“ الغزوات” العربية في روايات المغلوبين: مؤامرة يهودية؟
صَوّر البيزنطيون اليهودَ على أنهم عدو داخلي، يُنتظر منه القيام بما لا يمكن توقعه في سبيل تقويض الأسس المقدسة للدولة البيزنطية…
“ الغزوات العربية في روايات المغلوبين”، ونتابع فيه اتهام المسيحيين لليهود بالوقوف وراء “الغزوات العربية”.
كان العرب، كما تابعنا في الأجزاء السابقة، مجرد حفنة من رعاة الماعز والإبل في عيون جيرانهم. وما كان ليخطر على بال هؤلاء، وهم الإمبراطوريتان العظيمتان، أن الجرأة ستبلغ بالعرب حد مواجهتهم عسكريا ودينيا.
إذن؟
إذن ثمة جهة ما دفعت العرب إلى غزو البلاد المجاورة لهم في الجزيرة العربية، وزودتهم بسند ديني-إيديولوجي للقيام بذلك!
باختصار، كان هذا ما توصل إليه معظم الإخباريين والمؤرخين والسياسيين ورجال الدين في المناطق التي تعرضت لـ”الغزوات العربية”.
أما المتهم الذي حرض العرب على الغزو وما رافقه من تطاول على الرموز الدينية، فلا يمكن أن يكون سوى جماعة لها سوابق في التمرد والادعاءات المناقضة للثوابت السائدة، بخاصة في الإمبراطورية البيزنطية.
والحال هذه، المرشح الأول الذي تنسحب عليه صفات كهذه، هو اليهود؛ عدو المسيحية الأزلي.
هذا الاتهام الموجه لليهود بتحريض العرب على “الغزوات”، استند إلى/وساعد في تعزيزه، الاضطرابات التي شهدتها مدن الشرق كأنطاكية والإسكندرية من مذابح متبادلة بين المسيحيين واليهود، وتأييد هؤلاء للغزو الفارسي عام 614م والتهليل لاقتحام القدس…
بل… ومساعدة اليهود للغزاة، في ما يشبه محو آثار الحكم البيزنطي من تدمير للكنائس وقتل المسيحيين، وهو ما يرقى إلى حدود التمرد العلني والمفتوح على القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية).
ردًّا على هذا، صَوّر البيزنطيون اليهودَ على أنهم عدو داخلي، يُنتظر منه القيام بما لا يمكن توقعه في سبيل تقويض الأسس المقدسة للدولة البيزنطية… ويبدو أنهم، أي البيزنطيون، قد تناسوا اضطهادهم لـ”العدو” وفرض التنصير عليه.
الحقيقة أن عمر بن الخطاب، الخليفة الذي ابتدأت في عهده “الغزوات” فعليا، اتخذ في عيون اليهود وجها “خلاصيا” بعدما ضاقوا من أعباء الملاحقات والضغوط البيزنطية.
كان اهتمام عمر ببناء المسجد الأقصى، بالنسبة لليهود، دليل سعيه إلى إعمار الهيكل… وبالنظر إلى ما تحمله إعادة بناء الهيكل من دلالات إحيائية كبيرة عند اليهود، فالأرجح أنها حركت بعض آمالهم السياسية.
بالمناسبة، جاء في تاريخ الطبري أن أول من دعا عمر بـ”الفاروق”، كان رجلا يهوديا من دمشق. وهذا اللقب، كلمة من أصل آرمي، اللغة التي تحدثها يهود سوريا وفلسطين آنذاك، وتعني “المخلّص”.
“بوروقو” في التوراة التي كتبت باللغة السريانية، كان كذلك معناها أيضا… لكن بعد ذلك غاب المصدر “الكتابيّ” للكلمة، وحل محله التفسير العربي الذي يقول إن المقصود بـ”الفاروق”، رجل يفرّق بين الخير والشر.
بالتأكيد، ما قاله الطبري وغيره من المؤرخين العرب عن الأيام الأولى لدخول العرب إلى فلسطين، لم يلقَ اهتماما كافيا من قبل الباحثين المعاصرين، بسبب تأثرهم المبرر، ربما، بأحوال السياسة والصراع العربي-الإسرائيلي هذه الأيام…
هذا الصراع يجعل من التداخل الديني اليهودي الإسلامي، أرضا حراما، رغم ما تختزنه من احتمالات معرفية كبيرة.
إجمالا، لا تشير الأدبيات العربية واليهودية إلى كيفية نشوء العلاقة بين اليهود والعرب، ولا كيف بدأت الشكوك المتبادلة التي ظهرت لاحقا بين الجانبين، لكن رغم أن هؤلاء جيران في مناطق عدة من شبه الجزيرة، إلا أن ذلك لا يكفي ليُحوّل العرب إلى منفذين لإرادة اليهود بحسب ما تقول المصادر المسيحية.
بالحديث عن الشكوك، فاليهود، رغم ما رأوه في “الغزوات العربية” من خلاص، إلا أنهم شعروا بالإحباط بعدما قرر العرب منعهم من بناء الهيكل، إذ ارتأى هؤلاء أن يبقى جبل الهيكل في حوزتهم لأغراض دينية.
من هنا، بدأ اليهود يعتبرون أن العرب يمثلون “الرجل المتوحش”، و”حامل الرمح ومعتمر الخوذة”، الذي يضطهدهم ويفرض عليهم الضرائب، مثله مثل من سبقه من البيزنطيين.
لكن، بدا فيما بعد أن عملية إعادة صياغة لتاريخ العلاقات العربية-الإسلامية اليهودية، قد أضفت قدرا من الإيجابية على علاقات الجانبين حينذاك.
يقول المؤرخ اليهودي الحديث، إسرائيل ولفنسون، في “تاريخ اليهود في بلاد العرب”: “كان اليهود في أغلب مدن العراق يخرجون لاستقبال جيوش المسلمين بالحفاوة والإكرام لأنهم كانوا يأثرونهم على غيرهم إذ يرون فيهم قوما يؤمنون بإله موسى وإبراهيم. ولقد ازدادت هذه الروابط متانة مع امتداد الزمن حتى دخل اليهود في جيوش المسلمين ليناضلوا معهم في أقاليم الأندلس“.
ويتابع: “ينبغي ألا يغيب عن البال أن الخسارة القليلة التي لحقت بيهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الإسلام، فقد أنقذ الفاتحون المسلمون آلافا من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرومية وكانوا يقاسون ألوانا من العذاب”.
لما يقوله ولفنسون تفسيرٌ بالتأكيد، يستند أساسا إلى العداء المشترك للبيزنطيين ناهيك عن الإرث الإبراهيمي المشترك.
ولفنسون يضيف أن “اتصال اليهود بالمسلمين في الأقاليم الإسلامية كان سببا في نهضة فكرية عظيمة عند اليهود بقيت آثارها في تاريخ الآداب العربية والعبرية زمنا طويلا…”.
اليوم، لا يختلف اثنان في عظمة تأثير الإسلام في اليهودية مع ظهور علماء من نوع أبي يوسف يعقوب القرقساني ويوسف بن سعيد الفيومي، قبل أن تصل ذروته مع موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر، حيث لامس التوحيد الإسلامي بمقارعته للتوجه “الحلولي الوثني” في اليهودية.
لكن، بالرغم من هذا التثاقف الديني الذي وصل ذروته في الأندلس، ما زال الكثير من مسلمي أيامنا هذه يستاؤون عند القول إن الإسلام ذاته تأثر باليهودية، ليس على مستوى النصوص المؤسسة وحسب، بل أيضا على مستوى ما يعرف بـ”الإسرائيليات” التي تعج بها العديد من كتب التراث الإسلامي.
المصدر:مواقع ألكترونية