحم الأسود، ثم تبدأ بوخز المنطقة المخطوطة بواسطة إبرة حتى يخرج منها الدّم، بعدها تحكّ المنطقة المجروحة بالسّخام المحروق. يُترك بعض الوقت، ثم يتمّ رشّه بالماء المملّح والأعشاب للتّعقيم، بعد أسبوع يلتئم الجرحُ، ويتحوّل إلى وشمٍ أخضر جميل يتّخذ شكل حرف أو نخلة، أو نجمة أو أفعى أو عنكبوت و ترتبط كلّها بالطبيعة، ورغبة الإنسان العميقة في إعادة إنتاج مشاهدها على جسده. تقع أوشام المرأة الأمازيغية في مختلف مناطق جسدها، منها الجبين، وما بين الحاجبين والخد والذقن والكتف، والذراع، والكف والصدر والنهدين، والفخذ والمعصم، والركبة والقدم، والساقين والرقبة، لكن توزيعها اختلف وكل عضو حمل دلالة معينة، هذه المرأة كانت ذكية جداً في توزيع الأوشام على جسدها حسب الوظائف والدلائل فاختارت الساق واليدين لتتفنن في صياغة حدود انتمائها الثقافي للفضاء والزمان الأمازيغي.أما الجبهة والصدغ، والأنف والخدان فرسمت عليها بإتقان الأشكال التي تحمل دلالة تزيينية، وهذا ما نجده في الصورة النمطية للعروس الأمازيغية التي يلزمها العرف الثقافي أن توشم وجهها قبل زفها، لما تضيفه الأوشام من فتنة وسحر، فجمال الوجه آنذاك كان مرتبطاً بسواد العين وزرقة الوشم على الوجه (la fille aux yeux noir et aux tatouages bleus).


الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو مع الباحث الامازيغي لحسن ايت-1- 40726


وعن جمال المرأة الأمازيغية التي تضع وشوما رسم الرسام الدانماركي "هايكل فرينكل" لوحة من الكلمات: "أحيانا كثيرة تجدهن في الحقول والمسالك الوعرة في الجبال يرددن صيحات غنائية لا يضاهيها من الحدة والجمال سوى مرأى تلك الأشكال المرسومة بعناية فائقة على خدودهن أو ذقونهن وأحياناً أعناقهن وأيديهن، نساء تتوحد فيهن أسطورية الرمز والرسومات المفعمة خضرة وزرقة، مع أسطورية الوجوه ومكامن جمال تصر على تحدّي قسوة الطبيعة وصعوبة ظروف العيش ومشاق التحملات اليومية، جمال تتوحد فيه الحقيقة بالخيال، والطبيعة بالإنسان، والألوان بالملامح، والصور بالأصوات، والغناء بالرسم على الجسد". وتتفاوتُ كثافةُ الوشوم في أجساد النساء الأمازيغيات حسب القبائل، وحسبَ الفترة التي وُضِع فيها الوشم. ففي القديم كانت الأمازيغيات يضعن وشوماً وافرةً ، ثمّ بدأن يخفّفن منها شيئاً فشيئاً، حتى توقّفن عن الوشم بصفةٍ نهائية في أغلب المناطق. وتُمارس بعض القبائل الأمازيغية نوعاً آخر من الوشم يُسمّى "أحجّام"، وهي كلمةُ تعني بالأمازيغية "المداوي" أو "الشافي"، ويُستعمل هذا الوشم لأغراضٍ علاجية، تضعُه النّساءُ في وجوههنّ أو في أماكن مختلفة من الجسم فيضعونه رجالا كانو أم نساءا في أماكن غير ظاهرة مثل اليد، المعصم،الراس والبطن وغيرها ، والهدفُ منه هو التخلّص من الصّداع أو آلام البطن والحلق وأمراض عديدة وعديدة... الفرق الوحيد بينه وبين الوشم العادي هو أن "أحجّام" يُوشَم باستعمال السّكين وليس الإبرة خصوصا وشم الرقبة الذي ارتبط بالقيمة العلاجية، وبالتحديد لعلاج مرض goitre ، أما عن إزالة آلام العيون تقوم المرأة بوشم يغطي قوس الحاجب، ولم تكتفِ بالعلاج فقط بل ابتكرت أوشاماً تقيها من المرض ووزعتها على كل جسدها، مثلاً الوشم على الوتد والعرقوب والكتف للوقاية من العقم، وداء الخلع بالوشم على المعصم. كما سبق وذكرت لم تكن الرسوم والعلامات الموشومة على جسد المرأة الأمازيغية عبثية، فمثلاً الخطّان المتوازيان على الذقن فهما كنايةٌ عن ثُنائية الخير والشرّ داخل روح كلّ إنسان وعلامة + لا تعتبر صليباً بل هي أيضا حرف "التاء" في الأبجدية الأمازيغية مستلهم من كلمة تامطوت بمعنى المرأة . في مقالها "الوشم على وجوه النساء الامازيغيات"، تطرّقت الكاتبة البريطانية المهتمة بالثقافات القديمة سارة كوربيت، إلى معاني الرّموز التي كانت تتّخذها النّساء الأمازيغيات على وجوههنّ كوشوم. فالشّجرةُ تعني القوة، والنّبتة والعنكبوت يُشيران إلى الخصوبة، والأفعى تدلّ على القدرة على الشّفاء من الأسقام، والذّبابة والنحلة تدُلّان على الطاقة الخارقة؛


الرمز و الجمال لدى قبائل أيت حديدو مع الباحث الامازيغي لحسن ايت-1- 40727


. أما وشم عين الحجلة فلقد اعتبرته مارغريت كورتي كلارك -كاتبة وباحثة في الثقافات- رمزاً للجمال فكتبت: "في الثقافة البربرية، الحجل يعتبر كطائر ذي جمال وحسن كبير، ما يجعله يرتبط بصفات الزوجة الجيدة، ويعتقد أيضاً أن عينيه الثاقبتين هما مراقب حذر ضد الخطر"، أما علامة السهم التي توشم على الجزء العلوي من الذراع فهي تمثل ركاب سرج الحصان الذي يحمل قصة لفرسان المنطقة ليحتفظ جسدها بذاكرة جماعية لبطولات عرش، أما باقي الأوشام كسلسلة نقاط على الجبين ورمز الشمس على الخد، والخط المستقيم والشارات العسكرية والأشكال النباتية والحيوانية والأشكال الخماسية والمشبكات، تلك الرسوم على المعصمين، استعملت للخصوبة والبلوغ فضلاً عن دلالات دينية تبعد الحسد والأرواح الشريرة وتجلب الحظ. وباعتبار الوشم علامةً لتمييز الجسد وإعادةِ بنائه وكتابة تاريخه، فإنه "يتجاوز الوظيفة التجميلية إلى وظائف اجتماعية أخرى تُعلن عن مكانةٍ ما، أو دور ما، أو نظرةٍ ما للكون والعالم، أو خوفٍ ما من العالم اللامرئي". هناك من يقول أن الوشوم وضعت قديماً بغرض التعريف والتمييز بين الناس والقبائل؛ ولذلك كان الأمازيغ يمارسون عادة الوشم، الهدفُ الرئيسي منها كان التمييز بين قبيلة وأخرى وأيضا التمييز بين النساء البالغات والمتزوجات وبين الفتيات اللواتي لم يبلغن بعد. من خلال بحث قام به الفرنسيان تريسان ريفيير وجاك فوبلي حول "الوشم عند قبائل الشاوية والأوراس"، توصّل الباحثان المختصان في الإثنوغرافيا إلى أنّ "الشباب داخل هاتين القبيلتين كانوا يضعون الوشم في أيديهم من أجل إبراز جمالها أكثر وإظهارها أكثر أناقةً، خاصّةً أثناء الحفلات والأعراس، حين يقومون بالضّرب على الدّف أو العزف على النّاي". وبالرّغم من أنّ الوشمَ كان دائماً مُباحاً نوعا ما لدى الأمازيغ المسلمين عكسَ اليهود والمسيحيين الذين كانوا يعتبرونه محرّماً، فإن "المدّ الوهابي الذي وجدَ له مكاناً في البلدان المغاربية خلال سنوات الثمانينات والتسعينات، جعل العديد من النّساء الأمازيغيات يتّجهن إلى التخلّص من الوشوم على أجسادهنّ، أحياناً بطرقٍ غير طبّية، معتقداتٍ أنّهنّ يكفّرن عن ذنبٍ أو خطأ". مثل الكثيرِ من العادات والمعتقدات، بدأ الوشمُ عند الأمازيغ يختفي تدريجيا، حسب المناطق، منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي. وأصبح آخرُ جيلٍ يحمل هذه الرّموز والرّسوم على الجسد هو جيلُ الجدّات. هؤلاء الجدات اللواتي يرحلن تِباعاً، حاملاتٍ معهنّ حكاياتهنّ الشفوية ووشومهنّ البديعة، تُدفنُ الوشوم والحكايات، ويُطمسُ جزءٌ كبير من تاريخ وهوية الأمازيغ. فإنّ اختفاء الوشم عند الأمازيغ مرتبطٌ بأسباب متعدّدة، "أهمّها الجانب الديني و أيضا مُحاولة إخفاء الهوية الترابية، إذ عمدت الأنظمة في كلّ من الجزائر ،المغرب وتونس مثلاً، ابتداءا من فترة الستينات، إلى قتل الجذور التراثية ومحاربة كلّ ما هو تقليدي، بما في ذلك اللباس المحلّي والعادات المحلّية واللغة الأمازيغية بغية خلق إنسانٍ معرّب ومؤدلج". هي خسارةٌ كبيرةٌ للثقافة الأمازيغية، فقد كانت للوشومِ دائماً لمسةٌ جمالية أخّاذة. كانت بسيطة وعميقةً في أشكالها. كأنّنا خسرنا جزءاً من مخيالٍ استطيقي كان يتميّز به الإنسانُ الأمازيغي كما تتميز به جميع الشعوبِ على الأرض".إن اختفاء الوشم عند الأمازيغ يرجعُ إلى "تغيّر المجتمع باستمرار، وتغيّر طريقة تدبير الجسد، وتغيّر نظرة الإنسان للكون، وتغيّر طرق إعادة بناء الجسد ثقافيا أيضاً، إذ توجد اليوم آلياتٌ جديدة لتحقيق الظهور والاحتفاء بالجسد، بالإضافة إلى أنّ المنظور الاجتماعي للمرأة التي تضع وشماً لم يعُد حاضراً اليوم وينظر له نظرة دونية. اذ تغيّرت معايير الجمال إذن فقد تغيرت وجهات نظر الناس حوله وذلك راجع لعدة أسباب. مهما اختلفت التفسيرات حول الوشم الأمازيغي وتعددت دلالاته، لكنّه يبقى تلك اللغة المرهفة التي تعبّر عن رغبات الجسد، وتُظهر نزوع الرّوح الإنسانية نحو الكمال وسعيها للخلود، إنّه ذلك الجمالُ الذي لا يمحوه سوى الموت، جمالٌ مصنوعٌ من الطبيعة ومن خلالِها ومن أجل الالتصاق بها، زينةٌ تعطي إشعاعاً للجسد النسائي دون إخفاء طبيعتهنّ ووجوههنّ الحقيقية، بعيداً عمّا تروّجه العولمة اليوم من أقنعة ومساحيق تجميل


قصر آيت بن حدو





https://www.imilchil24.com/2021/07/blog-post.html