“الغزوات” العربية في روايات المغلوبين: نحو إعادة تقييم التاريخ العربي-الإسلامي
أغفل المؤلفون العرب صوت الآخر، وأكثر أعمالهم عن “الفتوحات” لا تعدو أن تكون في كل مرة جديدة، تشذيبا للرواية العربية-الإسلامية دون إيلاء أي أهمية لروايات الآخرين، فيما يشبه المثل القائل: “نعيد اختراع العجلة”.
تكاد الهوة تكون فادحة بين ما نرى عليه أنفسنا وما يراه العالم فينا، فكيف السبيل إلى ردمها إذن؟
ربما تكون البداية من إعادة تقييم التاريخ العربي-الإسلامي!
… ثم ماذا لو رأينا صورتنا في مرايا الآخرين أيضا، عوض الاكتفاء بنظرة أحادية للتاريخ نصنع بها حاضرنا؟
حسنا، لن يختلف اثنان في أن “الفتوحات” مثلت الحدث المؤسس للتاريخ العربي-الإسلامي…
الكتابات العربية تحفل بحكاية “الغزوات”، كما تضم في طياتها الكثير عن الحكام البيزنطيين والفرس ووجهاء البلدان التي وصلت إليها، وترسم بعضا من أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية لتلك الشعوب.
لكن… يُعاب على هذه الرواية، الكلاسيكية عربيا، أنها لم تستند إلى المصادر الأصلية لكتّاب الشعوب المغلوبة، كما أنها لم تهتم بما مثلته تلك “الفتوحات” للشعوب التي جاءها العربُ غزاةً.
في كتابه “الغزوات العربية في روايات المغلوبين”، يحاول الباحث والكاتب اللبناني حسام عيتاني، سرد حكاية هذه “الفتوحات” كما رآها ورواها إخباريو المغلوبين.
يقول عيتاني في معرض تقديم “أسباب نزول” كتابه هذا الذي صدر عام 2011 عن “دار الساقي”، إن من تناولوا “الفتوحات” في الكتابات العربية، سقطوا في غواية الخطاب الصادر عن الذات والموجه إليها، والحال أن “الفتوحات” استهدفت بلاد الآخر وأراضيه، بل وسعت إلى تغيير عقيدته وضمه إلى الدين الجديد…
المؤلفون العرب في نظر الباحث أغفلوا صوت الآخر، وأكثر أعمالهم عن الموضوع لا تعدو أن تكون في كل مرة جديدة، تشذيبا للرواية العربية-الإسلامية دون إيلاء أي أهمية لروايات الآخرين، فيما يشبه المثل القائل: “نعيد اختراع العجلة”.
هكذا، كتب عيتاني بحثه هذا مصوبا عينيه على الخروج بالتاريخ العربي-الإسلامي من ثنائية تترنح بين الرواية الممجدة لبطولات العرب في “الغزواات”، ونظرة بعض المستشرقين التبخيسية لكل ما قام به العرب على امتداد تاريخهم… تلك الثنائية التي تهيمن على النتاج الفكري العربي، اليوم، على نحو جعل الحواجز تنتصب عالية بين ما يرسمه العرب والمسلمون من صورة لأنفسهم وما يراه العالم فيهم.
“الغزوات العربية في روايات المغلوبين” إذن مساهمة لإشراك العرب في رسم صورتهم بناء على قراءة دقيقة لما تراكم عبر أكثر من ألفي عام من الصلات بينهم وبين الشعوب والحضارات الأخرى.
يقول الباحث… ألفا عام وليس أربعة عشر قرنا كما دأبت عليه العادة، لأن العديد من مكونات الصورة النمطية عن العرب وجدت عند الرومان والفرس وغيرهما من الشعوب قبل ظهور الإسلام.
عيتاني يؤكد أن الفكرة التي يطرحها للنقاش العام في كتابه هذا، لا تتعلق بتسويد أو تبييض صورة “الغزوات” عند القارئ المعاصر، بل تتلخص في نقل كلام الآخر المغلوب آنذاك، إلى حيز الوعي النقدي العربي وضمه إلى ما يكوّن صورة العرب عن أنفسهم قديما، ومن ثم فهم ما تداخل في صنع صورة العالم عنهم اليوم.
“الغزوات العربية في روايات المغلوبين” ليس بحثا عن “الحقيقة التاريخية”، يشدد عيتاني الذي يضيف في مقدمته أن الحقيقة قد تكون ضاعت إلى الأبد، ولن نتمكن بأي حال من بلوغ معرفة يقينية تستند إلى براهين علمية.
بيد أننا نستطيع مما تركه من كتابات، مؤرخون عرب ومسلمون وزارديشتيون ومسيحيون ومن قوميات شتى، تلمّس الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي الذي حرك العالم القديم، وآليات هذه الحركة، ومن ثم وضع ظاهرة ضخمة كـ”الفتوحات” في إطار قريب من الإدراك العقلاني.
من المدهش وفق الباحث أن تكون أسماء المؤرخين البيزنطيين أو الإخباريين السريان الذي عاصروا “الغزوات”، مجهولة تماما لغير المتخصصين، في حين إن الروايات التي وضعها المؤرخون العرب والمسلمون مكرسة بصفتها حقائق تداني البداهة ولا تقبل النقاش.
على أن عيتاني يقر بأن “الفتوحات” العربية-الإسلامية موضوع في غاية التعقيد!
يكفي الاطلاع على الروايات المتباينة التي توردها المصادر العربية والإسلامية لأحداث “الفتوحات”، ليدرك القارئ صعوبة الإحاطة بها في رواية واحدة متماسكة منطقيا ومتسلسلة تاريخيا…
فكيف إذا دخلت مصادر غير عربية وغير إسلامية إلى محاولة صياغة تلك الرواية؟
ربما يكون كثير من الأسئلة التي يجيب عنها عيتاني يدخل في حيز البداهة، وقد تعرض له كثير من المستشرقين بالإجابة، بيد أنه عاب على العرب بشكل عام النأي بأنفسهم عن الخوض فيها… أسئلة من قبيل:
ما هي أسباب “الفتوحات”؟ ما المدى الذي خطط القادة العرب لبلوغه؟ كيف كانت علاقة الغزاة مع الشعوب المغلوبة ومؤسساتها الدينية؟ ما كانت وتيرة اعتناق غير المسلمين للإسلام؟ ما دوافع هذا الانتقال الديني وأشكاله؟ ما التوتر الذي تسببت به “الفتوحات” داخل المجتمعات غير المسلمة؟ ثم ما الانقلابات المعرفية والفكرية التي كان العالم يتهيأ لاستقبالها قبل “الفتح” واتخذت أشكالا مختلفة بعده؟
الأسئلة عديدة في هذا الصدد، ومن هذا الكتاب الذي يسعى لكسر قوالب التاريخ الجاهزة، نأخذ نتفا للإجابة عنها ابتداءً من الجزء القادم، لنتعرف على روايات المغلوبين… أو ببساطة، لنرى أنفسنا في مراياهم!
بقلم: كريم الهاني
المصدر:مواقع ألكترونية